مؤسسة غزة الإنسانية… نموذج الاحتلال الجديد لتجويع الفلسطينيين تحت شعار الإغاثة

بقلم أميرة نمراوي وسارة الصلح وجيمس سميث ومادس جيلبرت

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في مارس عام 2024، كان التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي قد حذر من أن المجاعة كانت وشيكة في غزة، واليوم، يواجه ما يقرب من نصف مليون فلسطيني مستويات كارثية من الجوع، بينما يعاني بقية سكان القطاع من مستويات الأزمة أو الطوارئ، فالأطفال والمسنون والمرضى يموتون يومياً بسبب سوء التغذية والجفاف والأمراض التي كان يمكن الوقاية منها!

هذه ليست كارثة طبيعية، بل هي مزيج وحشي من العنف المصنّع واللامبالاة العالمية الجماعية، فالمجاعة في غزة ليست أضراراً جانبية، بل هي نتيجة متعمدة للسياسات التي صممتها الحكومة الإسرائيلية لتعظيم المعاناة والموت.

منذ البداية، كان استخدام الغذاء والمساعدات كسلاح أحد ركائز الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في غزة وفي جميع أنحاء فلسطين المحتلة، فمنذ أن فرضت إسرائيل حصارها على غزة قبل 17 عاماً، يعيش الفلسطينيون في ظل نظام من السيطرة الكاملة أدى إلى خنق اقتصادهم وشل البنية التحتية وتقييد حركة الأشخاص والبضائع. 

في عام 2012، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى إصدار وثيقة كانت قد صدرت في عام 2008، وكشفت عن أن وزارة الدفاع لديها كانت قد حسبت الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة لتجنب سوء التغذية الواضح مع الاستمرار في تقييد الوصول إلى الغذاء إلى أقصى حد ممكن، وكما قال أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين في عام 2006، كان من المقرر أن تظل غزة “خاضعة لنظام غذائي”.

قيود مبهمة

على مدى أكثر من عقد من الزمان، أدانت منظمات حقوق الإنسان وخبراء مستقلون في الأمم المتحدة هذا الحصار باعتباره شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، ولكن في ظل غياب التداعيات المادية، واصلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعميق وتوسيع ممارسة الحرمان المتعمد. 

لقد أصبح الحرمان والتأخير والتدمير الممنهج للمياه والغذاء والإمدادات الطبية والمأوى من السمات المميزة لهذه السياسة، بل وصل الأمر إلأى معدات تنقية المياه والعكازات والأنسولين والتي تم حظرها بسبب قيود “الاستخدام المزدوج” المبهمة التي تفرضها إسرائيل ولا يمكن الدفاع عنها.

لقد أصبح مقدمو الخدمات العامة الفلسطينيون وشبكات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية غير قادرين على تلبية حتى أبسط الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين الذين يعيشون في غزة، ففي الأشهر الأخيرة ومع تكثيف إسرائيل لهجومها الحالي، أعيد تشكيل هذا الحصار ليصبح حصاراً واسع النطاق، وكانت عواقب هذه الاستراتيجية المتعمدة كارثية، فقد أعلن خبراء مستقلون من الأمم المتحدة في منتصف عام 2024 عن أن المجاعة انتشرت في جميع أنحاء غزة.

بموجب اقتراح مؤسسة غزة GHF، سوف يضطر جميع سكان غزة الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة إلى جمع الطعام من أحد “مواقع التوزيع الآمنة” الأربعة، مع العلم بأنه لا يوجد أي موقع مقترح في شمال غزة

اليوم يموت الأطفال وكبار السن في غزة بسبب الجوع والجفاف، في حين حذرت منظمة الصحة العالمية من أن الجوع في غزة يهدد بإعاقة النمو والتطور المعرفي لجيل كامل من الأطفال بشكل دائم!

في خضم هذه الأزمة المتفاقمة، زاد التلاعب بما يسمى بالمساعدات الإنسانية، ففي ربيع عام 2024، قامت الولايات المتحدة ببناء “رصيف إنساني” قبالة سواحل غزة، فأعرب الفلسطينيون عن شكوكهم خشية أن يتم استخدام الرصيف لإخفاء العمليات العسكرية، في حين زعمت المنظمات الإنسانية أن بناءه يصرف الانتباه عن عرقلة إسرائيل المتعمدة لجميع المعابر البرية القائمة. 

وفي يونيو عام 2024، تم استخدام المنطقة المحيطة بالرصيف في غارة إسرائيلية على مخيم النصيرات للاجئين، تحت ستار مهمة إنسانية، حيث قُتل ما يقرب من 300 فلسطيني وجُرح حوالي 700 آخرين في هجوم وصفه خبراء حقوق الإنسان التابعون للأمم المتحدة بأنه مثال على الوحشية غير المسبوقة، ومع ذلك، لم يتم توجيه أي تداعيات ذات معنى إلى إسرائيل أو حليفتها الولايات المتحدة!

من ناحية أخرى، تم تقويض الجهات الفاعلة الإنسانية بشكل متكرر، وأبرزها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، الأمر الذي يمثل تكتيكاً آخر في حرب الاستنزاف هذه. 

لقد لعبت الأونروا منذ فترة طويلة دوراً محورياً في توزيع المساعدات وتوفير الخدمات الأساسية في جميع أنحاء غزة، ولكن في الأشهر الأخيرة، تعرضت الأونروا لحملة مكثفة شملت هجمات مباشرة على موظفيها وسحب التمويل والحظر الذي فرضه الكنيست الإسرائيلي، وهي خطوة غير قانونية وغير مسبوقة في تاريخ الأمم المتحدة.

