بقلم مها الحسيني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في مدينة غزة، جلس أنس الرملاوي يستمع إلى دوي القصف في شمال غزة، وبينما كان يطالع الأخبار، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
كان الشاب البالغ من العمر 30 عاماً قد فقد منزله في حي ناصر غرب مدينة غزة بسبب الهجمات الإسرائيلية المتواصلة، وبينما كان يقرأ عن الخطوة القانونية التاريخية، نشأ “بريق من الأمل” بداخله.
قال الرملاوي لموقع ميدل إيست آي: “ربما كان من قبيل المصادفة أن أقرأ عن مذكرات الاعتقال بينما كنت أسمع صوت انفجار هائل ناجم عن قصف جيش الاحتلال وهدم المباني السكنية في جباليا، على بعد بضعة كيلومترات فقط من مكان إقامتي”.
وأضاف: “عندما سمعت الانفجار وقرأت أخبار مذكرات الاعتقال، نشأ بصيص من الأمل بداخلي حول إمكانية رؤية المسؤولين عن هذه الجرائم في قفص الاتهام ذات يوم”.
وهذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها المحكمة التي يقع مقرها في لاهاي مذكرات اعتقال بحق مسؤولين كبار متحالفين مع قوى غربية، وهي الخطوة التي ينظر إليها الفلسطينيون في غزة الخاضعة لحصار الاحتلال منذ عام 2007، باعتبارها “كسراً للعزلة بعد أكثر من عام من الإبادة الجماعية”.
وقال الرملاوي: “لقد تحملنا على مدى أكثر من 13 شهرًا أشكالًا مختلفة من الألم، ولعل أكثرها إيلامًا هو الشعور بأن الجميع تخلوا عنا، وتركونا في مواجهة الاحتلال العازم على إبادتنا، واليوم، يجلب هذا بعض الأمل في أننا لسنا وحدنا تمامًا”.
“لا يزال اعتقال هؤلاء القادة حلمًا بعيدًا، لكنه على الأقل يمنحنا الشعور بأن مرتكبي هذه الجرائم الشنيعة ضدنا يُلاحقون الآن وسيُجبرون في النهاية على التوقف عن ارتكاب مثل هذه الفظائع، آمل أن نعيش لنرى أوامر الاعتقال تُنفذ ونشهد تحقيق العدالة لنا” – أنس الرملاوي، مواطن في غزة
وجدت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت “يتحملان المسؤولية الجنائية عن الجرائم التالية باعتبارهما مشاركين في ارتكاب الأفعال بالاشتراك مع آخرين: جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغير ذلك من الأعمال اللاإنسانية”.
ووفقاً للدائرة، فإن هناك “أسباباً معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت حرما عمداً وعن علم السكان المدنيين في غزة من أشياء لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء والماء والأدوية والإمدادات الطبية، فضلاً عن الوقود والكهرباء”.
أوامر اعتقال رمزية
من جهتها، كانت رؤى الشوا قد انتهت للتو من مهمة تقوم بها كل يوم تتمثل في التجوال لساعات في شوارع دير البلح المدمرة لتأمين بعض الطعام لأطفالها.
وقالت الشوا لموقع ميدل إيست آي إنها ترى أوامر الاعتقال رمزية أكثر منها عملية.
وأضافت: “أنا أدرك أن هذه خطوة مهمة وتاريخية للغاية، من الناحية النظرية، إنها خطوة ضخمة لتحقيق العدالة للضحايا، ولكن كشخص يحاول النجاة من الإبادة الجماعية يومًا بعد آخر، لم أعد أعتقد أن هناك قيمة لأي تدابير قانونية أو حقوقية”.
“أنا لست متشائمةً، ولا أقلل من أهمية مثل هذه الخطوات القانونية، لكنني أعلم أن القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة لن تسمح بحدوث اعتقالات فعلية، ولن تسمح بتحقيق العدالة بشكل كامل للضحايا فقط لأنهم فلسطينيون” – رؤى الشوا، مقيمة في غزة
ومضت الشوا تقول في وصف قرار المحكمة: “هذه خطوة مهمة للأجيال القادمة، ولكن طالما استمرت حكومات العالم في دعم الاحتلال عسكريًا بأسلحة تهدف إلى إبادتنا، وتفشل في فرض عقوبات جدية عليها، فلن أشعر بالتفاؤل بشأن هذه القرارات كثيرًا”.
