أفادت مصادر مطلعة أن مصر حذرت الولايات المتحدة أكثر من مرة بأن هدف إسرائيل المعلن المتمثل في إخراج حماس من حكم قطاع غزة هو هدف غير واقعي، في وقت ترفض فيه القاهرة تولي دور أمني محتمل مستقبلاً في القطاع المحاصر بالإضافة إلى رفض الدعوات الإسرائيلية لقبول التهجير القسري للفلسطينيين.
وتعكس تحذيرات مصر رغبتها في إنهاء الحرب الدائرة عبر حدودها بشكل أسرع، كما تؤكد أيضاً أن القاهرة ربما اتخذت موقفاً أكثر حزماً تجاه الصراع خلافاً لما توقعه بعض المسؤولين الإسرائيليين والغربيين.
ويرى خبراء أن الضغط الذي تمارسه إسرائيل من أجل التهجير القسري للفلسطينيين من غزة أدى إلى زيادة إصرار مصر على الرفض، مما يكشف عن المخاوف المصرية من أن تؤدي حرب طويلة الأمد إلى زعزعة استقرار منطقة سيناء، خاصة مع تضامن المصريين الشعبي الواسع مع القضية الفلسطينية.
“إن الرد الذي يواجهه السيسي تجاه التهجير القسري يأتي أولاً وقبل كل شيء من داخل الجيش، فبالنسبة للجيش المصري، سيناء خط أحمر” خالد فهمي- الخبير في شؤون مصر بجامعة تافتس
يرى الدبلوماسي المصري، أيمن زين الدين، “أن الحرب وتصرفات وتصريحات إسرائيل الأكثر عدوانية، جعلت مصر ومعظم الدول العربية تعيد النظر في سياساتها تجاه إسرائيل”، وأضاف أن ” الخطة الإسرائيلية لطرد الفلسطينيين من غزة أظهرت أن إسرائيل يمكن أن تشكل تهديداً مباشراً على الأمن القومي المصري”، ومن هنا رفضت مصر الخطة بقوة.
في إطار الرد الرافض بقوة، هدد الرئيس عبد الفتاح السيسي بإطلاق العنان لمواطنيه الذين قال أنهم “سيخرجون ويحتجون بالملايين، إذا طُلب منهم القيام بذلك” ويقصد ضد التهجير القسري، كما قال أن بلاده “أكدت وكررت رفضها التام للتهجير القسري للفلسطينيين ونزوحهم إلى الأراضي المصرية في سيناء، فذلك ليس إلا تصفية نهائية للقضية الفلسطينية”.
مصادر خارجية لأمن غزة
على الجانب الآخر، يرى محللون أن قبول تدفق اللاجئين سيكون مربحًا للحكومة المصرية التي تعاني من ضائقة مالية، خاصة بعد تسريب خبر عن نية إسرائيل طرح خطة لشطب ديون مصر الدولية من خلال البنك الدولي والاتحاد الأوروبي.
وقد علقت مديرة برنامج مصر بمعهد الشرق الأوسط، ميريت مبروك، على ذلك قائلة “يمكنك المراهنة على أن مصر لو وافقت على ما تريده إسرائيل، لما كانت في حالة ضائقة اقتصادية شديدة كما هي اليوم، لكن مصر ردت بقوة، لا أعتقد أن الحوافز المالية ستؤثر على ذلك القرار الرافض”.
رفضت مصر أيضًا خطة كان قد نشرها موقع “ميدل إيست آي” سابقًا، ناقش فيها مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون إدارة مصر للأمن في قطاع غزة وتولي السلطة الفلسطينية المسؤولية المباشرة في حال هزيمة حماس.
يعتقد أن السبب الرئيسي الذي دفع إدارة بايدن إلى تجاهل الضغط الإسرائيلي من أجل التهجير القسري، هو أنهم بدأوا يدركون أنه من الحماقة الضغط على مصر، فالضغط عليها في قضايا التعاون الأمني، قد يجعل الحياة صعبة للغاية بالنسبة للإسرائيليين
ويرى زين الدين أنه ما من شك “في أن مصر لن تسمح لإسرائيل بالاستعانة بمصادر خارجية لتوفير الأمن في قطاع غزة، فهذا يجعل مصر متواطئة في الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني”، مشيراً إلى أن الخطة تشكل “تهديدًا مباشرًا” للأمن القومي المصري.
“سيناء خط أحمر”
ويعتبر الخبير في شؤون مصر بجامعة تافتس، خالد فهمي، أن رفض مصر لمزيد من التورط في قطاع غزة يكشف عن سوء فهم لدى إسرائيل والعواصم الغربية لكيفية نظر القاهرة إلى أولوياتها في غزة.
الحقيقة أن مصر لديها شبكة من المصالح في القطاع المطل على البحر الأبيض المتوسط، والذي احتلته إسرائيل على مرحلتين بين عامي 1948 و1967، ففي الماضي، سبقت التوترات في غزة اندلاع عنف بين مصر وإسرائيل، وعلى رأسها أزمة السويس عام 1956.
واليوم، تخشى مصر أن يؤدي تدفق الفلسطينيين إلى زعزعة استقرار سيناء، حيث أمضت الحكومة سنوات في محاربة الجماعات المحلية المتمردة التابعة لداعش فيها، كما ترفض القاهرة خوفاً من أن يؤدي تدفق اللاجئين إلى قيام المقاتلين الفلسطينيين بإنشاء قواعد لمهاجمة إسرائيل كما فعلوا في لبنان، الأمر الذي قد يفضي إلى عمل عسكري إسرائيلي مباشر في شبه الجزيرة الصحراوية.
يقول فهمي “إن الرد الذي يواجهه السيسي تجاه التهجير القسري يأتي أولاً وقبل كل شيء من داخل الجيش، فبالنسبة للجيش المصري، سيناء خط أحمر”.
لقد لقي الاحتجاج المصري الواضح صدى لدى واشنطن، حصلت على إثره القاهرة على تعهد علني من الرئيس جو بايدن بأن الفلسطينيين في غزة لن يتم تهجيرهم، وفي العمق، يؤكد وعد بايدن على اعتراف واشنطن بدور القاهرة في الحرب الدائرة الآن.
أهم أدوار القاهرة السيطرة على معبر رفح، المدخل الوحيد لغزة الذي لا تسيطر عليه إسرائيل بشكل مباشر، والممر الرئيسي لإدخال المساعدات الدولية إلى غزة وإخراج الرعايا الأجانب المحاصرين، وقد ربطت مصر تعاونها في إخراج الأجانب بتسليم المساعدات.
تمسك مصر العصا من المنتصف، من أجل الاستفادة من العلاقات مع كل من حماس وإسرائيل، فمن جانب شكرت إسرائيل مصر على لعب “دور رئيسي” في إطلاق سراح الرهينتين الإسرائيليتين المحتجزتين لدى حماس، وفي الوقت نفسه، “أثنى” الزعيم السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، على مصر لرفضها التهجير القسري للفلسطينيين
وأوضح الأستاذ في كلية الشؤون العالمية والسياسة العامة بالجامعة الأمريكية في القاهرة، كريم حجاج، أن الأولوية القصوى لمصر حالياً هي التوصل إلى وقف لإطلاق النار وتعزيز المساعدات الإنسانية إلى غزة من أجل درء احتمالات التهجير القسري.
ملف غزة
إضافة إلى ما سبق، فإن المخابرات العسكرية المصرية هي من تدير “ملف غزة”، ولديها علاقات مع حماس، التي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية.
ويعتقد أن السيسي، الذي أدار ملف غزة سابقاً عندما كان رئيساً للمخابرات العسكرية، ربما يكون على دراية جيدة بحماس كفصيل ينحدر فكرياً من مدرسة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، وهو الذي وصل إلى السلطة من خلال انقلاب مدعوم من الجيش عام 2013 بعدما أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر، محمد مرسي.
كانت أحد أولى الإجراءات التي اتخذها السيسي، هي تضييق الخناق على الحدود مع غزة المحاصرة عما كانت عليه من انفتاح خلال عهد مرسي، وقامت حكومته بإجلاء عشرات الآلاف من الأشخاص من رفح المصرية بهدف توسيع المنطقة العازلة مع غزة، كما دمرت مصر أكثر من 3000 نفق يؤدي إلى القطاع، وقامت ببناء جدار خرساني مسلح بارتفاع 20 قدمًا لمنع بناء المزيد.
يرى فهمي أن اندلاع الحرب جاء في وقت كانت فيه حكومة السيسي بدأت بالانفتاح على فكرة إدارة العلاقات مع حماس، يقول “الجيش المصري يعرف أن لحماس وجودا في غزة يتجاوز المقاتلين”، وكلما طالت الحرب الدائرة الآن، كلما احتاجت إسرائيل إلى التعاون المصري من أجل خنق حماس.
تجدر الإشارة إلى أنه رغم حملة مصر على الأنفاق، فقد واصلت حماس استخدام الطريق المصري لتهريب الصواريخ بعيدة المدى، بعد أن كان التنظيم يعتمد في السابق على صواريخ يعتقد أنها مهربة من اليمن والسودان ومصر، ويقول الجيش الإسرائيلي أن الأنفاق كانت نشطة في الفترة التي سبقت هجوم 7 أكتوبر، وأن حماس قد تحاول شن هجمات جديدة على إسرائيل من خلال التسلل إلى البلاد من الجانب المصري من الحدود.
يعتقد أن السبب الرئيسي الذي دفع إدارة بايدن إلى تجاهل الضغط الإسرائيلي من أجل التهجير القسري، هو أنهم بدأوا يدركون أنه من الحماقة الضغط على مصر، فالضغط عليها في قضايا التعاون الأمني، قد يجعل الحياة صعبة للغاية بالنسبة للإسرائيليين.
“مستعدون للتضحية بالملايين”
في الوقت الحالي، تمسك مصر العصا من المنتصف، من أجل الاستفادة من العلاقات مع كل من حماس وإسرائيل، فمن جانب شكرت إسرائيل مصر على لعب “دور رئيسي” في إطلاق سراح الرهينتين الإسرائيليتين المحتجزتين لدى حماس، وفي الوقت نفسه، “أثنى” الزعيم السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، على مصر لرفضها التهجير القسري للفلسطينيين.
يذكر أنه في عام 2008، قامت حماس بتفجيرات أحدثت ثقوباً في سياجها مع مصر وسمحت لآلاف الفلسطينيين بالتدفق إلى سيناء كنوع من تحدي الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، وقتها صرح الرئيس المصري حسني مبارك بأنه أعطى الأمر “بالسماح لهم بالدخول لتناول الطعام وشراء الطعام، ثم يعودون، طالما أنهم لا يحملون أسلحة”، وفي المقابل، شدد رئيس الوزراء المصري الحالي، مصطفى مدبولي، أن الحكومة “مستعدة للتضحية بملايين الأرواح لضمان عدم تعدي أحد على أراضينا” على حد قوله.
تركز القاهرة على إدخال المساعدات إلى غزة بسبب خوفها من تكرار ما حدث عام 2008، الأمر الذي قد يضع جيش السيسي في مواجهة الفلسطينيين الذين يتضورون جوعاً بسبب الحصار الإسرائيلي، كما أن مصر لم تسمح حتى الآن إلا لبعض الجرحى الفلسطينيين بعبور الحدود، ثم أغلقت المعبر مجدداً بعد استهداف سيارة إسعاف في قطاع غزة بقصف إسرائيلي.
