بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
مع بدء عمليات توغل برية محدودة في شمال غزة، انتشرت تقارير بأن إسرائيل تستعد لتنفيذ خطة لطرد معظم أو كل سكان القطاع إلى الأراضي المصرية المجاورة في سيناء!
جاء جزء من المخاوف حول ذلك بعد تسريب تقرير تابع لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية على موقع “كالكاليست” الاسرائيلي، يتضمن مسودة حول الخطوط العريضة لخطة التطهير العرقي في غزة، وفقاً لوثيقة الوزارة، بعد طرد سكان القطاع سيتم في البداية إسكانهم في مدن الخيام، قبل أن يتم بناء مجتمعات دائمة في سيناء.
فكرة إنشاء دولة فلسطينية خارج فلسطين التاريخية، إما في الأردن أو سيناء، ليست بجديدة، بل لها تاريخ طويل في الفكر الصهيوني، فقد كانت عبارة “الأردن هي فلسطين” بمثابة شعار لليمين الإسرائيلي لعقود من الزمن، وكانت هناك اقتراحات موازية بشأن سيناء
وذكر التقرير المسرب ما يعرف بإنشاء “منطقة معقمة” بعرض عدة كيلومترات لمنع أي شخص من العودة إلى غزة، وعلى المدى الطويل، سوف تعمل إسرائيل على تشجيع دول أخرى، خاصة كندا والدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا ودول شمال أفريقيا على استيعاب السكان الفلسطينيين في سيناء، حيث تعتقد الوزارة أن طرد الفلسطينيين من غزة إلى سيناء سيكون “سوف يوفر نتائج استراتيجية إيجابية طويلة الأمد”.
كما أثار تقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز مخاوف حول قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالضغط على الاتحاد الأوروبي لقبول فكرة دفع الفلسطينيين في القطاع إلى سيناء تحت غطاء الحرب، ونُقل أن بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك جمهورية التشيك والنمسا، رحبوا بالفكرة، فيما قال دبلوماسي أوروبي لم يذكر اسمه لصحيفة فايننشال تايمز “حان الوقت لممارسة ضغوط متزايدة على المصريين للموافقة”.
خطة التطهير العرقي
كانت إسرائيل قد وضعت مثل هذه الخطة للتطهير العرقي في غزة على لوحة الرسم، ووافقت عليها الولايات المتحدة منذ عام 2007 على الأقل، وذلك بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية وسيطرتها على القطاع.
على مدى الأعوام الستة عشر الماضية، فشلت الجهود الدبلوماسية السرية التي كانت تهدف إلى دفع مصر إلى قبول ما يسمى “خطة السلام”، والمعروفة رسمياً باسم خطة غزة الكبرى، ولذلك تميل إسرائيل إلى استغلال اللحظة الراهنة لتنفيذ الخطة ولو كان بشكل أكثر قسوة، الأمر الذي يفسر حملة القصف المدمرة على غزة اليوم.
قبل أيام، قصفت إسرائيل المباني المحيطة بمستشفى القدس في شمال غزة، مما أدى إلى امتلاء الأقسام بسحب من الغبار السام، وتلقى المسؤولون في المستشفى تحذيرات متكررة بضرورة إخلاء المستشفى على الفور، ولكن المستشفى رفض مؤكداً أن ذلك مستحيل لأن الكثير من المرضى لا يمكن نقلهم.
خطة غزة الكبرى نصت على نقل 1600 كم مربع من سيناء، أي 5 أضعاف مساحة غزة، إلى القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية برئاسة عباس
وعلى الجانب الآخر، فقد أدى تمركز الفلسطينيين في جنوب غزة، حيث يتعرضون أيضاً للقصف ويُحرمون من الطاقة والغذاء والمياه والاتصالات، مع عجز المستشفيات ومجمعات المساعدات عن العمل، إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث تتزايد الضغوط على الحاكم العسكري لمصر عبد الفتاح السيسي لفتح معبر رفح لأسباب إنسانية والسماح للفلسطينيين بالتدفق إلى سيناء.
الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر ربما يكون قد وفر بالضبط الذريعة التي تحتاجها إسرائيل لنفض الغبار عن خطتها للتطهير العرقي، ومع مشاركة واشنطن وأوروبا، واستمرار تركيز وسائل الإعلام الغربية على الصدمة التي تعاني منها إسرائيل بدلاً من الصدمة التي تعاني منها غزة، لا يستطيع نتنياهو الانتظار طويلاً قبل أن تغلق نافذة التحرك أمامه.
الضغط على مصر
كشف عن خطة غزة الكبرى لأول مرة عام 2014، بعد تسريبات لوسائل الإعلام الإسرائيلية والمصرية، فيما بدا أنه جزء من حملة ضغط على السيسي بدعم من الولايات المتحدة.
من جانبه، أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس على وجود الخطة في ذلك الوقت من خلال إصراره على أنه رفضها، فكان قد صرح في إحدى المقابلات أنه “للأسف تم قبولها من قبل البعض هنا في مصر، لا تسألني المزيد عن ذلك، لقد رفضناه لأنه لا يمكن أن يكون”.
من ناحية أخرى، صرح مساعد سابق لحسني مبارك بأن إدارة جورج دبليو بوش كانت قد مارست ضغوطاً سابقاً على مبارك لقبول الخطة منذ عام 2007، فكان رده كما نُقل على لسانه “هناك ضغوط علينا لفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين ومنحهم حرية الإقامة، خاصة في سيناء، وبعدها يتم تدويل قضية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سيناء”، لاحقاً تم الضغط على الرئيس محمد مرسي عام 2012.
في عهد مبارك، كان دفع الفلسطينيين إلى سيناءيُسوق بوصفه “خطة سلام”، أما الآن، إذا نجحت إسرائيل فسوف يكون ذلك آخر الفصول في عملية التطهير العرقي بحق الفلسطينيين.
يذكر أن خطة غزة الكبرى نصت على نقل 1600 كم مربع من سيناء، أي 5 أضعاف مساحة غزة، إلى القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية برئاسة عباس، حيث “تتحول الأراضي في سيناء إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح يطلق عليها اسم “غزة الكبرى” يتم تخصيص اللاجئين الفلسطينيين العائدين إليها، وفي المقابل، يتعين على عباس التخلي عن حقه في إقامة دولة في الضفة الغربية والقدس الشرقية”.
كان لدى الإسرائيليين أمل بأن يوافق عباس على حكم دولة فلسطينية صغيرة في سيناء، حيث يمكن توطين معظم اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة، مما يحرمهم من حقهم في العودة، فمعظم الفلسطينيين في غزة هم بالأصل لاجئون منذ عام 1948.
حلم اليمين الإسرائيلي
فكرة إنشاء دولة فلسطينية خارج فلسطين التاريخية، إما في الأردن أو سيناء، ليست بجديدة، بل لها تاريخ طويل في الفكر الصهيوني، فقد كانت عبارة “الأردن هي فلسطين” بمثابة شعار لليمين الإسرائيلي لعقود من الزمن، وكانت هناك اقتراحات موازية بشأن سيناء.
“الهدف هو خلق الظروف التي تصبح فيها الحياة في غزة مستحيلة، حتى تصبح مكاناً لا يمكن أن يبقى فيه إنسان” جيورا إيلاند،مستشار الأمن القومي السابق الإسرائيلي
أصبح المخطط أكثر وضوحاً مع مؤتمر هرتسليا عام 2004، وهو اجتماع سنوي للنخب السياسية والأكاديمية والأمنية الإسرائيلية، يهدف إلى تبادل الأفكار السياسية وتطويرها، وقد أعاد اليمين إحياء خيار “سيناء هي فلسطين” خلال الهجوم الإسرائيلي على غزة صيف عام 2014، في ذلك الوقت، دعا رئيس الكنيست ثم عضو حزب الليكود، موشيه فيغلين، إلى طرد سكان غزة من منازلهم تحت غطاء العملية والانتقال إلى سيناء فيما أسماه “الحل لغزة”.
تلقت خطة غزة الكبرى ضربة أخرى عام 2018، عندما أشارت تقارير إلى أن هناك توجهاً لإدراجها في خطة الرئيس الأمريكي “صفقة القرن” لتحقيق التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي، فيما كان الإسرائيليون يهدفون، من خلال خيار سيناء، إلى تقويض حملة عباس في الأمم المتحدة للحصول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
تجدر الإشارة إلى أن الهجمات العسكرية الإسرائيلية واسعة النطاق على غزة في شتاء 2008، و2012، ومرة أخرى في 2014، تزامنت مع الجهود الإسرائيلية والأمريكية المزعومة لتضييق الخناق على القادة المصريين للتنازل عن أجزاء من سيناء، ومن هنا كان تدمير غزة مع مفاقمة الكارثة الإنسانية هناك جزءاً من حملة الضغط تلك.
“لا يمكن أن يبقى فيه إنسان”
بالنظر إلى الخطة وسياقها، يمكن تفسير السبب وراء الهيجان الإسرائيلي غير المسبوق في غزة اليوم، يضاف إليها التداعيات غير المسبوقة التي تشكل أزمة سياسية وعسكرية في إسرائيل نتيجة هجوم حماس في 7 أكتوبر.
كان الهدف من خطة غزة الكبرى في البداية هو مكافأة السلطة الفلسطينية، من خلال فكرة الدولة وإن كانت ليست في داخل فلسطين، ولكن في سيناء التي كانت لتتحول إلى مدن فلسطينية جديدة ومنطقة تجارة حرة ومحطة لتوليد الكهرباء وميناءً بحرياً ومطاراً، وفق الخطة.
