ليلى الوعرة
تصاعدت المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد الاقتحام الإسرائيلي الأكثر دموية لمحافظة جنين في الضفة الغربية منذ سنوات، مما ترك سكان المحافظة في حالة ترقب لموعد الضربة الإسرائيلية المقبلة.
كانت آخر مرة رأت فيها أروى موسى ابنها البالغ من العمر 17 عامًا على قيد الحياة صباح الخميس، قبل أن يهرع إلى خارج المنزل في مخيم جنين للاجئين.
في السابعة من صباح يوم 26 يناير/ كانون الثاني، سمع عبد الله موسى أصوات طلقات نارية في المخيم، فقفز من سريره واندفع خارجا من الباب الأمامي “للدفاع” عن المخيم ليشهد أكثر اقتحامات الجيش الإسرائيلي دموية في الضفة الغربية منذ سنوات، لكنه لم يعد إلى المنزل قط، ووالدته لم تنم منذ مقتله.
وقالت والدة عبد الله “أبقى مستيقظة طوال الليل فقط لأدعو له، فكل ما يمكنني فعله هو الدعاء”.
“نشأ عبد الله في هذا المخيم، شاهد أصدقاءه يموتون، وشهد الهجمات العنيفة على الفلسطينيين كل يوم، استحوذ ذلك على حياته”. أروى موسى
وقالت إن ابنها تُرك ينزف على الأرض لمدة ساعة ونصف بعد أن أطلقت القوات الإسرائيلية النار عليه، حيث أغلق الجنود جميع مداخل المخيم ومخارجه، ومنعوا المسعفين من معالجة الجرحى.
وأضافت: “كان ينبغي أن يستغرق نقله إلى المستشفى دقيقتين فقط”. وتابعت ” هناك شهداء جدد كل يوم، هؤلاء لا يرحمون أحدا، لا للمسنين، ولا الشباب، ولا الأشجار، ولا البيوت، لا شيء”.
بينما كانت تدعو من أجل ابنها، قالت أروى إن عبد الله كان يعلم دائمًا أن المطاف سينتهي به “شهيدًا”، وأن نشأته وسط الكثير من الألم والموت الذي تسبب فيه الاحتلال الإسرائيلي “قد أنهكه”.
وواصلت الأم حديثها: “نشأ عبد الله في هذا المخيم، شاهد أصدقاءه يموتون، وشهد الهجمات العنيفة على الفلسطينيين كل يوم، استحوذ ذلك كله على حياته، ” لم يكن يريد الدراسة أو العمل لم يكن يريد الزواج والحصول على منزل، “لقد اهتم فقط بالمقاومة.”
منطقة الحرب
وقتلت القوات الإسرائيلية بالرصاص تسعة فلسطينيين خلال هجوم واسع النطاق صباح الخميس على مخيم جنين، وقُتل فلسطيني عاشر في وقت لاحق من ذلك اليوم بالقرب من الرام شمالي القدس.
وكان من بين القتلى الفلسطينيين طفلان: عبد الله موسى نجل أروى موسى، وأمجد عارف أبو جيس، 16 عامًا، وفقًا لمنظمة الدفاع عن الأطفال الدولية – فلسطين.
وقتلت ماجدة عبيد البالغة من العمر 61 عامًا برفقة الشابين بعد إصابتها بالرصاص أثناء جلوسها وهي تقرأ القرآن داخل منزلها.
“من هو الارهابي؟ إنه الجيش الذي يقتحم بيوت الناس ويهاجمهم”
– مقاتل من كتائب جنين
وقال مقاتل فلسطيني من كتيبة جنين، وهي مجموعة من مقاتلي المقاومة المسلحة في المخيم والتابعة لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية: “إسرائيل تقول إنها تريد السلام لكنها جعلت من بيوتنا منطقة حرب، كيف يمكننا أن نعيش بسلام بينما لا نكون آمنين في بيوتنا؟”
وتابع “نعم، نحن مقاومين ونحاربهم، لكنهم أيضا يستهدفون المدنيين العزل كما رأينا في اليوم السابق”، في إشارة إلى مقتل عبيد.
وفي الصباح وبينما كان واقفا على أرض طينية في الشارع، ينظر لبقايا منزله المتفحم الذي كان يملكه شقيقه، وصف محمد الصباغ، رئيس اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين منزله بأنه كان “منطقة حرب”.
في اليوم السابق، غُطيت الممرات على تلال مخيم جنين بالزيت، وهو تكتيك يستخدمه المقاتلون الفلسطينيون لإبطاء اقتحام القوات الإسرائيلية. واليوم، غطى الزيت بالطين حتى يتمكن السكان المحليون من القيادة عليه بأمان.
وقال الصباغ “كانت مجزرة حقيقية، كان هناك إصابات في كل مكان بالمخيم لكن لم يتم السماح لسيارات الإسعاف بالوصول إليهم”.
وأضاف أن منزله كان أحد المنزلين اللذين اقتحمهما الجنود الإسرائيليون وأطلقوا الصواريخ والمتفجرات عليهما دون سابق إنذار، وعندما عاد إلى المنزل وجد “ثلاثة قتلى من مقاتلي المقاومة”.
رمز المقاومة
أصبح مخيم جنين رمزا للمقاومة الفلسطينية بعد اقتحامات مميتة واسعة النطاق شنها الجيش الإسرائيلي في عام 2002، خلال الانتفاضة الثانية.
وأسفرت الاقتحامات حينها عن مقتل 53 فلسطينيا بينهم شقيق محمد الصباغ والعديد من المدنيين و23 جنديًا إسرائيليًا.
ويقول كثير من سكان المخيم إن أحداث صباح الخميس تردد صدى تلك المداهمة قبل 21 عاما.
بعد ظهر يوم الجمعة، على الرغم من المأساة الخطيرة التي وقعت قبل 24 ساعة فقط، قال العديد من السكان المحليين إنهم بدأوا يعتادون على مشهد الموت والدمار المحيطين بهم.
وأوضحوا أن السبب في ذلك هو كثافة الاقتحامات الإسرائيلية المميتة في المخيم.
قالت أروى، والدة عبد الله، “في كل مرة يأتي الجنود الإسرائيليون إلى المخيم، يقتلون الناس، لا يستطيع أحد احتمال ما يتعين علينا التعامل معه”، مضيفة أنها تعتقد أن الوضع سيزداد سوءا، وقالت: “الاقتحامات لن تتوقف”.
وبالمثل، تحدث الصباغ بشكل شبه عرضي عن ارتفاع عدد القتلى والاعتقالات وعمليات الهدم التي يتعرض لها الفلسطينيون في جنين على أيدي القوات الإسرائيلية.
وكان شقيقه علاء من مقاتلي المقاومة في جنين قتل بصاروخ مروحية إسرائيلي عام 2002 خلال الانتفاضة الثانية.
وأوضح الصباغ أن “كل أسرة” في مخيم جنين تأثرت بالاحتلال، فلدى كل أسرة شهيد أو معتقل سياسي أو منزل تعرض للهدم.
وقال وهو ما يزال واقفاً على أنقاض منزله “إنهم يدافعون عن حقوقهم ومنازلهم وعائلاتهم، ولم يذهب الشهداء إلى تل أبيب للمقاومة، بل الجنود هم الذين جاؤوا إلى منازلهم (منازل الشهداء) في هذا المخيم”.
“يأتون إلى منازلنا لقتلنا بدون سبب، هم المحتلون، إنهم لا يدافعون عن أنفسهم” – محمد الصباغ اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين
بعد حلول الظلام في جنين، انتشر العديد من الشبان في الشوارع حاملين البنادق، وقال مقاتل مقنع من كتائب جنين إنه خلافاً للروايات الإسرائيلية، لم يكن هو والمقاتلون معه إرهابيين.
وتابع: “المقاومة المسلحة هي إحدى الخيارات المتبقية للناس هنا، عندما تدخل قوات الاحتلال إلى مخيمنا يدخلون حاملين البنادق، ولذلك نحن ندافع عن أنفسنا بالبنادق”.
“من هو الإرهابي؟ إنه الجيش الذي يقتحم بيوت الناس ويهاجمهم، نحن ندافع عن أنفسنا وأرضنا وشعبنا وبيوتنا تحت الاحتلال”.
“إنهم يأتون إلى منازلنا لقتلنا بدون سبب، هم المحتلون، إنهم لا يدافعون عن أنفسهم كما يقولون، هذا ليس وطنهم للدفاع عنه، إنه وطننا”.
دوامة العنف
بعد اقتحام مخيم جنين يوم الخميس، قتل فلسطيني مسلح سبعة إسرائيليين في القدس الشرقية المحتلة قبل أن تقتله الشرطة الإسرائيلية.
وبعد أقل من 24 ساعة، وقع إطلاق نار آخر على مستوطنة في حي سلوان في القدس الشرقية المحتلة، مما أدى إلى إصابة مستوطنين إسرائيليين، وكان مطلق النار المزعوم فتى فلسطينيا يبلغ من العمر 13 عاما.
في عام 2022، وهو العام الأكثر دموية للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ عقود، قُتل 173 فلسطينيًا على أيدي القوات الإسرائيلية، وحوالي 34 بالمائة منهم من جنين.
ومنذ بداية عام 2023، وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، قُتل 35 فلسطينيًا على أيدي القوات الإسرائيلية، وهو ما يفوق عدد القتلى مقارنة بالأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022.
ويقول الصباغ إن على المجتمع الدولي أن يبدأ النظر في الأسباب “التي تدفع جيلاً بأكمله إلى السعي وراء الموت” قبل أن يصفوا المقاومة الفلسطينية بالإرهاب.
“المقاومة للاحتلال رد فعل طبيعي لما يحدث في فلسطين، الأطفال هنا محبطون، نحن هنا في مخيم اللاجئين منذ أربعة أجيال، ولا أمل في مستقبلهم، من غير مسموح لهم ليعيشوا حياة طبيعية ويحققوا احلامهم”.
بدأت المقاومة المسلحة في الظهور في جميع أنحاء الضفة الغربية، في غضون ذلك، تحاول إسرائيل القضاء على جيوب المقاومة المتنامية، والتي تتركز بشكل أساسي في جنين ونابلس.
ويعتقد المقاتل المقنع أن الظاهرة آخذة في الازدياد لأنها “كالشجرة، حتى لو قطفت الأوراق، فإن الجذور تستمر في النمو، مع كل ورقة تزيلها، ستنمو مائة أخرى في مكانها”، ويضيف:” لذا، حتى لو أوقعوا شهيدًا واحدًا، فسيكون هناك 100 آخرين ليحلوا محله”.
وتابع الصباغ بينما كان برفقة مجموعات من الشبان المسلحين: “هناك شهداء في كل مكان في الضفة الغربية، وبالتالي فإن المقاومة المسلحة في تصاعد”.
وقالت والدة عبد الله إنه طالما يواصل العالم غض الطرف عن معاناة أهالي مخيم جنين وبقية فلسطين، فإن الوضع سيستمر في التدهور.
وأضافت: “ماذا على العالم لو أنه شعر فقط بما نشعر به؟ ماذا سيفعل الناس لو كان أطفالهم هم الذين يُقتلون؟ لكن بدلاً من الوقوف معنا، يقف الجميع إلى جانب عدونا، نحن نقف بمفردنا”.
علقت كلماتها الأخيرة في الهواء، “لهذا السبب يضطر أطفالنا إلى المقاومة بأنفسهم، وحده الله معنا.”