يمثل القرار الأخير الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت لحظة فاصلة في تشكيل صورة الدولة العبرية وشرعيتها الدولية.
فقد أصابت مذكرات الاعتقال المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة السياسية في دولة الاحتلال على السواء بالصدمة التي تجلت في ردود الفعل الإسرائيلية ذات الطابع المتحدي لهذه القرارات، فقد اتهم نتنياهو المحكمة الجنائية الدولية بمعاداة السامية، وسار على منواله بقية الجناح اليميني في دولة الاحتلال.
ورغم أن يسار الوسط في إسرائيل لم يوجه الاتهامات إلى المحكمة بمعاداة السامية، إلا أنه اتفق مع اليمين على أن القرار غير مقبول وغير عادل ولا أساس قانوني له، لأنه وضع دولة الاحتلال وحماس على قدم المساواة في ارتكاب الجرائم أثناء الحرب.
وتشكل ردود الفعل هذه استمرارا لتنكر مجتمع الاحتلال لما يمارسه جيشه في غزة من أعمال تراها أقلية صغيرة للغاية جرائم لكن عامة المجتمع الإسرائيلي ينكرها تمامًا زاعمين أن حماس وحدها هي التي ارتكبت جرائم حرب، وليس إسرائيل، وأن ما تفعله إسرائيل في غزة هو دفاع عن النفس.
ومن وجهة نظر معظم الإسرائيليين، فإن إسرائيل لا تقتل الفلسطينيين الأبرياء بلا سبب، وإذا كانت هناك مجاعة في غزة، فهي نتيجة لسرقة حماس للمساعدات الإنسانية، وهو الزعم الذي يكرره الجيش الإسرائيلي والقنوات الرسمية الأخرى على الدوام.
ورغم أن رد الفعل هذا كان متوقعًا، إلا أن الوضع في دولة الاحتلال أكثر تعقيدًا حيث أصبحت أوامر الاعتقال ضد رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق حدثًا مهمًا ولحظة فاصلة في علاقات إسرائيل بالمجتمع الدولي والقانون الدولي.
تأسست إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة، وطرأ على القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية الكثير من التطورات، مثل حماية اللاجئين أو تجريم الإبادة الجماعية، استجابة للهولوكوست، وقد دعمت إسرائيل هذه التطورات.
غير أن مهاجمة إسرائيل للمحكمة الجنائية الدولية يضعها في خانة المعادي للقانون الدولي، ويظهرها كدولة تحاول تقويضه ومناكفة جميع مؤسساته، وهذا بحد ذاته تغيير دراماتيكي في الموقف.
ولا يقف الأمر عند المحكمة الجنائية الدولية، فمحكمة العدل الدولية تدرس الآن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، متهمة إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية.
وعلى الرغم من عدم وجود صلة مباشرة بين المؤسستين والعمليتين القانونيتين إلا أنه من المنطق الاعتقاد بأن إصدار مذكرات اعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية سيؤثر أيضًا على المداولات في محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية.
فقد صدرت مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت شخصيًا، ولكنها تشير إلى حد كبير إلى أن إسرائيل، كدولة، ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فنتنياهو وغالانت لم يرتكبا هذه الجرائم المزعومة بأيديهما بل من خلال الجيش وجهاز الدولة الذي تورط بأكمله فيها.
وعلى المدى القصير، قد يؤدي قرار المحكمة الجنائية الدولية إلى ردع القادة الإسرائيليين في الرتب المتوسطة أو العليا، مثل قادة الفرق وقادة الألوية.
فعلى سبيل المثال، صرح كبار الضباط في دولة الاحتلال علناً بأنهم منعوا المساعدات الإنسانية من الدخول إلى شمال غزة بعد بدء العملية العسكرية التي تشنها قوات الاحتلال هناك في أوائل أكتوبر/تشرين الأول، كما أعلنوا أيضاً أن الغرض من هذه العملية هو دفع السكان المتبقين للنزوح إلى الجنوب عبر ممر نتساريم.
والآن بعد صدور الأوامر، سوف يفكر الضابط في جيش الاحتلال مرتين قبل الإدلاء بمثل هذه التصريحات، لأنه قد يخشى أن يتم اعتقاله في رحلته التالية إلى أوروبا، وقد يمتنع الجندي أيضاً عن تنفيذ الأوامر التي قد تؤدي إلى المجاعة، حيث ورد ذكر ذلك بوضوح في مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية باعتباره جريمة محتملة ضد الإنسانية.
“الرفض الرمادي”
في الأمد القريب أو المتوسط، قد يوفر قرار المحكمة الجنائية الدولية إجابة لأولئك الإسرائيليين الذين يتساءلون عما إذا كانت إسرائيل ترتكب جرائم في غزة.
وبخلاف أقلية يسارية صغيرة مقتنعة بأن دولتهم ترتكب هذه الجرائم، فإن هناك مجموعة أوسع من اليهود في يسار الوسط بدأوا يشكون في سلوك جيشهم في غزة، على الرغم من دعمهم للحرب حتى الآن.
ومؤخراً، دعا تومر برسيكو، وهو باحث ليبرالي من يسار الوسط، وإران إيتزيون، نائب رئيس مجلس الأمن القومي السابق، جنود الاحتياط إلى رفض الخدمة لعدم الانخراط في التطهير العرقي في شمال غزة.
