بقلم بيتر أوبورن
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لم يتم حتى الآن نشر أي مراجعة للكتاب الجديد للمؤرخ إيلان بابيه حول اللوبي الصهيوني، ولكن هذا الصمت ليس مفاجئاً على أية حال، فقد أصبحت مجرد الإشارة العابرة إلى اللوبي سبباً كافياً لاتهامات بمعاداة السامية واحتمال تدمير الحياة المهنية!
هكذا تم التخلص من فايزة شاهين في الشهر الماضي حيث كانت تعتبر حجر عثرة حين كانت مرشحة لحزب العمال عن مقعد تشينجفورد وودفورد جرين في لندن، حيث توقفت المحررة السياسية في مجلة نيو ستيتسمان، راشيل كونليف، عند الأمر وكتبت: “كانت هناك شكاوى مزعومة حول إعجابها بتغريدة تنتقد اللوبي الإسرائيلي فاتهمت بمعاداة السامية”، ثم ظهرت شاهين على شاسة التلفاز باكية تعتذر!
لم يكن لديها فرصة للاختيار بطبيعة الحال، ولكنها قامت لاحقاً في عام 2020، بالاستشهاد بادعاء أن “اللوبي الإسرائيلي” كان وراء شكاوى معاداة السامية مما يؤكد استخدام معادية السامية بطرق غير قانونية.
في بريطانيا، وصف إدوين مونتاجو، وهو واحد من أوائل اليهود الذين خدموا في مجلس الوزراء البريطاني، الصهيونية بأنها “عقيدة سياسية ضارة”، وهي عبارة لو استخدمت اليوم لأدت إلى الطرد من حزب العمال في عهد كير ستارمر!
في بريطانيا، قليلون هم من يستطيعون تحدي العقيدة الرسمية القائلة بأن مناقشة اللوبي الإسرائيلي تهمة، ولكن بابيه كان من أبرز “المؤرخين الجدد” الذين رووا قصة تأسيس إسرائيل وتعرض لإدانة في الكنيست بعد نشر كتابه الذي أثار الجدل بعنوان “التطهير العرقي في فلسطين” عام 2006، حتى دعا وزير التعليم الإسرائيلي جامعة حيفا إلى إقالته، وبعد سلسلة من التهديدات بالقتل، غادر إسرائيل واستقر في جامعة إكستر في بريطانيا.
استهداف السياسيين والصحفيين
أوقفت دار النشر الفرنسية الشهيرة فايارد مؤخراً توزيع كتاب “التطهير العرقي في فلسطين”، وقبل أسابيع، تم استجواب بابيه لمدة ساعتين من قبل عملاء فيدراليين لدى وصوله إلى الولايات المتحدة، قبل السماح له بالدخول مع نسخ محتويات هاتفه.
لقد أنتج بابيه عملاً يحتاج إلى القراءة لفهم السياق الدولي للحرب على غزة، حيث يصف كتابه كيف استهدف اللوبي الإسرائيلي السياسيين والصحفيين على حد سواء، وأهم الأمثلة على ذلك كيف خسر اثنان من السياسيين البريطانيين وظائفهما في وزارة الخارجية، هما آلان دنكان في عام 2016 وكريستوفر مايهيو في عام 1964، كما تم استهداف وزير خارجية حزب العمال السابق، جورج براون، في الستينيات.
لقد طارد اللوبي الصهيوني في بريطانيا صحفيين مثل جيريمي بوين، الذي اضطر إلى تحمل تحقيق طويل أجرته مراسلة الغارديان السابقة في القدس، سوزان غولدنبرغ، ومحرر الغارديان السابق، آلان روسبريدجر، والمذيع جوناثان ديمبلبي على قناة بي بي سي.
من جانبها، اشتكت الحكومة الإسرائيلية مراراً وتكراراً لبي بي سي من أن المراسلة الأجنبية، أورلا غيرين، كانت “معادية للسامية” وأظهرت “تماهياً كاملاً مع أهداف وأساليب الجماعات الإرهابية الفلسطينية”، بل وأنها “ربطت تقاريرها من الشرق الأوسط بتصاعد معاداة السامية في بريطانيا”، وهي ادعاءات كاذبة.
أما في الولايات المتحدة، فيُعَد ويليام فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأطول خدمة، المثال الأقدم على تلك الادعاءات، حيث ترجع قصة التشهير به إلى عام 1974، وهي مذكورة في كتاب بابيه.
جاء في الكتاب: “تدفقت أموال اللوبي إلى خزائن الحملة الانتخابية لمنافسه، حاكم أركنساس ديل بامبرز، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، ظل الطريق إلى مبنى الكابيتول مليئاً بالمرشحين من نخبة السياسيين الأمريكيين، الذين تعرضت حياتهم المهنية للنسف بالمثل، وكانت جريمة فولبرايت هي القول بأنه “بدلاً من إعادة تسليح إسرائيل، يمكننا أن نحقق السلام في الشرق الأوسط على الفور إذا طلبنا من تل أبيب أن تنسحب إلى ما وراء حدود عام 1967”.
“لا شيء يمسهم”
إن هذه المعاملة هي علامة فارقة لدى اللوبي المؤيد لإسرائيل عن جماعات الضغط الأخرى، سواء الأجنبية أو الشركات، حيث كتب بابيه في الكتاب يقول: “أخبرني العضو السابق في لجنة الاستخبارات والأمن البرلمانية، مايكل ماتس، ذات مرة أن اللوبي المؤيد لإسرائيل في جسدنا السياسي هو أقوى لوبي سياسي، لا شيء يمسهم”.
يعود بابيه في كتابه إلى التاريخ ليرسم الأصول التي تقف وراء التحريض على عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، حيث تبدأ هذه القصة مع الإنجيليين المسيحيين قبل قرنين من الزمان، وهو ما قد يفسر استخدام بابيه لمصطلح “اللوبي الصهيوني” بدلاً من مصطلح “اللوبي المؤيد لإسرائيل” المعتاد.
يظهر التاريخ أن ارتباط هذا النوع من الدعم لإسرائيل بمعاداة السامية ليس جديداً، ففي أربعينيات القرن 19، دعا الباحث جورج بوش، وهو الجد المباشر لرئيسين أمريكيين، إلى إحياء دولة يهودية في فلسطين، معربًا عن أمله في أن يُعرض على الشعب اليهودي.
لقد كان هؤلاء المسيحيون الأوائل المؤيدون لفلسطين اليهودية، مثل الصهاينة المسيحيين اللاحقين، يتناسون الوجود الفلسطيني في ما اعتبروه الأرض المقدسة، بالنسبة لهم، لم تتغير فلسطين منذ زمن يسوع، وعلى حد تعبير بابيه، فقد “تم تصورها لاحقاً على أنها جزء عضوي من أوروبا في العصور الوسطى، حيث يرتدي شعبها ملابس العصور الوسطى ويتجولون في الريف الأوروبي”.
“كان لدى كريستوفر مايهيو، وجورج براون، وجيريمي كوربين الكثير من القواسم المشتركة، حيث كان جميعهم في مواقع قوة يمكن أن تؤثر على السياسة البريطانية تجاه إسرائيل، وكانوا جميعاً موالين تماماً للسياسة البريطانية الرسمية الداعمة لحل الدولتين لإنهاء الصراع، ولم ينكر أحد منهم حق إسرائيل في الوجود، ولم يصدر أي منهم أي تصريح معاد للسامية في حياته ولم يكونوا معادين للسامية بأي معنى للكلمة” إيلان بابيه- مؤرخ إسرائيلي
في بريطانيا، وصف إدوين مونتاجو، وهو واحد من أوائل اليهود الذين خدموا في مجلس الوزراء البريطاني، الصهيونية بأنها “عقيدة سياسية ضارة”، وهي عبارة لو استخدمت اليوم لأدت إلى الطرد من حزب العمال في عهد كير ستارمر!
لقد اعتبر مونتاجو وعد بلفور معادياً للسامية، في حين حذر من أنه “عندما يقال لليهود أن فلسطين هي وطنهم القومي، فإن كل دولة سوف ترغب على الفور في التخلص من مواطنيها اليهود، وستجد السكان في فلسطين يطردون سكانها الحاليين”.
حماية “شرعية” إسرائيل
بعد قيام إسرائيل، أصبحت المهمة الرئيسية للوبي الصهيوني هي حماية شرعية الدولة الإسرائيلية الجديدة، حيث يبين بابيه كيف أن حزب العمال كان أكثر تأييداً حتى من حزب المحافظين، ويشدد على دور حزب “البوال زيون”، الذي سبق ظهور الحركة العمالية اليهودية الموجودة اليوم، والتي سعت في الأصل إلى التوفيق بين الماركسية والصهيونية، حيث أقنعت النقابات العمالية وحزب العمل بأن إسرائيل مشروع اشتراكي.
يكتب بابيه أن حزب “البوال زيون” أصبح “جزءاً من لوبي يهدف إلى ملاحقة واعتقال أي شخص بتوجهات محتملة معادية لإسرائيل داخل حزب العمل في بريطانيا وتعزيز العلاقة بين حزب العمل ودوائره الانتخابية اليهودية المؤيدة لإسرائيل”.
وفقاً لبابيه، فقد كان رئيس الوزراء البريطاني السابق، هارولد ويلسون، الذي قاد حزب العمال من عام 1963 إلى عام 1976، “مؤيداً لإسرائيل حتى النخاع”، كما يرى بابيه أن إعجاب ويلسون بإسرائيل مثل إعجاب ديفيد لويد جورج في الجيل السابق، كان نتاجاً لتعليم مسيحي غير ملتزم، ويؤيد ذلك ربما ما أشار إليه السياسي الراحل، روي جنكينز، من أن كتاب ويلسون “عربة إسرائيل” كان “أحد أقوى المقالات الصهيونية التي كتبها غير يهودي على الإطلاق”.
“لا يمكن للعديد من الناس في القرن 21 الاستمرار في قبول مشروع استعماري يتضمن احتلالاً عسكرياً وقوانين تمييزية للحفاظ على نفسه، فهناك نقطة لا يستطيع عندها اللوبي أن يؤيد هذا الواقع الوحشي ويظل يُنظر إليه على أنه أخلاقي، وأنا آمل أن يتم الوصول إلى هذه النقطة خلال حياتنا” إيلان بابيه- مؤرخ إسرائيلي
لاحقاً، كان وزير الخارجية في حكومة إدوارد هيث التي خلفت إدارة ويلسون بعد الانتخابات العامة عام 1970، أليك دوغلاس هوم، أكثر وداً مع الفلسطينيين، حيث يعتبر دوغلاس هوم، الأرستقراطي من مدينة إيتون، مرفوضاً اليوم باعتباره شخصاً ضباباً يشكل مساراً منحرفاً في بريطانيا ما بعد الحرب.
وفقاً لبابيه، فقد “كان دوغلاس هوم وزير الخارجية البريطاني الوحيد الذي ناقش علناً حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل في عام 1948 وهو وزير الخارجية البريطاني الوحيد الذي تحدى الوساطة الأمريكية غير النزيهة لإسرائيل”، وفي أعقاب حرب 1967، أصر دوغلاس هوم على أن بريطانيا لم تعد قادرة على تجاهل “التطلعات السياسية للعرب الفلسطينيين”، كما أثار غضب إسرائيل من خلال السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء مكتب في لندن.
يقول بابيه: “دوغلاس هوم كان السياسي البريطاني الكبير الوحيد الذي فسر قرار الأمم المتحدة رقم 242 على أنه مطلب بالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط إلى حدود 5 يونيو 1967، وخلال حرب 1973، رفضت حكومة هيث تسليم الأسلحة إلى إسرائيل رغم أن ذلك في الغالب كان بسبب الخوف من الحظر النفطي العربي”.
سنوات قيادة كوربن
من خلال منظور بابيه التاريخي، يمكن فهم رؤية قيادة جيريمي كوربين لحزب العمال، فقد “كانت وجهات نظر كوربين بشأن فلسطين مطابقة تقريباً لتلك التي عبر عنها معظم الدبلوماسيين البريطانيين وكبار السياسيين منذ عام 1967، من حل الدولتين والاعتراف بالسلطة الفلسطينية، وهذا ما جعله أكثر تيار متضامن مع فلسطين”.
في ضوء ذلك، يتساءل بابيه: “لماذا اعتبره اللوبي تهديداً؟”، ثم يجيب: “لقد اشتبهوا في أنه يؤمن بصدق بحل الدولتين العادل وبأنه لن يتماشى مع ذرائع إسرائيل لعرقلته”.
يوضح بابيه كيف أن كوربن يشبه الكثير من السياسيين القدامى فيقول : “كان لدى كريستوفر مايهيو، وجورج براون، وجيريمي كوربين الكثير من القواسم المشتركة، حيث كان جميعهم في مواقع قوة يمكن أن تؤثر على السياسة البريطانية تجاه إسرائيل، وكانوا جميعاً موالين تماماً للسياسة البريطانية الرسمية الداعمة لحل الدولتين لإنهاء الصراع، ولم ينكر أحد منهم حق إسرائيل في الوجود، ولم يصدر أي منهم أي تصريح معاد للسامية في حياته ولم يكونوا معادين للسامية بأي معنى للكلمة”.
وجه بابيه في الكتاب أيضاً كلمات قاسية لتحقيق لجنة المساواة وحقوق الإنسان في معاداة السامية في حزب العمال، فكتب: “في عالم أكثر عقلانية، أو ربما بعد سنوات من الآن، إذا سُئل الناس عما ستحقق فيه مؤسسة رائدة في مجال حقوق الإنسان فيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، فإنهم سينظرون إلى انتهاك حقوق الإنسان للفلسطينيين على أنه أمر لا مفر منه، ولكن لن يكون هناك أي نقاش جدي حول ما يشكل معاداة للسامية، ولم تبذل حتى اليوم أي محاولة للتمييز بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية وانتقاد إسرائيل”.
في خاتمة قصيرة كتبها بعد 7 أكتوبر، كتب بابيه: “لا يمكن للعديد من الناس في القرن 21 الاستمرار في قبول مشروع استعماري يتضمن احتلالاً عسكرياً وقوانين تمييزية للحفاظ على نفسه، فهناك نقطة لا يستطيع عندها اللوبي أن يؤيد هذا الواقع الوحشي ويظل يُنظر إليه على أنه أخلاقي، وأنا آمل أن يتم الوصول إلى هذه النقطة خلال حياتنا”.
لقد جاء هذا الكتاب في الوقت المناسب ومن قبل أحد أفضل مؤرخي إسرائيل المعاصرين، ولكن حتى الآن، يتم تجاهله في البيئة الإعلامية والسياسية التي فرضت نظام المافيا وقانون الصمت إزاء أي نقاش حول اللوبي الإسرائيلي!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)