“الجوع حتى الخضوع”

لقد أدى هذا الضعف في البنية التحتية المدنية والإنسانية في وقت تشتد فيه الحاجة إلى زيادة عزلة السكان الفلسطينيين في غزة، مما عزز الاعتماد على خطط المساعدات التي تسيطر عليها جهات خارجية وغير خاضعة للمساءلة.

لقد كان آخر مخطط إسرائيلي تنطبق عليه هذه المواصفات هو مؤسسة غزة الإنسانية التي تم تشكيلها حديثاً بدعم من تل أبيب وواشنطن، حيث تم إنشاء المؤسسة الإنسانية العالمية بهدف الإشراف على توزيع المساعدات في جميع أنحاء غزة، سعياً لتهميش جميع الهياكل القائمة بما في ذلك الأمم المتحدة.

وقد أدان متحدث سابق باسم الأونروا هذه المبادرة واصفاً إياها بأنها “غسل للمساعدات”، وهي استراتيجية تهدف إلى إخفاء حقيقة أن “الناس يتم تجويعهم حتى يخضعوا”. 

بموجب اقتراح مؤسسة غزة GHF، سوف يضطر جميع سكان غزة الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة إلى جمع الطعام من أحد “مواقع التوزيع الآمنة” الأربعة، مع العلم بأنه لا يوجد أي موقع مقترح في شمال غزة، مما يعني أن أولئك الذين ما زالوا يعيشون هناك سوف يضطرون إلى النزوح جنوباً من أجل الوصول إلى المساعدات، وبذلك يُعتبر الحرمان من المساعدات كوسيلة لنقل السكان قسراً جريمة ضد الإنسانية. 

لم يشر الإعلان الرسمي لمؤسسة غزة إلى هجمات إسرائيل المتكررة على مراكز توزيع المواد الغذائية والمخابز وقوافل المساعدات الموجودة مسبقاً، والتي قُتل فيها مئات الفلسطينيين أثناء محاولتهم إطعام أسرهم أو العرقلة الإسرائيلية المتعمدة للنظام الإنساني الموجود مسبقاً!

من جهة أخرى، يعزز هذا الشكل من أشكال الرقابة على المساعدات الحصار بدلاً من تخفيفه، فالحلول غير الملائمة وغير الإنسانية، مثل إسقاط الإمدادات من الجو أو الطرود الغذائية المشروطة، لا تفعل شيئاً أكثر من الإبقاء على وهم الاهتمام الإنساني، في حين تستمر أعمال العنف والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، بل ويلعب فيها مرتكبو الحرمان دور المنقذ في وقت يواصلون فيه تجويع السكان ودفعهم إلى النزوح والاستسلام!

يجب على منتقدي مؤسسة الإغاثة العالمية وخطط إسرائيل الأخيرة للتطهير العرقي القائم على المساعدات أن يدركوا التاريخ الطويل للقوة المحتلة في استغلال المساعدات واستخدامها كسلاح

هذا ليس نقداً هامشياً، فقد وصف منسق الإغاثة الطارئة التابع للأمم المتحدة، توم فليتشر، الخطط التي طرحتها مؤسسة الإغاثة الإنسانية بأنها “ورقة التوت لمزيد من العنف والنزوح”.

رغم الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في يناير عام 2024، والذي طالب بحماية فورية للمدنيين في غزة وتوفير المساعدة الإنسانية، إلا أن الوضع استمر في التدهور بشكل حاد، فقد كشفت دراسة استقصائية أجريت في يناير عام 2025 لـ 35 منظمة إنسانية تعمل في غزة عن إجماع ساحق، حيث أفاد 100% بأن النهج الذي اتبعته إسرائيل كان إما غير فعال أو غير كافٍ أو أعاق إيصال المساعدات بشكل ممنهج. 

لقد كان فشل المجتمع الدولي في التصرف بشكل حاسم سبباً في تصاعد هذه الأزمة التي كان من الممكن التنبؤ بها، فهي ليست أزمة إنسانية بل أزمة سياسية تتسم باللامبالاة والإفلات من العقاب، كما تم تجاهل التحذيرات حول سوء التغذية الجماعي وانهيار البنية التحتية الصحية والاجتماعية في غزة لسنوات، ولذلك فإن هذه المجاعة التي تصيب الآن السكان الذين حُرموا بشكل ممنهج من الغذاء لا ينبغي أن تكون مفاجئة لأحد.

إن تحويل المساعدات والغذاء إلى أسلحة في غزة ليس حادثاً مأساوياً، ولكنها كانت نتيجة منظورة ومرتقبة للحصار المصمم أصلاً للسيطرة والتهجير، ففشل الدول والهيئات المتعددة الجنسيات في وقف هذه العملية ليس مجرد نتيجة لبيئة سياسية معقدة بل هو فشل في الإرادة والمساءلة والحوكمة العالمية.

يجب على منتقدي مؤسسة الإغاثة العالمية وخطط إسرائيل الأخيرة للتطهير العرقي القائم على المساعدات أن يدركوا التاريخ الطويل للقوة المحتلة في استغلال المساعدات واستخدامها كسلاح، فمن خلال القيام بذلك، يمكننا أن نبتعد عن الجهود الإصلاحية لضمان غطاء من السلوك الإنساني الأخلاقي المفترض، وبدلاً من ذلك فضح مجمل الطرق التي صنعت بها إسرائيل الاعتماد على المساعدات لعقود من الزمن، فقط للتلاعب بالنظام الإنساني باعتباره ركيزة أساسية لطموحاتها الاستعمارية الاستيطانية الأوسع.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة