بقلم سامي العريان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الوقت الذي تتحرك فيه الأحداث في غزة والضفة الغربية وفي جميع أنحاء المنطقة بوتيرة سريعة، يحاول رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن يظل على صلة بالأحداث رغم سنه الذي لم يعد يسمح له بذلك.
قبل أيام فقط، وبعد أكثر من 14 شهراً على بدء حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة، قامت قوات الأمن التابعة لعباس بقتل العديد من مقاتلي المقاومة البارزين في جنين، وذلك في محاولة لاسترضاء الإسرائيليين والأمريكيين على حد سواء!
يذكر أنه عندما أعلن دونالد ترامب في يناير عام 2020، حين كان رئيساً، عما يسمى بـ “صفقة القرن”، قال عباس معلقاً وقتها: “أريد أن أقول للثنائي ترامب ونتنياهو أن القدس ليست للبيع، وجميع حقوقنا ليست للبيع أو المساومة، نقول ألف مرة لا لا لا لصفقة القرن”.
رغم ذلك، وبعد فوز ترامب بولاية ثانية مؤخراً، اتصل عباس لتهنئته وتعهد بالعمل معه على التوصل إلى تسوية سياسية كان قد رفضها بنفسه قبل 5 سنوات!
أعقب ذلك الاتصال قيام المصريين بإبرام اتفاق بين حماس وفتح، حيث تضمن الاتفاق تعيين لجنة مستقلة من فلسطينيين بارزين ومهنيين في غزة لإدارة شؤونها وإعادة إعمارها بعد الحرب، وقد كان هذا مطلب للصهاينة وإدارة بايدن على حد سواء، وذلك من أجل إزاحة حماس عن أي دور مستقبلي في حكم غزة.
لم يكد يمضي وقت حتى تراجعت حركة فتح التي يتزعمها عباس عن موافقتها، حيث رفض الإسرائيليون أي دور أو مساهمة من حماس في مستقبل غزة، فصفقة فيها حماس لا تتطابق مع تعهد نتنياهو بتحقيق “النصر الكامل” على حماس والمقاومة، فما هي نهاية لعبة عباس وإلى أين يتجه في سنواته الأخيرة؟
“الزعيم” المختار
في العام العشرين من فترة ولايته التي من المفروض أن لا تتجاوز 4 سنوات، أعلن عباس في أواخر نوفمبر الماضي، وبعد أيام قليلة من بلوغه عامه الـ89، عن خطة لخلافته، حيث أصدر مرسوماً دعا فيه إلى تعيين القيادي الضعيف في حركة فتح، روحي فتوح، رئيساً مؤقتاً من بعده.
ويشغل فتوح البالغ من العمر 75 عاماً حالياً منصب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، الذي من المفترض أن يكون بمثابة برلمان منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى، ولكن على مدار 28 عاماً، لم يجتمع المجلس الوطني الفلسطيني إلا مرة واحدة فقط عام 2018!
من المثير للاهتمام أيضاً أن فتوح هو أيضاً هو نفس الشخص الذي شغل منصب الرئيس المؤقت بعد وفاة رئيس السلطة الفلسطينية السابق ياسر عرفات في نوفمبر 2004 حتى انتخاب عباس ليحل محله في يناير 2005.
لقد أدى أسلوب قيادة عباس إلى تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى تابعة للاحتلال الإسرائيلي ضمن ما يمكن تسميته “احتلال الخمس نجوم”، وذلك لأنه بموجبه قد أعفى النظام الصهيوني من الظهور كقوة محتلة
على مدى أكثر من عام، ظلت هناك ضغوط أمريكية مستمرة على عباس لتعيين خلف له، بحيث يكون مطيعاً ومذعناً لإسرائيل والولايات المتحدة كما كان خلال فترة ولايته الطويلة.
في مذكراتها التي صدرت عام 2011 تحت عنوان “ليس هناك شرف أعلى”، روت مستشارة الأمن القومي للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، كوندوليزا رايس، كيف اختار حفنة من الأشخاص عام 2003، بمن فيهم هي وبوش ومدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت وأرييل شارون الذي كان رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، عباس ليصبح زعيماً للشعب الفلسطيني.
خلال عام 2002، كان شارون يرفض التعامل مع عرفات، لكنه تمكن في نهاية المطاف من إقناع بوش بتهميش زعيم منظمة التحرير الفلسطينية لصالح عباس باعتباره زعيم فتح الأكثر خضوعاً واستسلاماً.
قبل تعيينه رئيساً للوزراء عام 2003، ونتيجة الضغوط الأمريكية والأوروبية، تعرض عباس لسخرية علنية من قبل عرفات، الذي أطلق عليه لقب “كرزاي فلسطين” في إشارة إلى حامد كرزاي، الرئيس الأفغاني السابق، الذي كان معروفاً في العالم العربي باعتباره دمية أمريكية!
الحقيقة أن عباس المعروف باسم أبو مازن، ارتقى إلى قيادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بشكل افتراضي تقريباً، فرغم اعتباره من الجيل الأول لمؤسسي فتح منذ انضمامه إلى الحركة مطلع الستينيات، إلا أنه لم يكن يوماً متميزاً ولم تعيينه في مناصب عليا إلا بعد عقود.
