بقلم جوزيف مسعد
بعد برهة قصيرة من الهجوم الذي شنته المقاومة الفلسطينية على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، دخلت آلة الدعاية الإسرائيلية في حالة تأهب قصوى؛ فقد نشرت الدعاية الإسرائيلية مزاعم بقيام المقاومة بالقتل الجماعي للأطفال الرضع وقطع رؤوسهم، والاغتصاب الجماعي للنساء، والذبح المتعمد للمدنيين، وسوّقتها في العالم الغربي المؤمن بالتفوق العرقي للبيض، وفي سائل الإعلام الغربية الرئيسة المستعدة لتصديق أي ادعاء إسرائيلي بشأن الفلسطينيين ذوي المنزلة العرقية الأدنى. وقد شرعت الصحافة الغربية على الفور في تبني مزاعم إسرائيل؛ بوصفها حقيقة لا جدال، فيها قبل أن تتراجع عنها خلسة واحدة تلو الأخرى، على الرغم من أن الرئيس جو بايدن يواصل دون خجل نشر هذه الافتراءات العنصرية كحقائق في خطاباته.
وقد شهد شهود عيان إسرائيليون بأن القوات الإسرائيلية كانت قد استهدفت المدنيين الإسرائيليين وفدائيي “حماس” معا، مما أدى إلى مقتلهم وإحراق منازل وجثث الإسرائيليين وجثث المقاومين الفلسطينيين، ناهيك عن القصف العشوائي للمشاركين في المهرجان الموسيقي، أو قصف السيارات التي كان يستقلها المدنيون الإسرائيليون الفارون من ميادين القتال.
لكن كل تلك الشهادات لم تردع وسائل الإعلام والحكومات الغربية عن الإصرار على الافتراءات العنصرية. وقد أخفقت جميع اللقاحات (بما في ذلك الدراسات البحثية الأكاديمية الغربية والعربية والإسرائيلية) المتاحة منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، في تطعيم المسؤولين الغربيين والصحفيين ضد العنصرية التي يعاملون بها الفلسطينيين وغيرهم من العرب، وأثبتت عدم فعاليتها في الوقوف في وجه تجذر النزعة العنصرية عند الغربيين.
رفض معظم العرب مزاعم إسرائيل الخيالية ووجدوها عصية على التصديق، مشككين في صحتها منذ البداية. وهذا لا يعني أن الناس لم يصدقوا أن العديد من المدنيين الإسرائيليين قد قتلوا في أثناء المعارك، بل يعني أن حركة حماس لم ترتكب مذابح جماعية للمدنيين، ناهيك عن قتل النساء والأطفال، وكانت حماس نفسها قد نفت استهدافها للمدنيين الإسرائيليين. لكن السبب وراء عدم تصديق معظم العرب لإسرائيل ومزاعمها التشهيرية العديدة، لا يستند إلى تحيز واع أو غير واع ضد الدولة “اليهودية”، بل إلى تقييم عقلاني لافتقار إسرائيل إلى المصداقية، حيث راكمت إسرائيل سجلا مذهلا من الكذب والافتراءات منذ عام 1948 (تماما كما فعلت الحركة الصهيونية من قبلها)، التي فضحها الباحثون العرب والأوروبيون في السنوات الخمس والسبعين الماضية، وفضحها المؤرخون الإسرائيليون أيضا منذ النصف الثاني من الثمانينيات. وكان الباحثون الإسرائيليون قد كشفوا أكاذيب إسرائيل مستندين إلى أرشيفات دولة إسرائيل الرسمية، المدنية والعسكرية منها. ولهذا السبب، يُنظر إلى الحكومة الإسرائيلية في العالم العربي على أنها مجبولة بالكذب.