“ليالي بدون نوم في القاهرة”
مثل غيره من الحكام العرب، حاول السيسي مجاراة موقف شعبه تجاه إسرائيل، فسمح بالمظاهرات، حتى شق بعض المتظاهرين طريقهم نحو ميدان التحرير في القاهرة وهم يرددون شعار احتجاجات الربيع العربي عام 2011 “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، الأمر الذي يشكل مخاوف لدى السيسي، فالاحتجاجات بلا سقف واضح، حتى لو بدأت لدعم فلسطين يمكنها أن تتغير لاحقاً لنطاق أوسع!
جربت مصر رسم خطوطها الحمراء ورأت أنها تحترم، حتى بات الجميع قلقاً الآن من زعزعة استقرار مصر، أو بمعنى آخر، فإن مصر قد استفادت من الحرب فعلاً
وبهذا، فإن القاهرة تتعرض “لضغوط متضاربة”، إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وحماس والشعب المصري من جهة ثانية، ولذلك تشكل الحرب مخاطر عدة على السيسي، لكنها أيضًا مكافآت محتملة مع اقتراب الرئيس المصري من إجراء انتخابات رئاسية في ديسمبر 2023، وسط أزمة اقتصادية حادة.
تطلع القاهرة إلى مكاسب مالية
قبل الحرب، كانت مصر متورطة أصلاً في تحقيق بالفساد، زعم أن الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، روبرت مينينديز، كان قد تلقى رشاوى مقابل التأثير على المساعدات العسكرية للقاهرة، ووسط ضجة هذه القضية وسجل مصر في مجال حقوق الإنسان، قام خليفة مينينديز، بن كاردين، بمنع 235 مليون دولار من المساعدات الأمنية لمصر.
خلال الحرب، قام منتقدو مصر في الكونغرس، بما في ذلك السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي، بخطوات لتعزيز العلاقات بين القاهرة وواشنطن، من خلال المضي قدمًا في ما وصفه مسؤول أمريكي سابق بأنه تأكيد “سريع استثنائي” لسفير واشنطن الجديد في مصر،
جوناثان كوهين، الذي قال أن “العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر شهدت صعوداً وهبوطاً، ولكن كلما اندلعت التوترات في غزة، تتطلع الولايات المتحدة إلى مصر، فهدف واشنطن في احتواء الصراع قد أبرز مركزية مصر في السياسة الأمريكية في المنطقة”.
وتبدو مصر الآن في وضع يمكنها من انتزاع صفقات اقتصادية من الغرب، على الرغم من رفضها قبول اللاجئين الفلسطينيين، فالولايات المتحدة وأوروبا يمكنهما الضغط على صندوق النقد الدولي لتخفيف متطلباته بشأن الإصلاح الاقتصادي في مصر، كما تتطلع القاهرة إلى زيادة قرضها من الصندوق من 3 مليارات دولار إلى 5 مليارات دولار.
ليست المرة الأولى، فقد سبق لمصر أن حصدت مكاسب اقتصادية من حروب الشرق الأوسط، ففي عام 1991، تمكنت من الحصول على إعفاء من نصف ديونها البالغة 20.2 مليار دولار للولايات المتحدة وحلفائها مقابل الانضمام إلى التحالف ضد العراق في حرب الخليج الثانية.
وهذه المرة، معظم ديون مصر مملوكة للقطاع الخاص، لذا ستبحث القاهرة عن مزايا في تعزيز ائتمانها وإبرام اتفاق لمساعدة اللاجئين مع الاتحاد الأوروبي، ويمكن لدول الخليج أيضًا تجديد ودائعها في البنك المركزي المصري، فقد جربت مصر رسم خطوطها الحمراء ورأت أنها تحترم، حتى بات الجميع قلقاً الآن من زعزعة استقرار مصر، أو بمعنى آخر، فإن مصر قد استفادت من الحرب فعلاً.
للاطلاع على النص الأصلي: هنا