بقلم محمد المصري
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
منذ أكثر من 20 عامًا، انتقدت الباحثة في مجال الصحافة باربي زيليزر انحياز صحيفة نيويورك تايمز لإسرائيل ودعت المراقبين إلى تحدي “مكانتها كصحيفة مسجلة في الشرق الأوسط”.
في الأسبوع الماضي، حصل موقع The Intercept على مذكرة مسربة لصحيفة نيويورك تايمز تشير إلى أن الصحيفة أصدرت تعليمات لموظفيها بتجنب استخدام مصطلحات مثل “الإبادة الجماعية”، و”التطهير العرقي”، و”الأراضي المحتلة” في تقاريرها عن حرب غزة المستمرة.
وتطلب مذكرة التايمز المسربة أيضًا من المراسلين تجنب استخدام كلمات مثل “مذبحة” و”مجزرة” عند وصف العنف الذي ترتكبه إسرائيل ضد الفلسطينيين.
يعد هذا شكلاً خطيراً من سوء استخدام الصحافة، فقد جعل القادة الإسرائيليون من التطهير العرقي هدفًا واضحًا لهم، وأعلنوا نيتهم ارتكاب الإبادة الجماعية، كما احتلت إسرائيل منذ فترة طويلة الأراضي الفلسطينية بشكل غير قانوني – لكنه لا يظهر حجم انحياز التايمز المؤيد لإسرائيل والمناهض للفلسطينيين.
خلال شهر كانون الأول/ديسمبر، زعمت صحيفة “التايمز” أنها كشفت عن برنامج اغتصاب منهجي قام به رجال فلسطينيون هاجموا “إسرائيل” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكن التحقيق الذي أجرته التايمز تم فضحه تمامًا منذ ذلك الحين، حيث اضطرت الصحيفة إلى إلغاء البث الصوتي المخصص للحديث عنه.
وبدلاً من التحقيق مع صحافييها بتهمة التلاعب بمصادر إسرائيلية وإنتاج تقرير يعتمد على دعاية إسرائيلية كاذبة، ركزت التايمز اهتمامها على محاولة معرفة أي من موظفيها سرب المعلومات حول التحقيق.
لكن كل هذا ليس سوى غيض من فيض كما يقول المثل، فهناك أدبيات علمية ضخمة حول التغطية الإعلامية الغربية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث تعد معظم البيانات التجريبية بمثابة إدانة دامغة للتقارير الغربية.
إلا أنه لم تتم دراسة أي وسيلة إعلامية أكثر- أو ربما احتوت أسوأ البيانات- من صحيفة نيويورك تايمز.
التحيز ضد الفلسطينيين
في عام 2007، كتب ريتشارد فولك وهوارد فريل، الباحثان الأميركيان في القانون الإنساني الدولي، كتاباً كاملاً عن الكيفية التي “تخطئ بها صحيفة التايمز في التقارير” عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
عندما يُقتل إسرائيلي وفلسطيني في نفس اليوم، عادة ما يُذكر موت الإسرائيلي أولاً وغالباً ما يكون هو محور المقال
لقد قدم الباحثان مجموعة كبيرة من البيانات التي تظهر أن الصحيفة تفضل باستمرار المصادر الإسرائيلية على المصادر الفلسطينية، وتتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، بل وتطبق معايير مزدوجة في تغطيتها لانتهاكات القانون الدولي.
وذكر الباحثان كذلك بأن التايمز “لا تنشر أعدادًا كافية من القتلى والجرحى من العرب الفلسطينيين” ولكنها “تنشر بانتظام وبشكل بارز قصصًا عن الفلسطينيين الذين يقتلون إسرائيليين”.
وقد أسفرت دراسة نشرت عام 2009 في مجلة إعلام الشرق الأوسط، والتي تناولت صحيفتي التايمز وشيكاغو تريبيون، عن نتائج تتفق مع نتائج فولك وفريل.
فعلى سبيل المثال، قدمت دراستي، التي استخدمت التحليل الكمي للمحتوى، تحليلاً لمصطلحات العنف، ككلمات مثل “مذبحة”، و”مجزرة”، و”ذبح”، و”وحشية”، وهي أنواع الكلمات التي سعت صحيفة التايمز مؤخرًا إلى تجنبها، وفقًا لتقرير موقع The Intercept.
ووجدت أن وسائل الإعلام استخدمت مصطلحات قاسية في 34% من المقالات التي تناولت قتل الفلسطينيين للإسرائيليين، ولكن في 8% فقط من المقالات التي تناولت قتل الإسرائيليين للفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، وجدت دراستي أن الوفيات الإسرائيلية الناتجة عن العنف تصدرت الصفحة الأولى للصحيفة بنسبة 60% من الوقت، مقارنة بـ 29% فقط للوفيات الفلسطينية الناجمة عن العنف.
و في أمر هام أيضاً، عندما قتل الإسرائيليون فلسطينيين، تجاهلت 40 % من المقالات الإخبارية القتل أو الموت، ولم تذكره حتى الفقرة السادسة من المقالة الإخبارية أو بعد ذلك، وفي المقابل، فإن 91% من المقالات التي تتحدث عن حالات قتل فلسطينيين لإسرائيليين ذكرت كلمات القتل أو الموت ضمن الفقرات الخمس الأولى من المقالة.
ووجدت دراستي أيضًا أنه عندما يُقتل إسرائيلي وفلسطيني في نفس اليوم، عادةً ما يُذكر الموت الإسرائيلي أولاً وغالبا ما يكون هو محور المقال.
ومع ذلك، لا تمثل هاتان الدراستان سوى جزء صغير من البحث حول تغطية التايمز للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
في عام 2023، استخدمت هولي جاكسون البيانات الضخمة لإظهار كيف تستخدم صحيفة التايمز لغة ونبرة وتأطيرًا معينًا لتمييز المواقف الإسرائيلية، حيث استخدمت برامج معالجة اللغة لإجراء تحليل كمي لأكثر من 33000 مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز حول إسرائيل وفلسطين.
ووجدت دراستها أن التايمز كانت دائمًا أكثر احتمالية لاستخدام لغة عنيفة في وصف الفلسطينيين من وصفها للإسرائيليين، على الرغم من أن إسرائيل ارتكبت قدرًا أكبر من العنف خلال فترات الدراسة، كما وجدت دراسة جاكسون أيضًا أن صحيفة نيويورك تايمز كانت أكثر احتمالية لاستخدام الصوت المبني للمعلوم للإسرائيليين والصوت المبني للمجهول للفلسطينيين.
علاوة على ذلك، أظهر تحليل جاكسون للمشاعر داخل النص أن لهجة الصحيفة كانت أكثر تأييدًا لإسرائيل من الفلسطينيين، الذين تمت تغطية أخبارهم بـ “تحيز سلبي”، كما وجدت جاكسون أن التحيزات المناهضة للفلسطينيين والمؤيدة لإسرائيل زادت بدلاً من أن تنخفض مع مرور الوقت.
“مؤيد بشكل علني لإسرائيل”
وتظهر مجموعة من الدراسات – بما في ذلك العمل المذكور أعلاه لفولك وفريل، وكذلك دراسات ل مات فيزر، ومحمد مشير عامر، وزيلزر، وآخرين – أن التايمز تستخدم مصادر إسرائيلية أكثر بكثير من المصادر الفلسطينية.
على سبيل المثال، كشفت دراسة أجراها الأكاديميان الأمريكيان جون نوكس وكارين ويلكنز عام 2002 أنه في الفترة ما بين عامي 1984 و1998، استعانت صحيفة التايمز بمسؤولين إسرائيليين بمعدل ضعف عدد المسؤولين الفلسطينيين تقريبًا، وقد أسفرت دراسات أخرى عن نتائج مماثلة.
تعتبر نتائج المصادر مهمة، خاصة وأن الأبحاث الإعلامية تظهر أن المصادر يمكنها في كثير من الأحيان توجيه إطار التقارير الإخبارية أو ميلها، وهي مهمة أيضاً في سياق الصحافة الأميركية، التي تعتمد بشكل مفرط على المسؤولين الأميركيين.
بشكل عام، إن المسؤولين الأميركيين مؤيدون لإسرائيل بما فيه الكفاية بالفعل. لذا، عندما تعتمد الصحف الأمريكية على مصادر إسرائيلية أكثر من اعتمادها على المصادر الفلسطينية، يكون هناك تأثير مضاعف – فالمصادر الأمريكية والإسرائيلية مجتمعة تفوق بكثير عدد المصادر الفلسطينية القليلة نسبيًا التي يتم الاستشهاد بها في التقارير الإخبارية، وهذا الواقع التجريبي الأساسي في حد ذاته يفسر الكثير من التحيز المؤيد لإسرائيل الذي لا يزال قائما في صحيفة التايمز.
ولكن ما مدى تأييد صحيفة نيويورك تايمز لإسرائيل، خاصة بالمقارنة مع وسائل الإعلام الأخرى؟
تشير بعض الأدلة إلى أن الصحيفة مؤيدة لإسرائيل أكثر من الصحف الأخرى المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، حيث أظهرت دراسة زيليزر عام 2002 أن التايمز كانت مؤيدة لإسرائيل بشكل علني أكثر من شيكاغو تريبيون وواشنطن بوست.
علاوة على ذلك، يبدو أن صحيفة التايمز أكثر تأييدًا لإسرائيل من بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وقد أظهرت دراسة أجراها فيسر عام 2003 أن التايمز كانت أكثر تأييدًا لإسرائيل من صحيفة هآرتس الإسرائيلية خلال ثلاث فترات: الانتفاضة الأولى (1987 – 1988)؛ الانتفاضة الثانية (2000 – 2001)؛ وهجمات ما بعد 11 سبتمبر (2001 – 2002).
وعلى وجه التحديد، وجد فيزر أن التايمز كانت أكثر ميلاً إلى نزع الطابع الشخصي عن الوفيات الفلسطينية والاعتماد بشكل كبير على المصادر الإسرائيلية، من بين نتائج أخرى.
وقد ركزت بعض التحليلات – بما في ذلك دراسة أجرتها سوزان دينتي روس عام 2003 ودراسة أجراها عامر عام 2009 – بشكل حصري على الكتابة الافتتاحية لصحيفة نيويورك تايمز، وفي بعض النواحي، أنتجت هذه الدراسات نتائج أكثر إدانة.
يمكن أن يؤدي تحديد المصادر تلقائيًا إلى التحيز، كما هو الحال مع القيود الهيكلية الأخرى المفروضة على إنتاج الأخبار، وربما يكون صحفيو التايمز ذوو النوايا الحسنة قد أنتجوا تحيزًا مؤيدًا لإسرائيل عن غير قصد ودون حتى معرفة ذلك.
ولكن قد يكون هناك المزيد فيما يتعلق بالسياسات التحريرية التي تنتهجها التايمز بشأن إسرائيل وفلسطين.
إن تسريب المذكرة الأخير مثير للقلق، ولكن هناك أسئلة أخرى أكبر، لماذا، على سبيل المثال، قامت صحيفة نيويورك تايمز فجأة بتعيين عنات شوارتز، إحدى مؤلفي التحقيق سيئ السمعة في قضية الاغتصاب، والتي تم فضحها الآن، ثم قامت على الفور بتعيينها في تحقيق حاسم ومتفجر؟
وكما ذكرت صحيفة موندويس، فإن شوارتز إسرائيلية، ولم تعمل قط كمراسلة، بل لها تاريخ في “الإعجاب” بمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، بما في ذلك منشور حول تحويل “غزة إلى مسلخ” وآخر وصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، ومع ذلك، فقد تم تعيينها في تشرين الأول/ أكتوبر، وتم تكليفها على الفور بإجراء تحقيق كبير.
وفي حين تشير العديد من الدراسات الأخرى إلى مشاكل خطيرة في تحقيقات صحيفة نيويورك تايمز حول قضايا السياسة الداخلية والخارجية الأخرى، يمكن القول أن الصحيفة تحفظ أسوأ أداء لها من أجل تغطيتها للقضية الإسرائيلية الفلسطينية.
ربما كان علينا جميعا أن نستجيب لدعوة البروفيسور زيليزر لتحدي صحيفة نيويورك تايمز، في عام 2002.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)