يمكن لتمرد مجموعة فاغنر ضد الدولة الروسية أن يرتد بتداعيات هامة لا تقف عند حد عملياتها في الشرق الأوسط بل تطال أيضًا قدرة موسكو على تغيير الشبكات المالية والعسكرية التي تؤازرها القوات شبه العسكرية في المنطقة.
فقد تمكنت مجموعة المرتزقة، التي شنت تمردًا مسلحًا ليل السبت، من بناء شبكة عنكبوتية من العلاقات العسكرية والتجارية والسياسية على مدى العقد الماضي تشمل ليبيا وسوريا والسودان والإمارات العربية المتحدة.
مثلت قوات فاغنر التي قاتلت في أوكرانيا حتى وقت قريب واحدةً من القوى الحاسمة لدعم الجيش الروسي في ساحات القتال، وقدمت لروسيا مؤخرًا أول انتصار ملموس عندما استولت على مدينة باخموت الاستراتيجية.
لكن القدرات الكبيرة للمجموعة، الممولة روسياً، ربما ما كان لها أن تنمو لولا تجاربها في الشرق الأوسط وأفريقيا، فقد حاربت إلى جانب الجيش الروسي في سوريا وليبيا وتقاتل حالياً في السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
بدأت فاغنر عملياتها في إفريقيا في ليبيا، وقال أندرياس كريج، الأستاذ المشارك للدراسات الأمنية في كينجز كوليدج لندن، أن فاغنر قامت بدور الجسر للإمارات العربية المتحدة إلى هناك.
ولتجنب قوانين موسكو التي تحظر تأسيس شركات عسكرية خاصة في روسيا، أنشأت المجموعة شركات وهمية خارج البلاد تستخدمها لتمويل عملياتها ودفع نفسها إلى السلطة.
وأضاف كريج أن رأس جسرها “المهم استراتيجيًا” في ليبيا سمح للمجموعة ببناء روابط مع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي تورطت مثل فاغنر، في تمردٍ ضد الدولة السودانية.
فاغنر والإمارات
تخضع فاغنر لسيطرة يفغيني بريغوزين، الذي ظل حتى وقت قريب، حليفاً وثيقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتخضع كذلك لعقوبات من قبل الولايات المتحدة ودول أخرى بسبب شبكة من الاستثمارات التي تمت في أماكن مثل السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وبحسب كريج، فقد اعتمد الكرملين على الإمارات لتسهيل العديد من عمليات فاغنر في جميع أنحاء إفريقيا خلال عام 2018 حيث كانت في ذلك الوقت تؤدي “دور الأداة الناعمة الروسية جزئيًا إلى جانب القوة الصلبة”
وخلال العام الماضي، اتهمت الولايات المتحدة مرتزقة فاغنر باستغلال الموارد الطبيعية في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي والسودان وأماكن أخرى في القارة، الأمر الذي لم يكن ممكناً دون عون الإمارات.
وأوضح كريج:” كان بريغوجين على وجه الخصوص على علاقات جيدة مع الإمارات، وهي شريك مهم لروسيا لأن هناك الكثير من الشبكات الشخصية الخاصة بين النخبة في أبو ظبي والكرملين”.
وقال كريج إن السؤال الذي يقدّر بمليارات الدولارات الآن هو إلى أي مدى سيضغط بوتين على رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان “لتضييق الخناق” على هذه الشبكات.
وأضاف:” لن تتمكن فاغنر من العمل إذا فقدت إمكانية الوصول إلى خدمات البنية التحتية واللوجستية والمالية لتجارة الذهب التي قدمتها الإمارات العربية المتحدة”.
المصالح الاستراتيجية لروسيا في ليبيا
ومنذ عام 2019، لعب مرتزقة فاجنر دورًا حاسمًا في مساعدة القائد العسكري المنشق وأمير الحرب في شرق ليبيا خليفة حفتر للحفاظ على سيطرته على المناطق الجنوبية والشرقية في البلاد.
وفي هذا الصدد، أوضح فرحات بولات الباحث في جامعة إكستر أن:” انسحاب فاغنر دون مظلة أمنية أجنبية بديلة سيشكل تهديدا لنفوذ حفتر في شرق وجنوب ليبيا”.