ولم يكن لدى المصريين إلا نقطة واحدة شائكة فيما يتعلق بالخطة، بعيداً عن تواطئها في محو القضية الفلسطينية، وهي التخوف من اكتساب حماس قاعدة داخل مصر وتعزيز الحركات الإسلامية المحلية في مصر، ولكن بات هناك الكثير من المؤشرات على زيادة إصرار إسرائيل على دفع الفلسطينيين إلى مصر منذ هجوم 7 أكتوبر، وأن هجوم حماس قد أتاح فرصة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه من خلال الدبلوماسية بالقوة.
إسرائيل تفكر جدياً في القيام بعملية تطهير عرقي واسعة النطاق، يتم تنفيذها بسرعة البرق وبمساعدة الولايات المتحدة قبل أن تنشط الاعتراضات الدولية، ولكن السؤال هنا، هل هناك من مستعد وقادر على إيقافهم؟!
الآن وفيما يبدو، أن القادة الإسرائيليين ليسوا في مزاج يسمح لهم بأخذ المخاوف المصرية في الاعتبار، فبعد أسبوع من العمليات العسكرية، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أمير أفيفي، لبي بي سي أن إسرائيل لا تستطيع ضمان سلامة المدنيين في غزة، وأضاف “إنهم بحاجة إلى التحرك جنوبًا إلى شبه جزيرة سيناء”.
وفي اليوم التالي، قام داني أيالون، سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة، وأحد المقربين من نتنياهو، بتضخيم هذه النقطة بقوله “هناك مساحة لا نهاية لها تقريباً في صحراء سيناء، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها القيام بذلك، نحن والمجتمع الدولي سوف نقوم بإعداد البنية التحتية لمدن الخيام، ومصر سيكون عليها أن تلعب الكرة”.
أما بيني غانتس، الجنرال السابق الذي يشارك الآن في حكومة وحدة مع نتنياهو، فصرح بأن إسرائيل لديها خطة “لتغيير الواقع الأمني والاستراتيجي في المنطقة”، فيما أكد مستشار الأمن القومي السابق، جيورا إيلاند، ، أن الهدف هو “خلق الظروف التي تصبح فيها الحياة في غزة مستحيلة، حتى تصبح مكاناً لا يمكن أن يبقى فيه إنسان”.
تصاعد خرج عن السيطرة
يدرك السيسي تمامًا حجم الضغوط التي تمارسها إسرائيل على مصر، ففي مؤتمر صحفي عُقد في 18 أكتوبر، حذر من أن القصف الإسرائيلي على غزة يخلق أزمة إنسانية “قد تخرج عن نطاق السيطرة، فما يحدث الآن في غزة هو محاولة لإجبار السكان المدنيين على اللجوء والهجرة إلى مصر، وهو أمر لا ينبغي قبوله”.
ويخشى السيسي تكرار سيناريو أحداث عام 2008، عندما اخترق مئات الآلاف من الفلسطينيين الحاجز بين غزة وسيناء للحصول على الغذاء والوقود بسبب الحصار الإسرائيلي للقطاع، ولمنع تكرار ذلك، فقد عززت مصر التدابير الأمنية على طول حدودها القصيرة مع غزة، وخلف الكواليس، كشفت تقارير عن أن القاهرة بدأت تحضر نفسها لسيناريو تهجير الفلسطينيين، وتشمل خططها الإنشاء السريع لمدن الخيام بجوار مدينتي الشيخ زويد ورفح في سيناء.
لقد عبرت المقررة الخاصة المعنية بالأراضي المحتلة في الأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيز، عن مخاوف القاهرة حول النوايا الإسرائيلية بقولها “لاحظت أن هناك خطراً كبيراً مما نشهده، وقد يكون تكرارًا لنكبة عام 1948 ونكسة عام 1967، ولكن على نطاق أوسع، ويجب على المجتمع الدولي أن يفعل كل ما في وسعه لمنع حدوث ذلك مرة أخرى”.
من جهة أخرى، يوجد لدى الولايات المتحدة، التي طالما دعمت خطة غزة الكبرى، أساليبها الخاصة في ممارسة النفوذ، بما في ذلك الضغط المالي، لتشجيع السيسي على التواطؤ، خاصة في ظل معاناة مصر من أزمة ديون غير مسبوقة تبلغ أكثر من 160 مليار دولار، بالإضافة إلى التضخم المتزايد في وقت يتجه فيه السيسي إلى الانتخابات الرئاسية، حيث يعتقد المسؤولون المصريون أن واشنطن ستحاول استخدام فكرة شطب الديون كحافز لموافقة مصر على قبول اللاجئين.
بعد 3 أيام فقط من هجوم حماس، صرح مسؤول في إدارة بايدن علناً أنهم اتخذوا ترتيبات مع دولة ثالثة لم يذكر اسمها لتوفير ممر آمن للمدنيين الفلسطينيين للخروج من غزة، مما يشير إلى أن إسرائيل تفكر جدياً في القيام بعملية تطهير عرقي واسعة النطاق، يتم تنفيذها بسرعة البرق وبمساعدة الولايات المتحدة قبل أن تنشط الاعتراضات الدولية، ولكن السؤال هنا، هل هناك من مستعد وقادر على إيقافهم؟!
للاطلاع على النص الأصلي: هنا