ما بين الإبادة الجماعية في سربرنيتسا البوسنية وغزة… ألم نتعلم شيئاً من الإرث المروع؟ 

بقلم نادينا رونك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في مركز سربرنيتسا التذكاري، ترقد رفات مسلمي البوسنة الذين قُتلوا بوحشية في يوليو عام 1995 على يد الجنود الصرب تحت قيادة مجرم الحرب الجنرال راتكو ملاديتش، ليسجل التاريخ حدثاً مروعاً في ذاكرته.

كنت أقف وسط بحر من القبور التي تحتوي على جثث الرجال والفتيان الذين تم فصلهم عن أقاربهم الإناث ومن ثم إعدامهم، وفي محاولة بشعة لإخفاء جرائمهم، قام الصرب بدفن الرفات ثم إعادة دفنها، ونثر أشلاء الجثث في مقابر جماعية متعددة، ولهذا السبب، فإن بعض القبور في النصب التذكاري لا تحتوي إلا على بقايا جثث فقط. 

استمرت الإبادة الجماعية في البوسنة على مدار ما يقرب من 4 سنوات تحت أنظار المجتمع الدولي دون أن يحرك ساكناً لإنهاء العنف، وذلك كان بحد ذاته سبباً لإدراك أن الوعد بأن “ذلك لن يحدث مرة أخرى أبداً” لم يكن حقيقياً، بل ربما يتم تطبيقه بشكل انتقائي!!

لقد تم دفن 14 ضحية أخرى خلال إحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا هذا العام، فقد تم التعرف على 11 مجموعة جديدة من الرفات، لكن “معهد المفقودين” في البوسنة والهرسك ينتظر تصريح الأسر للدفن، فالعائلات تظل على أمل العثور على رفات كاملة قبل دفن أحبائهم.

لقد كان لزيارة النصب التذكاري في سربرنيتسا تأثير عميق علي، وأنا أتذكر وعود المجتمع الدولي بأن “ذلك لن يحدث مرة أخرى أبداً”، فقد كان من المفترض أن تكون المذبحة بمثابة تذكير بعواقب الكراهية، لكن التاريخ شهد هفوات متكررة.

إن إحياء ذكرى أكثر من 8000 مسلم بوسني قتلوا في سربرنيتسا ليس مجرد تكريم رسمي للضحايا، بل هو تذكير قوي بأهوال العنف العرقي والحاجة الدائمة إلى اليقظة ضد الكراهية والتعصب.

تعد الحرب في البوسنة والهرسك الأسوأ في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ولذلك تشكل سربرنيتشا وصمة عار على جبين الإنسانية التي سمحت بحدوث الإبادة الجماعية مرة أخرى على الأراضي الأوروبية، فقد استغرق الأمر سنوات قبل أن تتمكن المحاكم الدولية من تقديم الجناة إلى العدالة.

“لن يحدث مرة أخرى أبداً؟”

استمرت الإبادة الجماعية في البوسنة على مدار ما يقرب من 4 سنوات تحت أنظار المجتمع الدولي دون أن يحرك ساكناً لإنهاء العنف، وذلك كان بحد ذاته سبباً لإدراك أن الوعد بأن “ذلك لن يحدث مرة أخرى أبداً” لم يكن حقيقياً، بل ربما يتم تطبيقه بشكل انتقائي!!

وعلى بعد 2000 كم من سربرنيتسا وبعد سنوات، تتكشف اليوم مأساة أخرى في غزة بعد 7 أكتوبر الذي جاء نتيجة لعقود من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وهذه حقيقة كثيراً ما يتم التغاضي عنها عندما يركز القادة الغربيون على أحداث 7 أكتوبر.

كثيراً ما يلقي الغرب اللوم على الشعب الفلسطيني، ويتجاهل السياق التاريخي للمعاناة التي بدأت مع وعد بلفور الذي أصدرته الإمبراطورية البريطانية، فالوحشية التي تمارسها إسرائيل في غزة لا تصنف على أنها إبادة جماعية من قبل القيادات الغربية.

من ناحية أخرى، فقد علق المستشار القانوني الإسرائيلي، تال بيكر، في إطار دفاعه عن اتهامات الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، بالقول أنه لا ينبغي إساءة استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية”، مشيراً إلى أنه تمت صياغته لوصف فظائع المحرقة، واعتبر أن تطبيق هذا المصطلح على تصرفات إسرائيل من شأنه أن يقوض أهميتها والهدف من وراء إنشائها، وهو منع فظائع مثل المحرقة.

في ظل ذلك، لن يكون ما قاله السفير الإسرائيلي لدى صربيا، ياهيل فيلان، مستغرباً حين قال: ” استخدام مصطلح القتل الجماعي في سربرنيتسا بأنه إبادة جماعية “يقلل من أهمية هذا المصطلح”. 

يعكس هذا المنظور ميلاً إلى تخصيص مصطلح “الإبادة الجماعية” حصرياً للمحرقة، مما يمنع من استخدامه في وصف فظائع أخرى، رغم أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة كانت قد قضت بأنها إبادة جماعية في عام 2004، وأدانت محكمة العدل في عام 2007 صربيا لفشلها في منع الإبادة الجماعية.

النفاق الغربي 

أعتقد أننا جميعاً بتنا نعلم بأن “ذلك لن يحدث مرة أخرى أبداً” وعد يطبق بشكل انتقائي، وذلك واضح من خلال دراسة الفظائع الجماعية التي ارتكبت في العقود الأخيرة، فعلى سبيل المثال، فشل المجتمع الدولي في التدخل في الوقت المناسب لمنع المذبحة التي راح ضحيتها نحو 800 ألف من التوتسي والهوتو أثناء الإبادة الجماعية في رواندا. 

إرث الإبادة الجماعية في سربرنيتشا يجب أن يكون بمثابة عبرة لتشكيل عالم أكثر تعاطفاً وعدالة وليس عالماً يتفرج على غزة وهي تُباد!

واليوم تؤكد الحرب على غزة على أن هناك هفوة كبيرة في وعد أن “ذلك لن يحدث مرة أخرى أبداً”، حيث تذبح إسرائيل الفلسطينيين وتدمر تراثهم الثقافي لجعل الأمر يبدو كما لو أنهم لم يوجدوا أبداً على أرضهم.

يمكن القول أن المصالح الوطنية والتحالفات الجيوسياسية هي التي تحدد مدى التدخل الدولي وطبيعته، فالدول أكثر ميلاً إلى التدخل أو التزام الصمت بناءً على مصالحها الاستراتيجية، وفي حالة البوسنة، فقد تم تجاهل محنة مواطنيها، ذوي الأغلبية المسلمة خلال التسعينيات، كانت الأولوية تقسيم البوسنة وليس التوقف عن إراقة الدماء، وذلك ما يحدث الآن تماماً في غزة.

علاوة على ذلك، فإنه ومن خلال قراءة تاريخ الإبادات التي حصلت في العقود الأخيرة، يظهر تفاوت في استجابات الدول الغربية مما يؤكد على أن العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية غالباً ما تطغى على الضرورة الأخلاقية العالمية لمنع الإبادة الجماعية أو المعاقبة عليها.

الحقيقة أن مصداقية الغرب تعثرت في غزة هذه المرة، فلن تتمكن أي دولة غربية من الادعاء بأن لديها سلطة أخلاقية للتنديد بانتهاكات حقوق الإنسان، فلن تتمتع أي دولة غربية مرة أخرى أبداً بالسلطة الأخلاقية بينما يتم بث الوحشية على الهواء مباشرة على شاشات التلفزيون.

لا شك أن هذا النفاق الغربي يقوض مبادئ العدالة والإنسانية التي يدعي الغرب أنه يؤيدها، فالإبادة الجماعية في سربرنيتسا هي تذكير مروع على قدرة الإنسان على ارتكاب الجرائم والعواقب الكارثية المترتبة على الكراهية والتعصب. 

يؤكد هذا الفصل المظلم من التاريخ على ضرورة اليقظة في حماية حقوق الإنسان ومنع وقوع مثل هذه الفظائع في المستقبل، وذلك من خلال الالتزام بالتعليم والوعي والعدالة، حيث يمكننا أن نسعى جاهدين لخلق عالم لا تتكرر فيه مثل هذه الفظائع أبداً، فإرث الإبادة الجماعية في سربرنيتشا يجب أن يكون بمثابة عبرة لتشكيل عالم أكثر تعاطفاً وعدالة وليس عالماً يتفرج على غزة وهي تُباد!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة