بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في المذبحة التي تجري اليوم في غزة، اليد الأكثر دموية ليست إسرائيل ولا حماس، ولكنها الغرب، صحيح أن حماس شنت هجوماً وحشياً على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة قبل أيام، لكن ذلك الهجوم لم يأتِ من عدم، أو دون سابق إنذار، لم الأمر “غير مبرر” كما تريد إسرائيل لنا أن نعتقد.
الحقيقة أن الحكومات الغربية تعرف تماماً ما يستفز الفلسطينيين في غزة، فقد كانت تلك الحكومات متواطئة بنفسها لعقود في دعم إسرائيل، التي قامت بتطهير الفلسطينيين عرقياً من وطنهم وسجن بقية السكان في في كانتونات منعزلة داخل وطنهم.
وعلى مدى 16 عاماً الماضية، لم يتراجع الدعم الغربي لإسرائيل، حتى مع قيام إسرائيل بتحويل القطاع من أكبر سجن مفتوح في العالم إلى غرفة تعذيب مروعة، يتم فيها إجراء التجارب على الفلسطينيين، وتقنين قوتهم وحرمانهم من أساسيات الحياة، ومنعهم من الوصول إلى مياه الشرب ومنع الإمدادات من الوصول إلى المستشفيات.
إسرائيل لم تكن لتفلت من العقاب لولا الدعم اللامحدود وتواطؤ الإعلام الغربي باعتبار سرقة المستوطنين للأراضي وقمع الجنود الإسرائيليين مجرد “أزمة إنسانية”.
ليست مشكلة الغرب إذن في الجهل، فقد تم إبلاغ الحكومات الغربية بتوقيت الجريمة من خلال برقيات سرية من مسؤولي السفارات الإسرائيلية، ومن خلال تقارير لا نهاية لها من تصدر عن منظمات حقوق الإنسان وتوثق الفصل العنصري الإسرائيلي، ورغم ذلك، لم يفعل ساسة الغرب يوماً أي شيء للتدخل، أو ممارسة ضغوط ذات معنى، بل على العكس، كافؤوا إسرائيل بدعم مالي وعسكري ودبلوماسي بلا حدود.
“حيوانات بشرية”؟!
بناء على كل ذلك، فالغرب ليس بأقل مسؤولية من إسرائيل عن تصعيدها الوحشي ضد غزة، فقد قرر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، تعميق الحصار على غزة من خلال وقف جميع المواد الغذائية والكهرباء والماء، وتلك جريمة واضحة ضد الإنسانية، حتى أنه وصف سكان القطاع بأنهم “حيوانات بشرية”!
لقد أثبت التاريخ أن التجريد من الإنسانية هو مقدمة لاعتداءات وأهوال قادمة، ولكن السؤال كيف رد الغرب على تصريح غالانت؟
الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أعلن أن “حرباً طويلة تنتظرنا بين إسرائيل وحماس”، ويبدو أن واشنطن تستمتع بالحروب الطويلة، لأنها مكان لتصريف صناعات الأسلحة لديها وصرف الانتباه عن مشاكلها الداخلية، فحاملة الطائرات الأمريكية في طريقها إلى إسرائيل، كما يستعد مسؤولون بالفعل لإرسال صواريخ وقنابل لاستخدامها على سكان غزة، فضلاً عن ذخيرة للقوات الإسرائيلية استعداداً للغزو البري القادم.
لقد اكتسبت إسرائيل الجرأة التي جعلتها تفصح بوضوح عن سياستها تجاه سكان غزة، فتجويع إسرائيل للمدنيين وتركهم بلا كهرباء وحرمانهم من المياه النظيفة ومنع المستشفيات من علاج المرضى والجرحى، يشكل إبادة جماعية، وهو أمر تعرفه الحكومات الغربية أيضاً
وبعد كل ذلك، سيكون هناك وفرة من التمويل الإضافي لإسرائيل، أموال لا تظهر إلا عند دعم إسرائيل ولا يرى منها المواطنون الأمريكيون المحتاجون شيئاً، بالإضافة إلى ما يقرب من 4 مليارات دولار ترسلها واشنطن أصلاً كل عام إلى حكومة إسرائيل.
ولا يريد رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، لأحد أن يتفوق عليه، ففي الوقت الذي تفرض فيه إسرائيل عقاباً جماعياً على أهل القطاع، تم رفع علم إسرائيلي عملاق ومضيء على واجهة أشهر منزل في بريطانيا، مقر سوناك في شارع 10 داونينج ستريت، كما عرض مساعدته العسكرية والاستخباراتية على إسرائيل، لمساعدتها في قصف سكان غزة على ما يبدو!
المعاناة في صمت
لم يكن من الممكن الوصول إلى لحظة الكارثة هذه دون انغماس القوى الغربية ودعمها وتوفير غطاء دبلوماسي لوحشية إسرائيل على مدى عقود، فإسرائيل لم تكن لتفلت من العقاب لولا الدعم اللامحدود وتواطؤ الإعلام الغربي باعتبار سرقة المستوطنين للأراضي وقمع الجنود الإسرائيليين مجرد “أزمة إنسانية”.
كان بإمكان القوى الغربية التوصل إلى تسوية حقيقية مع الفلسطينيين، ليس مثل اتفاق أوسلو الذي ورط القيادة الفلسطينية “الجيدة” ودفعها للتواطؤ ضد شعبها، وكانت إسرائيل ستكون مضطرة إلى التطبيع الحقيقي مع جيرانها العرب، وليس إجبارهم على قبول السلام الأمريكي في الشرق الأوسط.
بل على النقيض، أصبحت إسرائيل حرة في اتخاذ قرار تصعيدي بلا هوادة، حتى أن الإعلام الغربي روج للتصعيد باعتباره “هادئاً”، أما “التصعيد والتوتر” فهو يرتبط دائماً بالفلسطينيين، ويكون مبرراً آمناً ومريحاً لحالة القمع الدائمة التي تفرضها إسرائيل وتسميها “انتقام” في هذه الحالة.
في ظل ذلك، على الفلسطينيون أن يعانوا ولكن بصمت، لأنهم إذا ما أصدروا صوتاً، فإنهم يخاطرون بتذكير الرأي العام الغربي بمدى الازدواجية لديه، وكيف أن مناشدات القادة الغربيين للنظام العالمي القائم على القواعد تخدم مصالحهم الذاتية فحسب.
“عودة إلى العصر الحجري”
السؤال هنا، إلى ماذا يمكن أن يؤدي هذا التساهل اللامتناهي من جانب الغرب في نهاية المطاف؟ لقد اكتسبت إسرائيل الجرأة التي جعلتها تفصح بوضوح عن سياستها تجاه سكان غزة، فتجويع إسرائيل للمدنيين وتركهم بلا كهرباء وحرمانهم من المياه النظيفة ومنع المستشفيات من علاج المرضى والجرحى، يشكل إبادة جماعية، وهو أمر تعرفه الحكومات الغربية أيضاً.
بعد وقت قصير من فرض الحصار على غزة قبل 16 عاماً، كان قد أكد نائب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، ماتان فلناي، أن إسرائيل مستعدة لتنفيذ “محرقة”، مشيراً إلى أنه إذا كان الفلسطينيون تجنب ذلك المصير، فعليهم التزام الصمت في سجنهم!
خلاصة القول، أن سكان غزة يواجهون طريقًا بطيئًا نحو المحو، والتي يمولها ويمكّنها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فأيديهم هي الملطخة بدماء غزة!
وبعد 6 سنوات، صرحت النائبة آنذاك، إييليت شاكيد، والتي صارت وزيرة بعد ذلك، بأن جميع الفلسطينيين في غزة هم “الأعداء” بما في ذلك كبار السن والنساء والأطفال، وكل شبر في غزة، فمن المعروف أن دعوات بعض قادة إسرائيل تحث على قتل أمهات المقاتلين الفلسطينيين حتى لا يتمكنوا من إنجاب المزيد من “الثعابين الصغيرة”.
خلال انتخابات عام 2019، قام بيني غانتس الذي كان زعيم المعارضة آنذاك قبل أن يصبح وزير الدفاع الإسرائيلي، بحملته باستخدام مقطع فيديو يتباهى فيه بكونه كان رئيساً للجيش، ويصفها بقوله “أُعيدت أجزاء من غزة إلى العصر الحجري”.
وفي عام 2016، وصف جنرال آخر يدعى يائير جولان، الذي كان في ذلك الوقت الرجل الثاني في قيادة الجيش الإسرائيلي، التطورات في إسرائيل بأنها تعكس الفترة التي سبقت المحرقة في ألمانيا، الأمر الذي علق عليه الجنرال المتقاعد عميرام ليفين بأن إسرائيل أصبحت أشبه بألمانيا النازية، وأضاف “إنه أمر مؤلم، إنه ليس لطيفًا، ولكن هذا هو الواقع”.
دماء غزة
طوال سنوات، راقب الغربيون المشهد في غزة، من جوع ومياه ملوثة وحرمان من الكهرباء والرعاية الطبية المناسبة، وفوق ذلك قصف متكرر ومروع، فمن جهة يقول قادة الغرب أنهم يتألمون لتلك التفاصيل، ومن الجهة الأخرى، وبذات الفم، يهتفون لإسرائيل، ويتحدثون عن “روابط غير قابلة للكسر” وعن “حقوق لا تقبل الشك” وعن “الدفاع عن النفس”.
السلوك الغربي هو أقرب لترديد صدى شخصيات مثل غالانت، الذي لا يرى الفلسطينيين بشراً، ولا يرى لهم حقاً في النضال من أجل حريتهم وكرامتهم، ولم يكونوا شعباً يقاوم الاحتلال وسلب الممتلكات، وذلك بموجب القانون الدولي، ولكن مهلاً، لا يحتفي العالم الغربي بتلك القوانين إلا عندما يتعلق الأمر بـ الأوكرانيين.
الفلسطينيون في نظر الغرب إما ضحايا أو مؤيدون “للإرهابيين” فقط، وعلى هذا النحو، فقد يعاملهم الغرب وكأنهم قد فقدوا أي حق في معاملتهم كبشر، ولذلك يتوقع السياسيون ووسائل الإعلام الغربية أن يبقى الفلسطينيون في غزة داخل غرفة التعذيب يعانون بصمت، حتى لا تهتز ضمائر الغرب.
خلاصة القول، أن سكان غزة يواجهون طريقًا بطيئًا نحو المحو، والتي يمولها ويمكّنها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فأيديهم هي الملطخة بدماء غزة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)