أثارت تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عاصفة من الجدل بعدما زعم أن عدة نساء وجّهن اتهامات جديدة بالتحرش الجنسي ضد كريم خان، المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية.
واللافت أنه لم يكشف من قبل عن المزاعم التي أعلنها نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، ولم يكن خان نفسه على علم بها.
ويخضع كريم خان منذ أواخر العام الماضي لتحقيق أممي حول مزاعم بارتكاب “سوء سلوك جنسي” وجهتها له موظفة واحدة في المحكمة وهي مزاعم ينفيها بشدة.
وقال خان عبر متحدث باسمه إن تصريحات نتنياهو “تثير تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت دولة الاحتلال تتدخل في التحقيق الأممي وتحاول التلاعب به”.
وجاءت أقوال نتنياهو خلال مقابلة مع موقع “بريتبارت نيوز”، حيث قال إن خان يواجه اتهامات من موظفة في المحكمة، مضيفًا: “ومنذ ذلك الحين، ظهرت أربع نساء أخريات وقدمن اتهامات ضده”.
وتعد هذه المرة الأولى التي يُطرح فيها علنًا الحديث عن أكثر من شكوى واحدة في اتهامات من هذا القبيل.
وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة “الغارديان” تقريرًا حصريًا ذكرت فيه أن امرأة ثانية أدلت بشهادتها أمام لجنة التحقيق الأممية، لكنها أوضحت أنها شاهدة وليست مقدمة شكوى.
بدوره، أوضح المتحدث باسم خان أن المدعي العام “لا علم له إطلاقًا بالنساء اللواتي تحدث عنهن نتنياهو”.
وأضاف: “لم يُوجه إلى السيد خان أي اتهام من أي امرأة أخرى، ولم تُطرح عليه أي أسئلة بهذا الخصوص سواء من قبل مكتب خدمات الرقابة الداخلية التابع للأمم المتحدة (OIOS) أو أي جهة أخرى”.
وأشار المتحدث في حديث لـميدل إيست آي إلى أن ما يزيد الأمر خطورة هو أن “رئيس حكومة على رأس عمله وهو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية يدّعي معرفته بتفاصيل تحقيق سري لم يُكشف عنه”.
وقال أن هذا الأمر “يثير مخاوف جدية من تدخل دولة الاحتلال في مسار العدالة ومحاولة التأثير على سير التحقيق”.
من جانبه، اعتبر خان أن توقيت تصريحات نتنياهو، والذي سبق بساعات قليلة نشر “الغارديان” لقصتها الحصرية يوم 28 أغسطس/آب “يكشف عن محاولة للتأثير في الرأي العام وخلق رواية مضللة”.
من جانبها، اكتفت صحيفة “الغارديان” بالقول إن “تغطيتها المستقلة تتحدث عن نفسها”، فيما لم يرد مكتب نتنياهو على طلب ميدل إيست آي للتعليق.
لكن إحدى المحاميات في المحكمة الجنائية الدولية قالت للموقع إن مجموعة من داخل المحكمة تعارض نهج خان في ملاحقة قادة الاحتلال قضائيًا، وتعمل على تقويضه.
وأضافت أنها تلقت في مايو/أيار 2024 اتصالًا تم سؤالها فيه عما إن كان خان قد تصرف يومًا بشكل غير لائق تجاهها.
وأكدت: “قلت لهم إنه آخر شخص يمكن أن أفكر فيه بهذا الشكل”.
وأوضحرالمتحدث باسم خان أن هناك “محاولات لفبركة اتهامات ضد القانوني الدولي، بما في ذلك محاولات لإقناع أفراد بتقديم روايات كاذبة”، مشيرًا إلى أن تلك الجهود شملت حتى “الإيحاء بشكل كاذب وحقير بأن ابنة خان بالتبني كانت ضحية اتجار بالبشر”.
ضغوط وتهديدات
وتأتي تصريحات نتنياهو في أعقاب تحقيق موسّع نشره موقع ميدل إيست آي هذا الشهر، كشف فيه عن سلسلة ضغوط وتهديدات استهدفت كريم خان خلال عمله على ملفات قادة دولة الاحتلال.
ومن بين تلك الضغوط:
- تهديدات مباشرة من سياسيين بارزين، بينهم وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد كاميرون والسيناتور الأميركي ليندسي غراهام.
- تسريبات إعلامية عن مزاعم تحرش جنسي بهدف تشويه سمعته.
- رصد وجود فريق من جهاز “الموساد” الإسرائيلي في لاهاي، مقر المحكمة، ما أثار مخاوف على سلامته الشخصية.
- محاولات من زملاء سابقين وأصدقاء للعائلة للتأثير عليه وتشويه صورته.
ووقعت هذه الأحداث بينما كان خان يبني قضيته ضد نتنياهو ومسؤولين آخرين في حكومة الاحتلال بشأن جرائم الحرب في غزة، إضافة إلى تسريع الاستيطان وأعمال العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
وقال كونّو تارفوسير وهو قاضٍ سابق في المحكمة الجنائية الدولية (2009-2020)، لميدل إيست آي إنه “شعر بصدمة عميقة وفضيحة من الطريقة التي يجري بها التعامل مع الإجراءات ضد كريم خان”.
وأضاف أن خان “يدفع ثمن استقلاليته ونزاهته الفكرية، ورفضه الخضوع للضغوط الخارجية”.
