بقلم آلان غابون
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لن يفاجئ الحظر الأخير، الذي فرضته فرنسا على ارتداء العباءة في المدارس العامة، أي متابع للمشهد السياسي الفرنسي منذ اندلاع ما يسمى “شؤون الحجاب” لأول مرة في أكتوبر عام 1989.
في ذلك التاريخ، تم طرد 3 فتيات مسلمات من مدرستهن في مدينة كريل لرفضهن خلع حجابهن، وتلا تلك الحادثة قائمة طويلة من سلوكيات معادية للإسلام قامت بها الدولة الفرنسية والمجتمع وتتصاعد منذ ذلك الحين، فحظر العباءة ما هو إلا أحدث بند في القائمة!
إن أحد الركائز الأساسية لهذه العلمانية الفرنسية هو عدم تدخل الدولة في شؤون العقيدة الدينية، فاستقلال الأديان وحريتها هو ما ينبغي أن يكون، فهذا هو الوجه الآخر من العلمانية التي قام أتال وإدارة ماكرون بدهسها وتجاوزها، وباتوا يقررون ما هو “إسلامي”
من غير المستغرب إذن، ما أعلنه وزير التعليم المعين الحديث والبالغ من العمر 34 عاماً، غابرييل أتال، حول العباءة باعتباره أصبح الآن نصاً راسخاً ويمكن التنبؤ به، فهو يستطيع دائماً استحضار ذات الحجة الجاهزة والمضللة المتمثلة في “الدفاع عن الجمهورية” ضد “المستفزين” المزعومين، وبهذه الحالة، هم فتيات مسلمات بعمر المدارس، لأنهم “يسعون إلى زعزعة الاستقرار” على حد زعمه!
هي نفس الذريعة المصاغة في خطاب هستيري، ويستخدمها المسؤولون في الدولة في كل مرة أرادوا فيها حظر هذا أو ذاك من المظاهر المرئية أو الحضور العام للإسلام، خاصة الملابس النسائية مثل البوركيني وحجاب لاعبات كرة القدم، على سبيل المثال لا الحصر.
بعد أشهر من الجدل، أعلن أتال قراره في 28 أغسطس، في أول مقابلة تلفزيونية له، مما يشير إلى أحدث حلقة في حملة فرنسا ضد المسلمين، من باب الملابس لأنها ظاهرية، كما ينص قانون مارس عام 2004.
انحراف الأولويات
رغم تفاهة الحظر بالنسبة لحصوله في بلد أصبح رائداً عالمياً في معاداة المسلمين وتعزيز الإسلاموفوبيا، إلا أنه من جانب آخر صادم حتى بالنسبة لمن يتوقع هكذا تطورات من الدولة الفرنسية، أولاً، بسبب السرعة في إقراره من قبل الوزير الذي لم يكد يمضي على تعيينه إلا شهر وبعض أيام، ومع ذلك أصر على إقراره قبل بدء العام الدراسي الذي بدأ مؤخراً.
من المثير للسخرية، أن إقراره جعل من الأمر وكأن هناك حالة طوارئ وطنية من الدرجة الأولى، فقد دخل القرار حيز التنفيذ بسرعة أكبر مما كان لدي وقت لكتابة هذه السطور، فقد كان أتال مصراً على أنه “إذا رفضت الطالبات خلع العباءة، فلن يُسمح لهن بحضور المدرسة سيتم تطبيق ذلك بلا هوادة”.
ثانياً، يعتبر الحظر الجديد صادماً بسبب انحراف الأولويات بشكل غريب، لسنوات عديدة، كان نظام المدارس العامة ينهار في ظل مشاكل هيكلية متعددة، منها عدم كفاية الرواتب وفقدان الاعتبار الاجتماعي ومكانة المعلمين وظروف العمل الصعبة وارتفاع مستويات الإرهاق والقلق والاكتئاب، وكانت النتيجة صعوبة جذب معلمين جدد لقطاع التعليم، مما أدى في السنوات الأخيرة إلى أزمة توظيف خطيرة، ففي عام 2022، لم تتوفر إلا 4 آلاف وظيفة تدريس بدوام كامل!
من جانب آخر، لم يعد الملايين في فرنسا قادرين على الاستمرار مالياً، واضطروا إلى الادخار حتى في شراء الطعام، حيث تشير أحدث الأرقام إلى أن ما لا يقل عن 16% من إجمالي السكان الفرنسيين يعانون من الجوع، أو يضطرون إلى تبني خيارات غذائية أرخص على أقل تقدير.
المسؤولون في الدولة الفرنسية يعملون اليوم أكثر من أي وقت مضى، على تلميع أوراق اعتمادهم “المتشدد في التعامل مع الإسلام”، من خلال شيطنة الإسلام، وبالتالي إعمار حياتهم المهنية على أكتاف المسلمين في البلاد!
وبعد عام كامل من تضخم وصل في قطاعات الغذاء والطاقة إلى 15% على الأقل، صار يتعين على الفرنسيين الفقراء مواجهة ارتفاع آخر في أسعار المواد المدرسية بنسبة 23% مقارنة بالعام الماضي، ورغم كل ذلك، فقد كان أول إجراءات وزير التعليم الجديد حظر العباءة!
انتهاك العلمانية!