وتعتبر مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية الخطوة القانونية الرئيسية الثانية ضد الحرب المدمرة التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة، بعد حكم محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني 2024 الملزم للاحتلال بالامتناع عن ارتكاب الأعمال التي قد تشكل إبادة جماعية وضمان حماية المدنيين.
لكن وزارة الصحة في غزة قالت يوم الخميس إن 71 فلسطينياً في القطاع استشهدوا في هجمات الاحتلال خلال الـ 24 ساعة الماضية، ليصل إجمالي عدد الشهداء إلى 44056 منذ بدء الحرب في أعقاب الهجمات التي قادتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الاول 2023.
كما أصيب 104268 شخصًا منذ بدء الحرب، وفقًا لوزارة الصحة في غزة.
وتساءلت الشوا: “لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذه الخطوة لا تزال مقياسًا صغيرًا للعدالة للضحايا، ولكن هل ستعيد عشرات الآلاف من المدنيين الذين قتلوا؟ هل ستجعل جيلًا كاملاً ينسى ما مر به؟ هل ستعيد منازلنا؟”.
العدالة والذاكرة
وكانت الولايات المتحدة “بشكل أساسي” قد رفضت قرار المحكمة الجنائية الدولية يوم الخميس، وقال الرئيس جو بايدن في بيان أن: “إصدارها أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيليين أمر شائن”.
وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي: “كانت الولايات المتحدة واضحة في أنه لا ولاية قضائية للمحكمة الجنائية الدولية على هذه المسألة”.
أما بالنسبة لياسر أبو وزنة، وهو فلسطيني نازح قسراً في جنوب قطاع غزة، فقد تزامن صدور قرار المحكمة مع ذكرى مرور عام على اليوم الذي قصفت فيه عائلة شقيقه في خان يونس العام الماضي.
وكتب أبو وزنة في منشور على فيسبوك: “رغم أن الأمر قد يبدو غريباً، إلا أنني أشعر بالرغبة في مشاركة هذه الذكرى اليوم، اليوم الذي أصدرت فيه المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت”.
وأضاف متذكراً ما جرى بالقول: “كان الجميع في الخيمة نائمين، إبراهيم وهالة وأحمد ومحمود وزوجتي داليا، وكنت الوحيد المستيقظ، كنت أتقلب في فراشي، استمع للأخبار بصوت خافت حين قطع رنين هاتفي المفاجيء السكون”.
وتابع: “كان تلقي اي مكالمة في تلك الساعة يجلب الرعب دائماً، وينذر بأخبار سيئة، أمسكت بالهاتف بسرعة يائسة لإسكاته قبل أن يوقظ الجميع”.
وعلى الطرف الآخر من الخط كان فادي شقيق ياسر يتحدث من تحت الأنقاض، فقال: ” ياسر، هذا فادي، شقيقك، لقد قصفونا، ياسر، لقد قصفونا، تعال وساعدني، أنا وبناتي وزوجتي، الجميع تحت الأنقاض”.
ويواصل ياسر سرد تلك الذكرى المؤلمة قائلاً: “ثم انقطع الخط، وفي تلك اللحظة، بدا الأمر وكأن العالم بأسره قد انهار، لم يكن صوت فادي مجرد صرخة استغاثة، بل صار جرحًا محفورًا في جبين الزمن، وذكرى محفورة في ذهني لا يمكن لأي شيء أن يمحوها”.
نجا فادي، لكن عائلته بمن فيهم ابنتيه ماريا البالغة من العمر ثلاث سنوات وجنى البالغة من العمر ثلاثة أشهر وزوجته شروق استشهدوا جميعًا.
وكتب أبو وزنة يختم تلك الرواية: “سيظل ثقل غيابهم جرحًا مجهولًا في قلب فادي، ولا يمكن للكلمات أن تشفي قلوبنا”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)