إن أكبر كذبة إسرائيلية على الإطلاق، هي التي تتعلق بالجريمة الصهيونية الكبرى المتمثلة في التطهير العرقي، التي قامت بها العصابات الصهيونية في فلسطين منذ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، والتي أدت إلى طرد 400 ألف فلسطيني بحلول 14 أيار/ مايو 1948، عندما أعلن المستوطنون الصهاينة قيام دولة إسرائيل. وقد طرد الصهاينة 350 ألف فلسطيني إضافي في الفترة ما بين 14 أيار/ مايو وكانون الأول/ ديسمبر 1948. وقد تخلل عملية طرد الفلسطينيين ارتكاب العصابات الصهيونية عشرات المذابح، بما في ذلك الاغتصاب الجماعي للنساء الفلسطينيات. لكن حتى اليوم، وعلى الرغم من كل الأدلة، تصر إسرائيل ومناصروها على أن إسرائيل لم تطرد أحدا، وأن الفلسطينيين قد غادروا وطنهم بمحض إرادتهم.
وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أصرت الحكومة الإسرائيلية على أن القادة العرب هم الذين دعوا الفلسطينيين عبر بيانات إذاعية إلى مغادرة فلسطين، حتى تتمكن الجيوش العربية من الدخول إلى فلسطين وطرد اليهود المستعمرين، وبأن الفلسطينيين قد غادروا وطنهم من تلقاء نفسهم تنفيذا لهذه الأوامر. وفي حين أظهرت الدراسات البحثية الدقيقة منذ الخمسينيات من القرن الماضي بأنه لم يتم بث مثل هذه البيانات الإذاعية على الإطلاق، وأن كل البيانات التي أذيعت عبر الإذاعات العربية كانت تدعو الفلسطينيين إلى الصمود في أراضيهم، لم تتمكن إسرائيل من عرض تسجيل واحد لإثبات مزاعمها الدعائية، التي كانت تأمل أن تبرئها من تهمة ارتكابها جريمة الحرب المتمثلة في التطهير العرقي. وفي الواقع، أثبتت الأبحاث أن البرامج الإذاعية الصهيونية هي التي حثت الفلسطينيين على النزوح من خلال اختلاق الأكاذيب، بما في ذلك شن حرب نفسية لإثارة الذعر بين الفلسطينيين عبر ادعائها بأن الأمراض الوبائية منتشرة بين الفلسطينيين.
تواكب هذه الأكاذيب الإسرائيلية الرسمية المستمرة، بأنها لم تقم بتهجير الفلسطينيين تلك الأكاذيب الصهيونية الأخرى، التي تم تقديمها للمجتمع الدولي وللفلسطينيين منذ ولادة الحركة الصهيونية، وهي أنه لم تكن لدى الصهاينة أي نية على الإطلاق للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين أو طردهم. فعندما واصل الفلسطينيون في عام 1923 احتجاجاتهم أمام السلطات الاستعمارية البريطانية بأن الصهاينة يسعون لسرقة بلادهم وطردهم منها، رفض المفوض السامي اليهودي والصهيوني البريطاني لفلسطين هربرت صموئيل الاحتجاجات والشكاوى الفلسطينية، ووصفها بأنها لا أساس لها من الصحة. وفي اجتماعاته مع الحكومة البريطانية عام 1923، صوّر صموئيل المعارضة الفلسطينية للصهيونية على أنها مبنية على “سوء فهم” لأهداف الحركة الصهيونية، وأن القادة الصهاينة لم تكن لديهم أي نية لمصادرة الأراضي العربية، أو إغراق البلاد بالمهاجرين اليهود.
إلا أن حقيقة أن غالبية أولئك الذين يعيشون في غزة اليوم هم أنفسهم فلسطينيون، أو يتحدرون من فلسطينيين، كانت إسرائيل قد طردتهم في عام 1948، لها علاقة وثيقة بالمطلب الإسرائيلي الحالي بأن يقوم سكان غزة بالنزوح إلى صحراء سيناء المصرية، أو أن يكونوا مستعدين للموت في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل عليهم. وتكمن المفارقة في جهود التطهير العرقي هذه، في حقيقة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد اعتمدت القرار رقم 194 في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1948، الذي يطالب إسرائيل بإعادة الفلسطينيين الذين طردتهم إلى وطنهم، وهو القرار الذي يتم إعادة تأكيده سنويا، وما زالت إسرائيل تنتهكه. هذا هو جوهر قيام إسرائيل بارتكاب المذبحة الإسرائيلية المستمرة اليوم.
فلم تتجرأ الأمم المتحدة ولا مسؤولوها الخاضعون لسيطرة وإملاءات الولايات المتحدة، على المطالبة بأنه إذا كان على سكان غزة الرحيل إلى أي مكان، فيجب السماح لهم بالعودة إلى أراضيهم وديارهم داخل إسرائيل، كما يطالب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. ومع ذلك، لم يجرؤ لا أنطونيو غوتيريش ولا أي من أتباعه على تقديم مثل هذا الطلب، ولم يحاسبوا إسرائيل على انتهاكها المستمر لقرارات الأمم المتحدة. وقد كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحده، في رده على الضغوط الإسرائيلية والأوروبية والأمريكية للسماح لإسرائيل بطرد الفلسطينيين إلى مصر، هو مَن اقترح أن تقوم إسرائيل بنقل الفلسطينيين إلى صحراء النقب.
ومن أكاذيب إسرائيل العديدة بعد عام 1967، أنها كانت تحتجز الأراضي الفلسطينية المحتلة وسكانها الفلسطينيين كرهائن، حتى يوافق “العرب” على الاعتراف بها والتوصل إلى السلام معها، عندها ستعيد الأراضي وتطلق سراح السكان الفلسطينيين المحتجزين كرهائن. وقد تجسد ذلك في الصيغة الإسرائيلية والأمريكية لمبدأ “الأرض مقابل السلام”. ونظرا للأكاذيب المذهلة التي تروج لها إسرائيل بشكل منتظم، فمن الصعب أن يصدق أي شخص هذه الادعاءات (بما في ذلك السلطة الفلسطينية وغيرها من الزعماء العرب الذين يتظاهرون بتصديقها أحيانا)، باستثناء السذج.
أما مسألة خطف المدنيين كرهائن للمساومة على إطلاق سراح السجناء، فهي في الواقع ابتكار إسرائيلي محض لم يسبقها فيه أحد، حيث كانت إسرائيل هي من أدخل هذه الممارسة إلى الشرق الأوسط، أو بالأحرى إلى العالم أجمع. ففي شهر كانون الأول/ ديسمبر 1954، قامت طائرات مقاتلة إسرائيلية بخطف طائرة مدنية سورية؛ بهدف احتجاز ركابها كرهائن لمبادلتهم مع أربعة جنود إسرائيليين كانوا محتجزين في سوريا. وذكر رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، موشيه شاريت، في مذكراته، أن وزارة الخارجية الأمريكية أبلغته بأن “عمليتنا هذه لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدول”. وبما أن الإدانة الدولية لإسرائيل حالت دون التوصل إلى استخدام الركاب المختطفين في صفقة تبادل، قامت إسرائيل بشن غارة على سوريا بعد عام، في كانون الأول/ ديسمبر 1955، مما أسفر عن مقتل 56 سوريا، من بينهم ثلاث نساء، وقامت باختطاف 30 سوريا كرهائن لمبادلتهم بالجنود الإسرائيليين الأربعة. وقد أعربت الولايات المتحدة حينها عن “صدمتها” من إجرام إسرائيل، وأيدت قرارا أصدرته الأمم المتحدة يدين انتهاك إسرائيل لخط الهدنة.
وفي حين أن اختطاف المدنيين كرهائن هو عمل غير قانوني، فإن محاولة تقديم الفلسطينيين على أنهم “برابرة” رائدون في هذا المجال لأنهم قاموا به، بينما الإسرائيليون “المتحضرون” لم يكونوا أول من قام بمثل هذه العمليات فحسب، بل إنهم قد اختطفوا ما يزيد عن 8300 فلسطيني يقبعون اليوم في زنزاناتهم، من بينهم 85 امرأة و350 طفلا (وكانت إسرائيل قد اختطفت أكثر من 2000 من الرهائن من الضفة الغربية والقدس الشرقية فقط منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر)، هي جزء لا يتجزأ من الدعاية العنصرية المستمرة.