من الواضح أن الإجراء الذي يتم تقديمه في العادة على أنه دفاع ضروري عن “العلمانية” ضد “الهجوم الإسلامي”، هو في الحقيقة عكس ذلك، ولا يرقى عن كونه جزءاً من التزييف المستمر والمفرط في استخدام المُثل الليبرالية ونص روح العلمانية الذي صدر عام 1905، وتم تحريفه بشكل لم يعد ممكناً معه التعرف عليه، بل وتحويله إلى أسلحة معادية للإسلام من أجل استهداف المسلمين.
إن أحد الركائز الأساسية لهذه العلمانية الفرنسية هو عدم تدخل الدولة في شؤون العقيدة الدينية، فاستقلال الأديان وحريتها هو ما ينبغي أن يكون، فهذا هو الوجه الآخر من العلمانية التي قام أتال وإدارة ماكرون بدهسها وتجاوزها، وباتوا يقررون ما هو “إسلامي”، ومن هنا يأتي هجومهم على الحجاب والعباءة استناداً لقانون مارس 2004 الذي يحظر ارتياد المدارس العامة بالمظاهر الدينية.
ويظهر هذا الانتهاك للعلمانية في فصلها بين الكنيسة والدولة بوضوح أكبر، حيث أن جميع السلطات الإسلامية التمثيلية في البلاد تقريباً مثل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، صرحت أن هذه الملابس وإن كانت دينية في جوهرها لكنها تعكس أيضاً ثقافة وتقليداً شرق أوسطياً.
هذا موقف علماء الدين البارزين مثل طارق أوبرو وغالب بن الشيخ، رئيس مؤسسة الإسلام الفرنسي، والتي أنشأتها الحكومة كوجه للإسلام الفرنسي!
من عجيب المفارقات إذن، أن لدينا الآن حكومة “علمانية” ممنوعة دستورياً من اتخاذ قرار بشأن القضايا العقائدية، وتشكك في السلطات والمؤسسات الإسلامية المعينة وتتناقض معها في ما يتعلق بشؤون العقيدة الإسلامية.
دينية أم لا؟
يميل الواقع على الأرض بقوة إلى تأكيد التقييم العقائدي للسلطات الإسلامية في فرنسا، بالنسبة لوسائل الإعلام التي اهتمت في التحقيق بالموضوع، فقد ظهر أنه وإن كان هناك من يلبس العباءة كرمز للإيمان، إلا أن هناك فتيات وضحن للإعلام أنهن يلبسنها لأنها “مريحة وعملية”، وفي هذه الحالة هي فستان مثل أي فستان آخر ولا علاقة لها بالدين.
تقول ماريسا، البالغة من العمر 17 عاماً، أنها ترتدي العباء أحياناً “لأنه زي بسيط سريع الارتداء، أو لأنه يناسب مناسبات معينة” مؤكدة أنها “صارت ملابس عصرية تعرضها دور أزياء فاخرة مثل زارا واتش اند إم”، فيما ترتديه فتيات أخريات غير مسلمات وغير عربيات أحياناً لارتباطه “بغرابة استشراقية” أو أنه يجعلها تبدو كأنها “أميرة شرقية”.
استراتيجية انتخابية
الحقيقة أن هناك استراتيجية انتخابية انتهازية مستخدمة في هذا القرار تمثل دافعاً مهماً وراء قرار حظر العباءة، فإلى جانب المحاولة الواضحة لجذب الناخبين المحافظين اليمينيين، الذين يصفون الحكومة بالضعف تجاه الإسلاميين، يسعى ماكرون إلى كسر معارضته اليسارية بطرق ثلاث على مبدأ “فرق تسد.
أول الطرق هي أن الائتلاف اليساري الرئيسي الذي جمعه جان لوك ميلينشون في الحملة الرئاسية الأخيرة، ليس كتلة متجانسة، خاصة فيما يتعلق بالمسائل العلمانية، فهم منقسمون إزاء هذا الحظر بين أحزاب يسار الوسط مثل الشيوعي والاشتراكي الذين يدعمون الحظر واليسار الذي يحارب بوضوح أكبر توجهات الإسلاموفوبيا.
أضف إلى ذلك، أن كل طرف من هذه الأطراف منقسم داخلياً حول هذه القضايا، وثالثاً، هناك انقسام عميق بين القادة والشخصيات البارزة في ائتلاف NUPES مثل الخلاف بين ميلينشون وكليمنتين أوتان، من جهة، و ناخبيهم الذين يؤيدون في الغالب حزب العمال فيما يتعلق بالحظر.
من هذا الباب، فإن الحظر يعتبر أداة مثالية لإضعاف المعارضة، من ناحية، يعمل على تفاقم الانقسام الداخلي داخل اليسار، ومن ناحية أخرى، يدق إسفيناً بين زعماء المعارضة الرئيسيين وعلى رأسهم ميلينشون وناخبيهم.
مما لا شك فيه أن المسؤولين في الدولة الفرنسية يعملون اليوم أكثر من أي وقت مضى، على تلميع أوراق اعتمادهم “المتشدد في التعامل مع الإسلام”، من خلال شيطنة الإسلام، وبالتالي إعمار حياتهم المهنية على أكتاف المسلمين في البلاد!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)