فمن خلال مساعدة فاغنر، أصبح الصراع الليبي فعليًا حربًا باردة، ومن المرجح أن ينظر الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر وحكومة طرابلس المعترف بها دوليًا إلى الأحداث في روسيا وما قد يعنيه ذلك لتوازن القوى في البلاد.
وأضاف بولات:” الوجود المتنامي للكرملين منح حلفاء فاغنر تفوقاً أكبر على القوى الغربية، وانسحاب مقاتلي المجموعة قد يؤثر على المصالح الجيوستراتيجية لروسيا، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت روسيا ستسحب فعلاً مرتزقتها من ليبيا”.
وجود فاغنر في سوريا
كانت سوريا واحدة من أولى غزوات فاغنر خارج أوروبا، فقد نشرت المجموعة مرتزقة للقتال إلى جانب قوات بشار الأسد عام 2015، في نفس الوقت الذي شن فيه بوتين حملة جوية دعماً لدمشق.
وقال جورجيو كافييرو، الرئيس التنفيذي لشركة ”Washington-based geopolitical risk consultancy Gulf State Analytics”
، أنه يصعب الوصول إلى “استنتاجات قطعية” حالياً، فالأحداث الأخيرة قد تخلف أثراً هائلاً على حرب أوكرانيا وعلى “السياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط ككل”.
وتابع:” من الواضح أن ما يحدث يقوض الوحدة الروسية، وهناك احتمال أن ينظر الفاعلون في الشرق إليها بشكل مختلف”.
وتمثل سوريا واحدة من مناطق الصراع القليلة التي وثق فيها اشتباك القوات الأمريكية بشكل مباشر مع مقاتلي فاجنر.
ففي عام 2018، قتل الجيش الأمريكي ما بين 200 و 300 مقاتل موال للأسد، يعتقد أن العديد منهم من مرتزقة فاغنر، بعد أن هاجموا موقعًا عسكريًا أمريكيًا شرق سوريا التي تعتبر المحور الأساسي لإبراز القوة الإقليمية لموسكو.
وأشار يوناتان توفال، المحلل في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية (ميتفيم) إلى أنه “بغض النظر عن كيفية تطور الأزمة الأخيرة، فمن المحتم أن يتضاءل عرض القوة الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
الفراغ في السلطة ما بعد فاغنر
وفيما دفعت الحرب في أوكرانيا الروس إلى تقليص وجودهم العسكري في سوريا، فقد تأثرت فاغنر بتلك الحرب أيضًا.
وقال توفال أن المجموعة ” تكافح للحفاظ على عملياتها عبر جبهات متعددة أيضًا، مع التحدي الإضافي الذي يمثله الضغط القوي الذي تمارسه الولايات المتحدة على حلفائها في الشرق الأوسط لطرد مرتزقتها من السودان وليبيا”.
وأكد أن “السؤال الرئيسي هو ما إذا كانت هذه التطورات ستخلق فراغًا في السلطة سيسمح للاعبين الآخرين بالدخول، في حين أن الجانب السلبي لهذه الأحداث يتلخص في زعزعة الاستقرار السريع في مناطق مثل سوريا وليبيا”.
بدأ الإحساس بضعف اليد الروسية في المنطقة يظهر بالفعل، فقد أفاد موقع ميدل إيست آي البريطاني العام الماضي أن روسيا اضطرت إلى تأخير خدمة عملاء الأسلحة في الشرق الأوسط بسبب نقص الإمدادات نتيجة للحرب في أوكرانيا.
وأوضح كيريل سيمينوف، الخبير في مجلس الشؤون الدولية غير المقيم في روسيا أنه في الوقت الذي يعني فيه استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا أن أنشطة فاغنر يمكن أن تتوقف بسرعة في ليبيا ودول أفريقية أخرى، فإن هذا سيكون “أكثر صعوبة” إذا تحركت موسكو لتصفية المجموعة.
وأضاف سيمينوف:” لا توجد قوات روسية في هذه المناطق، والأنظمة المحلية تعمل بشكل مباشر مع فاغنر لا مع الهياكل الروسية الرسمية”.
وختم الخبير الروسي:” لا يمكن استبعاد أنه إذا تم قمع التمرد، وآمل أن يحدث هذا قريبًا، فقد تتحول فروع فاغنر في إفريقيا إلى هياكل مرتزقة لا يمكن السيطرة عليها تمامًا، وستقوم هي نفسها ببناء علاقات مع الحكومات المحلية دون اعتبار لموسكو”.