ليلة أخرى من الرعب في غزة… ويوم آخر من الصمت العالمي

بقلم أحمد نجار

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة فجراً عندما نهضتُ من سريري وأنا شبه نائم لأشرب كوبًا من الماء، إنه فعلٌ بسيطٌ وتلقائي غير مُدروس، وقد انتابني التردد حين كنتُ أمد يدي إلى هاتفي خشية أن يُبقيني التحقق منه مستيقظًا، وليتني قاومتُ فضولي، فقد أضاءت الشاشة برعب غمرني، غزة مرةً أخرى، إنها مجزرةٌ أخرى.

في البداية، كانت أعداد الشهداء غير مؤكدة، 100 شهيد ثم 200 ثم 300 لكنني كنتُ أعرف، العدد في ازديادٍ دائم، وهذه المرة، لن يتوقف، ربما يزيد عن 350 أو 400 أو 450، أجل، في ساعتين فقط، أباد الاحتلال أكثر من 450 روحًا بريئة.

لقد خفق رأسي بشدة، وضاق صدري، واجتاحتني موجة من الغثيان وأنا أحدق في الصور، جثث ملفوفة بأكفان بيضاء، أطفال ملطخون بالغبار والدماء، آباء يتشبثون بأبنائهم الموتى، أمهات يصرخن في ظلمة الليل، حزنهم يبتلعه صمت عالم يرفض الاكتراث، هذه هي الصور التي ينبغي أن تهز الإنسانية في صميمها، لكنها لا تفعل ذلك أبدًا.

رعب لا ينتهي

ارتجفت يداي وأنا أبدأ بالاتصال، هذا ما أفعله دائمًا عندما تتعرض غزة للعدوان، هذا ما يفعله كل فلسطيني لديه عائلة هناك، نتصل ونتحقق ونتوسل للحصول على إجابة، خفق قلبي بشدة، عاد القلق والعجز، كجرح بالكاد بدأ يلتئم قبل أن ينفتح مجدداً، ومرة أخرى لم يُجب أحد.

حاولت مرة أخرى وأخرى، فلم يجبني أحد، أخذت معدتي تتقلص من القلق، هل كانوا بأمان؟ هل ظل منزلهم قائمًا؟ هل وصلتهم القنابل؟ الأسوأ من ذلك، أنني كنت أعلم أنه لا مكان لهم يهربون إليه، لا مأوى، لا منطقة آمنة، لا مفر.

وأخيرًا، وبعد ما بدا وكأنه دهر، أجابتني أمي، كان صوتها ثابتًا، لكنني استطعت سماع الإرهاق تحته: “ماذا نفعل؟ نحن هنا ولا مكان نهرب إليه.”

كانت أمي تحاول الاتصال بشقيقاتي لكنها لم تكن تحظى بجواب، فانقبض قلبي وحاولت الاتصال بهن بنفسي، لكن لم أصل إلى شيء، حاولت مرة أخرى، ومجدداً لا شيء، لقد كان الصمت يصم الآذان، ومع ذلك كان من المتوقع مني أن أواصل بطريقة ما يومي، أن أتصرف كما لو أن كل شيء طبيعي.

ولكن كيف يمكن لأي شيء أن يكون طبيعيًا عندما يُقتل 450 شخصًا في ليلة واحدة؟ عندما تُباد عائلات بأكملها؟ عندما يُترك الآباء والأمهات بين الأنقاض يبحثون بأيديهم العارية عن أبنائهم؟ كيف يُمكن لأي شيء أن يكون طبيعيًا وشعبي يُجوع ويُقصف ويُذبح، والعالم لا يزال يرفض اعتبارنا بشرًا؟

وبينما كنت أجلس هناك، أُحدّق في عدد الشهداء المتزايد، تساءلتُ: بما أن هذا العدد مُذهل من الأرواح البريئة المفقودة هل سأستيقظ على رسالة بريد إلكتروني تدعو إلى دقيقة صمت حدادًا على أرواحهم؟ هل سيُسارع قادة العالم إلى إدانة هذه الجريمة؟ هل ستغمر مواقع التواصل الاجتماعي بالتضامن؟ هل ستُضاء المعالم بألوان العلم الفلسطيني؟ هل سيُرفع علمنا في مبنى داونينج ستريت حدادًا؟ بالطبع لا.

وبدلاً من ذلك، سنشهد صمت المتواطئين، سيُبرر الغرب المذبحة، ويُحرّف الحقائق، ويُجرّد الضحايا من إنسانيتهم، ستُحتقر حياة الفلسطينيين، وتُمحى وتُعامل كما لو كانت بلا قيمة

فمتى سيتوقف هذا؟ لقد جاع أهل غزة، وحُرموا من الطعام والماء والدواء، وهاهم الآن يُذبحون وهم نيام، تُمطر القنابل منازلهم، ومدارسهم التي يلجؤون إليها، ومستشفياتهم التي يُكافحون فيها من أجل البقاء، كل شيء يُدمّر، وما زال العالم يرفض التحرّك.

عالم متواطئ

كم سيستغرق الأمر؟ كم من الأمهات سيُضطررن لدفن أطفالهن؟ كم من الآباء سيُضطرون لانتشال أطفالهم من تحت الأنقاض؟ كم من المقابر الجماعية يجب حفرها قبل أن يفتح العالم عينيه أخيرًا؟

نحن نرى ذلك، نرى ازدواجية المعايير، نرى النفاق، نرى كيف أن الدم الفلسطيني رخيص في نظر العالم، ونرى كيف أن الحكومات التي تُبشر بحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون هي نفسها التي تُسلح مُضطهدينا وتدافع عنهم.

الظلم لا يُطاق والقسوة لا تُوصف، وليس الفلسطينيون في فلسطين فقط من يُعانون من هذا الظلم، جرب أن تتحدث عن فلسطين في الغرب وستُعرّض نفسك للاعتقال والترحيل والاتهام بالإرهاب ومعاداة السامية أو حتى فقدان وظيفتك، لقد بات الإسكات عالمياً والقمع عالمياً.

لا أعرف إن كانت شقيقاتي بأمان أم لا، ولا أعرف إن كانت عائلتي ستنجو من الغارة الجوية القادمة، ولا أعرف كم ليلة سأستيقظ فيها على خبر مجزرة أخرى.

لكنني أعرف هذا: مهما حاول العالم إسكاتنا، فلن نتوقف عن الكلام، مهما حاولوا محونا، فلن نختفي، مهما حاولوا تحطيمنا، ستبقى فلسطين حية.

وحتى لو رفض العالم رؤيتنا، فنحن هنا ولن نُنسى، فكفى قصفًا لنا، كفى قتلًا لنا، كفى محوًا لنا، لا يمكن للعالم أن يستمر في تجاهلنا.

للاطلاع على المقال الأصل من (هنا)

مقالات ذات صلة