“استثمار استراتيجي”
بعد اغتيال إسرائيل لعدد من قيادات فتح الثوريين الأوائل في فترة بين السبعينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، بدأ أبو مازن يشغل مناصب أكثر أهمية داخل فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.
من جهة أخرى، فقد ساهم تبني منظمة التحرير الفلسطينية خطتها المكونة من 10 نقاط عام 1974، والتي مهدت الطريق نحو تسوية سياسية تقوم على الاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية مبتورة، تصعيد عباس الذي كان يفضل التخلي عن أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة.
وعندما فشلت إسرائيل في سحق الانتفاضة الأولى (1987-1991)، انتهجت مساراً سياسياً للحفاظ على سياساتها التوسعية والاستيطانية، وقد توج هذا المسار باتفاقيات أوسلو عام 1993.
لم يكن عباس واحداً من الفلسطينيين القلائل المفاوضين في هذه العملية فحسب، بل كان أيضاً الشخص الذي وقع فعلياً على الاتفاقيات في حديقة البيت الأبيض نيابة عن الفلسطينيين.
ليس غريباً القول بأن عملية أوسلو لم تكن سوى كارثة محكوم عليها بالفشل منذ البداية، حيث تخلى المفاوضون الفلسطينيون بقيادة عرفات وعباس عن ورقتهم الرئيسية وأقوى نفوذهم منذ البداية، وهي الاعتراف بالكيان الصهيوني على 78% من أرض فلسطين التاريخية، في مقابل
قبول إسرائيل فقط بالانخراط في عملية سياسية عقيمة كان ينبغي أن تنتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة بحلول عام 1999!
وبعد مرور أكثر من 3 عقود على أوسلو، لم يقم النظام الصهيوني بقتل ما يسمى بحل الدولتين فحسب، بل عزز خططه لإقامة “إسرائيل الكبرى”، بدءاً من زيادة عدد المستوطنين غير القانونيين في الضفة الغربية بأكثر من 6 أضعاف، أي من حوالي 115.000 في عام 1993 إلى أكثر من 750.000 اليوم.
وفقاً لتقرير مجموعة الأزمات الدولية لعام 2015، فإن معظم المسؤولين الإسرائيليين يعتبرون عباس أهم “استثمار استراتيجي” لهم، والسبب واضح بالتأكيد، ففلسفة عباس السياسية قائمة على رفض عقود من المقاومة الفلسطينية، بل وكثيراً ما كان يسخر من أي فكرة للمقاومة المسلحة ولو كانت من فتح.
قبضة أمنية وحشية
لقد أدى أسلوب قيادة عباس إلى تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى تابعة للاحتلال الإسرائيلي ضمن ما يمكن تسميته “احتلال الخمس نجوم”، وذلك لأنه بموجبه قد أعفى النظام الصهيوني من الظهور كقوة محتلة في الوقت الذي كان ينفذ فيه عمليات استيطانية عدوانية أسوأ من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
سيطر عباس بشكل كامل على الحياة السياسية الفلسطينية بدعم من الأمريكيين والإسرائيليين والجهات الفاعلة الإقليمية، فبدأ بإصدار مراسيم من جانب واحد مثل أي دكتاتور صغير في جمهورية الموز
تبنى عباس، خلال ولايته، الإملاءات الأمريكية لتغيير العقيدة الأمنية لقوات الأمن الفلسطينية من مراقبة وحماية المراكز السكانية الفلسطينية إلى قوة أمنية وحشية تعمل كخط الدفاع الأول عن المستوطنات الإسرائيلية وجيش الاحتلال ضد أي شكل من أشكال المقاومة.
ومنذ صعوده لقيادة السلطة الفلسطينية عام 2005، تبنى عباس الخطة الأمريكية بقيادة الفريق كيث دايتون لتدريب قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي انخرطت في قمع الفلسطينيين فضلاً عن الاعتقالات غير القانونية والتعذيب الذي أدى في كثير من الأحيان إلى الموت كما في حالة نزار بنات عام 2021.
أما على صعيد التنسيق مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، فقد أنشأ عباس قوة أمنية مهمتها الأساسية التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي لإحباط أي مقاومة أو عمليات ضد الاحتلال، ووصف هذه المهمة بأنها مقدسة رافضاً وقفها، رغم إدانتها من قبل الأغلبية الساحقة من الرأي العام الفلسطيني.
من ناحية أخرى، فقد خلص تقرير مفصل صدر عام 2017 إلى أن قطاع الأمن الفلسطيني يوظف حوالي نصف موظفي الخدمة المدنية، وهو ما يمثل ما يقرب من مليار دولار من ميزانية السلطة الفلسطينية، ويتلقى حوالي 30% من إجمالي المساعدات الدولية المقدمة للفلسطينيين بما فيها معظم الأموال القادمة من القطاع.
علاوة على ذلك، فقد وجدت الدراسة أن قطاع الأمن الفلسطيني قد أنفق من ميزانية السلطة الفلسطينية عليها أكثر مما أنفق على قطاعات التعليم والصحة والزراعة مجتمعة، وشمل ذلك أكثر من 80 ألف فرد، حيث تصل نسبة أفراد الأمن إلى السكان 1 إلى 48، وهي واحدة من أعلى المعدلات في العالم.
في أول لقاء لعباس مع دونالد ترامب عام 2017، تفاخر الرئيس الأمريكي باستمرار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، مشيداً بفعاليته في حماية الاحتلال الإسرائيلي وقال فيه: “إنهم يتعاملون بشكل جيد، لقد كنت في الواقع مندهشاً معجباً بمدى نجاحهم في العمل معاً بشكل جميل”.
“ديكتاتور صغير”
عندما فازت حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، قام عباس بالتنسيق مع الأمريكيين والإسرائيليين، كما أوردت رايس في كتابها، لمنع الحكومة التي تقودها حماس من القدرة على العمل كحزب منتخب ديمقراطياً.
الأهم من ذلك أن قوات الأمن التابعة لعباس وبالتنسيق مع الأمريكيين هي التي حاولت الإطاحة بحكومة حماس في غزة عام 2007، إلا أن حماس تمكنت من التغلب عليها في القطاع واستولت الأخيرة على غزة، الأمر الذي أدى فعلياً إلى نشوء حكومتين فلسطينيتين منفصلتين.
كان المسؤول في إدارة بوش آنذاك، ديفيد وورمسر، قد علق على الأمر في مقال نشرته مجلة فانيتي فير عام 2008، مشيراً إلى أن إدارة بوش كانت منخرطة “في حرب قذرة في محاولة لضمان النصر للديكتاتورية الفاسدة بقيادة عباس”، مؤكداً بأن حماس لم تكن تنوي الاستيلاء على غزة إلا بعد أن أجبرتها فتح على ذلك، وأضاف: “يبدو لي أن ما حدث لم يكن انقلاباً من جانب حماس بقدر ما كان محاولة انقلاب تم استباقها قبل أن تحدث من قبل فتح”.
من وجهة نظر إسرائيلية، فقد انتهى دوره وحان الوقت الآن للحل النهائي باختفائه من الصورة!
ومنذ هذا الصراع الداخلي، تعيش غزة تحت حصار إسرائيلي خانق دون تدخل يذكر من عباس، بل وعلى الجانب الآخر، فقد سيطر عباس بشكل كامل على الحياة السياسية الفلسطينية بدعم من الأمريكيين والإسرائيليين والجهات الفاعلة الإقليمية، فبدأ بإصدار مراسيم من جانب واحد مثل أي دكتاتور صغير في جمهورية الموز.
نصت مراسيمه غير الدستورية وغير القانونية على إقالة الحكومات وتعيين رؤساء الوزراء وإلغاء الانتخابات وإنفاق المليارات وتغطية الفساد من قبل رفاقه وأفراد أسرته وأبنائه وتعيين محكمة دستورية من أجل إقالة المجلس التشريعي الذي تقوده حماس.
كان آخر هذه المواقف المشينة هو صمته الذي يصم الآذان أثناء الأيام الأولى لحرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على غزة، في حين يواصل التنسيق الأمني بنفس القوة كما لو لم تكن هناك إبادة جماعية في غزة، بل وازدادت هجمات المستوطنين اليومية في الضفة الغربية والتوغلات الروتينية في الأقصى والمدن الفلسطينية منذ أكثر من عام.
في ظل انسداد أفق حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة رغم دخولها شهرها 15، واستعداد إسرائيل لاحتلال طويل الأمد لغزة، فضلاً عن الدفع بقوة بسياسة الضم الفعلي في الضفة الغربية، تخطط الحكومة الإسرائيلية الحالية لكيفية التخلص من عباس لصالح ترتيب أمني جديد.
بات من الواضح أن النظام الصهيوني الحالي، مصمم على فرض مشروع إسرائيل الكبرى، ولذلك فهو يريد حل مشكلته الديمغرافية الفلسطينية وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل حاسم لصالحه مرة واحدة وإلى الأبد، ولذلك لا تقتصر استراتيجية إسرائيل الكبرى على الاكتفاء بحظر الأونروا أو قتل حل الدولتين أو ترسيخ الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
تتحرك الاستراتيجية الإسرائيلية في جوهرها بقوة لإعادة تصميم جميع المؤسسات الفلسطينية ومصادر القوة التي حددت النضال الفلسطيني على مدى عقود.
بغض النظر عن قرار عباس أو ما سيحدث له على المدى القريب مع دخوله نهاية حياته، فإن إسرائيل تريد أن تتأكد من أن يكون هو آخر زعيم فلسطيني يجمع كل الألقاب التي تحدد المؤسسات الفلسطينية، من رئيس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وزعيم حركة فتح ورئيس “دولة فلسطين”.
من وجهة نظر إسرائيلية، فقد انتهى دوره وحان الوقت الآن للحل النهائي باختفائه من الصورة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)