في غضون أسابيع من عمليات القصف التي بدأت مباشرة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اعتادت الفنانة والمتدربة في طب الأسنان آية زقوت (23 عاماً) على رؤية أشلاء الجثث متناثرة في جميع أنحاء حيها.
وفي الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول، طالب جيش الاحتلال زقوت وسكان آخرين في شمال غزة بمغادرة منازلهم قبل الغزو البري الوشيك، لكنها بقيت هي وعائلتها في البداية قبل أن يصعد الاحتلال ضغوطه على السكان المدنيين في القطاع المحاصر.
في ذلك الوقت، أعلن وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت عن حصار كامل للأراضي الفلسطينية، وقال: “لن تكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق”، مضيفاً: “نحن نقاتل حيوانات بشرية”.
وفي الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، وصلت تهديدات الجوع وجيش الاحتلال إلى عتبة منزل زقوت، فلم يكن أمام أسرتها خيار سوى النزوح إلى جنوب غزة.
تقول زقوت لموقع ميدل إيست آي: “لم يكن بوسعنا أن نحمل سوى الأساسيات أي الملابس والضروريات، وهكذا بدأت رحلتنا إلى المجهول”.
لقد أصبحت الرحلة إلى جنوب غزة، والتي تستغرق نصف ساعة بالسيارة في ظل الظروف العادية، بمثابة تحدٍ خطير حيث كان الفلسطينيون يجرون أمتعتهم سيراً على الأقدام على طول الطرق المتضررة من القنابل.
وتتفق زقوت مع روايات أخرى أوردها موقع ميدل إيست آي سابقاً، حيث تقول أن النازحين كانوا يُستهدفون بنيران عشوائية على ما يبدو من جنود الاحتلال الذين كانوا يحيطون بهم.
وتتذكر زقوت أن جنود الاحتلال كانوا يسحبون الشبان جانباً ويرغمونهم على خلع ملابسهم، وتضيف: “كان الشهداء ممددين على الأرض، وكان هناك استهداف عشوائي، لقد أجبرنا على رفع العلم الأبيض وإشهار هوياتنا”.
وتقول زقوت، المتخصصة في فن الماندالا والصور النقطية المعقدة، أن الانتقال جنوباً كان بمثابة نهاية “حياتها القديمة”، موضحةً “لقد اضطررت إلى ترك كل ما كنت أعزه، لوحاتي التي أمضيت 10 سنوات في رسمها، وكل أدوات الرسم الخاصة بي، وغرفتي ومكتبي وسريري وممتلكاتي وذكرياتي الجامعية، وهدايا الأصدقاء وغير ذلك”.
“الحياة القديمة”
قبل أن يبدأ عدوان الاحتلال على القطاع، أكملت زقوت الجزء الأكاديمي من تدريبها في طب الأسنان في جامعة الأزهر بغزة، والتي دمرتها قوات الاحتلال بعد ذلك، وأخذت تستعد للجزء العملي من تدريبها، والذي كان سيسمح لها بالعمل كطبيبة أسنان.
في الوقت نفسه، بدأ عمل زقوت كفنانة يكتسب زخماً بين المشترين والمعارض في الخارج، حيث تقول: “إلى جانب حلمي بأن أصبح طبيبة أسنان وتصميم الابتسامات، كانت هوايتي الرئيسية منذ أن كنت في روضة الأطفال هي الرسم، وقد أحرزت تقدماً كبيراً في مجال الفن على مدى السنوات العشر الماضية”.
تتميز زقوت كفنانة بمجالين رئيسيين هما الماندالا والرسومات النقطية، والماندالا هي أنماط هندسية معقدة أو خطوط تدور حول نقطة مركزية، في حين يتم إنشاء الرسومات النقطية باستخدام قلم ذو رأس رفيع لتشكيل صور بالكامل من نقاط فردية، وهو فن ذو طابع روحي ينبع من استخدامه في التقاليد الدينية المختلفة ليرمز إلى الوحدة الأساسية للكون.
وفي حين ظهرت تصاميم الماندالا تاريخياً في معظم الثقافات، إلا أنها برزت بشكل خاص في الثقافات الشرقية، حيث جاء مصطلح “ماندالا” من اللغة السنسكريتية، ويعني “دائرة”.
وتتمتع رسومات زقوت النقطية بكونها معقدة من جانب، بسبب التفاصيل المادية والتعابير التي تحتويها، وبسيطة من جانب آخر بسبب استخدامها لوحة ألوان بسيطة تحتوي فقط الأبيض والأسود.
وتقول: “أستمتع بالكتابة عن كل لوحة، فأنا لا اصنع الفن فحسب، بل أروي أيضاً مشاعري، وغالباً ما أترك الأمر للمشاهد لتفسير أعمالي والشعور بروابط شخصية بها”.
وباعتبارها فنانة فلسطينية تنتج أعمالاً في غزة، بدأ فن زقوت يكتسب شهرة خارج القطاع قبل بدء العدوان.