قاضٍ آخر سابق، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أعرب هو الآخر عن قلق بالغ إزاء انتهاك خصوصية خان، بعد أن سُمّي علنًا كموضوع لشكوى من قبل جمعية الدول الأطراف (ASP)، وهي الهيئة المشرفة على المحكمة، وهو ما يعد خرقًا لحقوقه الأساسية.
يذكر أن الضغوط على خان تصاعدت في أبريل/نيسان 2024 حين كان يستعد لتقديم طلبات إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير حربه آنذاك يوآف غالانت، ثم عادت لتشتد في أكتوبر/تشرين الأول 2024، قبل شهر واحد فقط من إصدار القضاة مذكرات التوقيف.
وزادت الضغوط هذا العام بعدما ترددت تقارير عن أن خان يعتزم طلب مذكرات توقيف جديدة بحق وزراء آخرين في حكومة الاحتلال، بينهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بالتزامن مع تسريبات جديدة عن مزاعم “التحرش الجنسي”.
وكانت إدارة ترامب قد فرضت عقوبات على خان في فبراير/شباط الماضي، ما فُهم على نطاق واسع باعتباره جزءًا من حملة سياسية منسقة لإضعاف المدعي العام.
وفي منتصف مايو/أيار 2025، أخذ خان إجازة بعد فشل محاولة لتعليق منصبه بضغط من مسؤول كبير داخل مكتبه، بينما كانت الأمم المتحدة تحقق في الشكوى المقدمة من موظفة في المحكمة.
وقبل مغادرته، كان خان قد أتم بالفعل إعداد طلبات إصدار مذكرات توقيف بحق بن غفير وسموتريتش، والتي باتت الآن في يد نوابه الذين وُضعوا أيضًا تحت عقوبات أميركية هذا الشهر.
مصادر متعددة داخل المحكمة قالت لـ ميدل إيست آي إنها تعتقد أن هذه الطلبات “سوف تُدفن بهدوء” تحت ضغط غير مسبوق من الاحتلال وحليفه الأميركي.
نتنياهو يربط بين مذكرات التوقيف والاتهامات ضده
وفي مقابلته مع “بريتبارت” الأربعاء الماضي، أطلق نتنياهو سلسلة من الادعاءات الكاذبة ضد كريم خان، متهمًا إياه باستغلال مذكرات التوقيف الصادرة بحقه وبحق وزير الحرب السابق يوآف غالانت للتغطية على ما وصفها بأنها “اتهامات بالاغتصاب والتحرش”.
وقال نتنياهو: “كان من المفترض أن يزور خان دولة الاحتلال، لكنه ألغى الزيارة، وبعد يومين أصدر مذكرات التوقيف بحقي كرئيس للحكومة وبحق وزير الدفاع السابق كـ’مجرمي حرب'”.
وأضاف: “قبل أيام فقط من ذلك، واجهه أحد كبار موظفيه وقال له: هناك موظفة تقول إنك تغتصبها وتتحرش بها منذ أكثر من عام، فقرر أن يخرج من المأزق عبر ضرب اليهود، وضرب رئيس حكومة الدولة اليهودية، لأنه يعلم أن التقدميين المتطرفين سيقفون وراءه”.
وتابع نتنياهو: “لقد فعل ذلك بالضبط، أراد أن ينجو بنفسه من تهم الاعتداء الجنسي، فاختلق تهمًا باطلة ضد دولة الاحتلال”.
وترددت ادعاءات نتنياهو هذه أيضًا في صحف أميركية وبريطانية، إذ زعمت “وول ستريت جورنال” في افتتاحية بتاريخ 16 مايو/أيار أن خان استغل مذكرات التوقيف “لصرف الأنظار عن سلوكه”، ووصفت قضية المحكمة ضده بأنها “ملوثة”.
لكن تقارير ميدل إيست آي السابقة كشفت أن قرار خان التقدم بطلب إصدار مذكرات التوقيف كان قد اتُّخذ قبل ستة أسابيع من ظهور الشكوى ضده في أواخر أبريل/نيسان 2024.
ففي 16 مارس/آذار 2024، اتفقت هيئة محامي خان وباحثيه على أن التوقيت أصبح مناسبًا للتقدم بطلب المذكرات بحلول نهاية أبريل، وفي 25 مارس، أخطر خان الإدارة الأميركية بقراره، أي قبل أكثر من شهر من تقديم الشكوى.
في 29 أبريل/نيسان، وبعد قرار إصدار المذكرات، تقدمت إحدى الموظفات بمزاعم تحرش، لكن التحقيق الداخلي للمحكمة أُغلق سريعًا بعد أن رفضت التعاون.
وبذلك لم يكن هناك أي تحقيق جارٍ عندما أعلن خان في 20 مايو/أيار تقديم طلبات التوقيف بحق نتنياهو وغالانت.
ولاحقًا، ظهرت تقارير جديدة في “الغارديان” زعمت أن امرأة ثانية كانت تعمل متدربة غير مدفوعة الأجر لدى خان عام 2009 اتهمته بمحاولات متكررة لمضايقتها جنسيًا.
لكن خان نفى تمامًا تلك المزاعم، مؤكدًا عبر متحدثه الرسمي أن “الربط الذي يحاول نتنياهو إقامته بين هذه الادعاءات وقرار 2024 بإصدار مذكرات التوقيف هو زعم باطل بشكل قاطع”.
وشدد المتحدث على أن “خان لم ينخرط في أي سلوك غير لائق”، معتبرًا أن “حملة التشويه تأتي في سياق الضغط السياسي لتقويض المحكمة ومنعها من محاسبة قادة الاحتلال على جرائم الحرب”.