ولا نعرف عدد اليهود الذين يفكرون بهذه الطريقة، لأن وسائل الإعلام السائدة لا تمنح هذه الأصوات مساحة، ولكن نسبتهم قد تصل عددهم إلى 10 أو 15% من السكان اليهود.
ومن شأن قرار المحكمة الجنائية الدولية أن يوفر الشرعية لهذه الآراء في إسرائيل، حيث سيتمكن حملة تلك الاعتقادات من القول: “هذا ما يفكر فيه العالم عنا”.
وقد يؤدي التغيير في الرأي داخل اليسار الصهيوني إلى زيادة في رفض الخدمة في الحرب على عكس المحدودية في حالات الرفض منذ اندلاع القتال في أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى الآن.
نحن نشهد الآن في إسرائيل ظاهرة “الرفض الرمادي”، أي عدم حضور الإسرائيليين عند استدعائهم للاحتياط، وبينما كان جميع المدعوين يستجيبون لدعوة القتال في بداية الحرب، انخفضت النسبة اليوم إلى 65%.
ولا يرجع هذا “الرفض الرمادي” عادة لأسباب أخلاقية، بل يتعلق بشكل أساسي بمشاكل اقتصادية أو عائلية، ومع ذلك، فإن هذا الشكل من الرفض بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية قد يزداد.
كما يمكن أن يميز بعض الاحتياطيين بين القتال في غزة ولبنان، حيث لم تعد الحرب في غزة تحظى بشعبية لدى الجمهور الإسرائيلي، على النقيض من الحرب في لبنان، التي لا تزال تتمتع بإجماع واسع.
ويبدو أن القناعة بحقيقة أن حكومة نتنياهو قد تخلت عن قضية الأسرى المائة وواحد المحتجزين في غزة يمكن أن تزيد من حدة المعارضة للتجند.
الدولة المنبوذة
وفي الأمد البعيد، وعلى نحو أكثر جدوى، تعمل مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية على عزل إسرائيل عن المجتمع الدولي بشكل حاد للغاية.
ولم تعد مظاهر هذه العزلة تتجلى في مظاهرات حاشدة ضد الحرب في لندن أو في الجامعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة فحسب، بل أصبحت تتغذى بقرار صادر عن محكمة تقبله أغلب دول العالم الغربي، وبفضل هذه المذكرات، تتحرك دولة الاحتلال بشكل متزايد باتجته الهامش في المجتمع الدولي.
ومن المرجح أن تكون إدارة ترامب الجديدة في الولايات المتحدة عدوانية للغاية تجاه المحكمة الجنائية الدولية وستحاول، إلى جانب دول مثل المجر وجمهورية التشيك والأرجنتين وأعضاء آخرين في التحالف اليميني المتطرف العالمي، انتشال إسرائيل من هذه العزلة.
ورغم ذلك، فإن هذا الموقف الأمريكي غير مضمون التأثير لا يمكن أن يغير الواقع الأساسي: إسرائيل تتحول بسرعة إلى دولة منبوذة، وقد فرض ترامب بالفعل عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية في ولايته السابقة دون أن يكون لذلك تأثير يذكر على المحكمة.
ويمكن أن يكون لهذا العزل ونزع الشرعية عن إسرائيل آثار عملية وفورية مثل تشجيع العقوبات العسكرية وغيرها، ولن يجد نتنياهو صعوبة في السفر إلى الخارج فقط، بل سيجد القادة الأجانب أيضًا صعوبة في السفر إلى إسرائيل ومقابلة رجل “مطلوب”، وبالتالي فقد تعاني العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية بأكملها من ضربة كبيرة.
ويمكن القول إن إسرائيل تمر ببطء بمرحلة جنوب إفريقيا قبل إلغاء نظام الفصل العنصري، حيث بات بوسع أنصار حقوق الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم القول أن إسرائيل ارتكبت جرائم أكثر خطورة في غزة مما تُتهم به، ولم تخضع بعد لنفس العقوبات الشديدة التي فرضت على روسيا وإيران، وهناك عدالة في هذا الادعاء.
ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن إسرائيل جزء لا يتجزأ من الغرب وأقرب حليف للولايات المتحدة، وبالنسبة للعديد من الأوروبيين، فإن دعم إسرائيل هو نوع من التعويض عن المحرقة، وفي نظر الغرب، لم تقف إسرائيل قط حيث تقف دول مثل إيران أو سوريا أو روسيا.
لذلك، فإن تهميش إسرائيل هو حدث مهم مقارنة بالموقف الذي كانت عليه في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومن السابق لأوانه أن نقول ما إذا كان إصدار مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت سيؤدي إلى إضعاف حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، وربما يكون ذلك من شأنه أن يعزز دعمها، كما يزعم نتنياهو وشركاؤه “العالم كله ضدنا”.
ولكن من الممكن أن نقول بالفعل إن شرخاً عميقاً قد أصاب شرعية إسرائيل كدولة داخل المجتمع الدولي، وأنها ستجد صعوبة بالغة في إصلاح هذا الشرخ دون تغيير كامل في الطريقة التي تتعامل بها مع الفلسطينيين، وهذا يجعل قرار المحكمة الجنائية الدولية حدثاً بالغ الأهمية.