وتقول: “لقد شاركت في العديد من المعارض والمشاريع في أمريكا وبريطانيا وبعت العديد من المطبوعات، وكل مشاركاتي كانت بمطبوعات للوحاتي الأصلية، وليست اللوحات نفسها”.
وأوضحت أنه حتى قبل الحرب، كان حصار الاحتلال لغزة يحرم القطاع من توفر نظام بريدي فعال، وهو ما جعل من المستحيل تقريباً إرسال أعمالها الفنية الأصلية إلى الخارج.
لقد ضاعت تلك الأعمال الأصلية مع “الحياة القديمة” التي انتهت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تلك الحياة التي أصبحت زقوت تتقبل أنها لن تعود على الأرجح.
وتقول: “أشعر الآن أن هذه الحياة أصبحت بعيدة ولم تعد موجودة، وأنا أشك أيضاً في أنها ستعود يومًا ما، آمل حقاً أن تعود، أحاول قبول الواقع إلى حد ما واستكشاف مغامرات جديدة في حياتي الجديدة”.
“الحياة الجديدة”
ونظراً لحجم الدمار والخسائر التي تكبدها كل سكان غزة تقريباً، فإن فكرة الحظ في غزة هي مفهوم نسبي، فقد استشهد أكثر من 40 ألف فلسطيني على مدى 11 شهراً من الحرب.
وحتى حظ زقوت في النزوح من غزة كان مشوباً بالحزن، فقد فعلت ذلك بمفردها، دون أسرتها، التي لا تزال تواجه المخاطر التي يفرضها عدوان الاحتلال.
“لقد اعتدنا على إعادة البناء من الدمار والبدء من جديد لأننا نحب الحياة” – آية زقوت، فنانة فلسطينية
لقد كلفها خروجها عبر الحدود المصرية بعد سبعة أشهر من مغادرتها منزلها في شمال غزة 5000 دولار، وقد جاء قرار المغادرة بناءً على طلب عائلتها، التي كانت تأمل أن تستأنف حياتها المهنية في طب الأسنان ومساعيها الفنية.
ومن حيث الإنجازات العملية، حققت زقوت آمال العائلة، فهي الآن في الشهر الرابع من تدريبها في طب الأسنان، وللمرة الأولى، ترسل لوحاتها الأصلية إلى العملاء في جميع أنحاء العالم.
وتقول: “أنا في المراحل الأولى من إنشاء مجموعة جديدة”، وقد أنهت مؤخراً ماندالا بعنوان “على هذه الأرض، ما الذي يستحق العيش من أجله؟” وهي تسمية مستوحاة من تجاربها الأخيرة في وطنها.
وتركز لوحة لم تنته منها بعد على تجربتها في الحياة في المنفى من غزة بعد انفصالها عن أحبائها، حيث تقول زقوت إنها تكافح الوحدة والشعور بالذنب.
وتضيف: “أنام بسلام بينما تتحمل عائلتي أصوات القصف، أنا أشعر بالذنب لأنني آمنة، بينما قد ينهار سقف عائلتي عليهم في أي لحظة، أشعر بالذنب لأنني أستطيع الوصول إلى المياه النظيفة والطعام، بينما تكافح عائلتي للعثور على هذه الضروريات الأساسية”.
يتفاقم هذا الشعور بالذنب بسبب القلق من عدم معرفة متى ستنتهي الحرب وإيجاد طريقة لإخراج عائلتها من غزة.
وفي هذا السياق، أصبحت منافذ زقوت الإبداعية بمثابة صمام لتنفيس المشاعر، تشرح عنه قائلةً: “سمح لي الإبداع الفني بتوجيه مشاعري وتجاربي إلى شيء ملموس وجميل، وهو ما كان علاجياً بشكل خاص خلال الاضطرابات في السنوات الماضية”.
وأضافت: “خلال الحرب والنزوح، زودني الفن بوسيلة لمعالجة مشاعري والحفاظ على الشعور بالطبيعية، لقد كان مصدراً دائماً للراحة ووسيلة للبقاء على اتصال بأحلامي، حتى في خضم الفوضى”.
وأردفت: “لم يكن الرسم مجرد شغف، بل كان جزءاً حيوياً من صحتي النفسية، حيث ساعدني على التعامل مع التوتر والحزن”.
إن هذه الوظيفة العلاجية، إلى جانب أحلامها في عكس آلام أهل غزة على المسرح الدولي، هي ما جعل آية تستمر.
في المستقبل، تتخيل زقوت أن تُعرض أعمالها في صالات العرض في جميع أنحاء العالم وأن تتمكن من السفر بحرية لحضور معارضها، بطريقة تمثل مرونة شعبها.
تنشر آية زقوت أعمالها الفنية على صفحتها على إنستغرام، وتقول: “لقد اعتدنا على النهوض وإعادة البناء من الدمار والبدء من جديد لأننا نحب الحياة”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)