ومنذ عام 1967، تقوم إسرائيل باحتجاز الشعب الفلسطيني بأكمله الذي يعيش في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية كرهائن. ومنذ عام 2005، حبست إسرائيل سكان غزة في أكبر سجن مفتوح في العالم، وهي الآن تقوم بإبادتهم ما لم يوافقوا على النزوح. أما إدانة الغرب لحماس بسبب احتجازها مدنيين إسرائيليين كرهائن (وعددهم ضئيل للغاية مقارنة بعدد المدنيين الفلسطينيين الذين اختطفتهم إسرائيل قبل أو منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) باعتبارها حركة همجية، فهو ما يؤكد من جديد النفاق المطلق للقيم “الكونية” لهذا الغرب الليبرالي العنصري.
وبدلا من مساندة إسرائيل في حربها الإبادية، كان ينبغي على الأمريكيين والبريطانيين والأوروبيين، أن يصدروا تعليمات لمواطنيهم من المستوطنين غير الشرعيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية لإخلاء الأراضي المحتلة والعودة إلى بلدانهم الأم. ففي عام 2017، قُدر أن حوالي 65 ألف مواطن أمريكي هم مستوطنون استعماريون في الضفة الغربية وحدها (أي 15 في المئة من إجمالي عدد المستوطنين في ذلك الوقت)، دون احتساب عددهم في القدس الشرقية. ويشكل هؤلاء المستوطنون ما يقرب من ثلث المستوطنين الأمريكيين الذين يعيشون في إسرائيل والأراضي المحتلة البالغ عددهم 200 ألف مستوطن، ويعد العديد منهم أنفسهم “ليبراليين” و”يساريين”، وهم من المتعلمين والحاصلين على درجات علمية عالية.
إن حقيقة أن ما لا يقل عن مليون يهودي إسرائيلي يحملون جنسيات أوروبية وأمريكية، يجب أن تدفع الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى دعوتهم للعودة إلى بلدانهم الأصلية لضمان سلامتهم، وحتى يتمكنوا من إفساح المجال للفلسطينيين في غزة، الذين احتلوهم وطردوهم من وطنهم في المقام الأول، للعودة إلى ديارهم وأراضيهم الأصلية في إسرائيل وفقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. لم يجرؤ أي زعيم عربي، ناهيك عن السلطة الفلسطينية، على تقديم مثل هذه المطالب سراً أو جهاراً للأمريكيين والأوروبيين إلا أن هذه المطالب التي تتسم بالعقلانية، والتي تتماشى مع الشرعية الدولية، من شأنها أن تساهم في إنهاء إصرار إسرائيل العدواني على الحفاظ على التفوق العرقي اليهودي، والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في وطن الفلسطينيين.
وقد تجاوز حجم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر حجم حروبها الوحشية السابقة. فقد أدى الهجوم الصهيوني عام 1947/1948 لاحتلال فلسطين، إلى مقتل ما يزيد عن 13 ألف فلسطيني، أكثر من 11 ألفا كانوا من المدنيين (وذلك دون احتساب 3700 من الجنود العرب النظاميين والمتطوعين غير النظاميين الذين قضوا في الحرب). وقد أدى الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 إلى مقتل ما يزيد عن 18 ألف مدني فلسطيني ولبناني. وقد تسببت حرب الإبادة الجماعية المستمرة التي تشنها إسرائيل على غزة حتى الآن، في مقتل ما يزيد على 20 ألف مدني فلسطيني (ما يقرب من 15 ألف قتيل مؤكد وأكثر من 6000 مفقود تحت الأنقاض)، وهو ما يفوق المذابح الإسرائيلية السابقة.
لقد روجت الحكومة الإسرائيلية لسيل من الأكاذيب حول الشعب الفلسطيني، وحول “ديمقراطية” دولتها الاستعمارية الاستيطانية ونظام التفوق العرقي اليهودي فيها منذ عام 1948. ومع ذلك، وبغض النظر عن مدى فضح أكاذيبها بانتظام منذ تأسيسها، فإن إسرائيل تمضي في مزاعمها الدعائية دون أن تقف الحقائق عائقا أمامها، حيث إنها على يقين من أن افتراءاتها ستحظى دائما بمصداقية لدى الإسرائيليين ولدى الغرب، لأنها مدعومة بالعنصرية المعادية للفلسطينيين والعرب والمسلمين. أما خارج الغرب، لا سيما في العالمين العربي والإسلامي، فلا تتمتع الدعاية العنصرية الإسرائيلية بأي مصداقية على الإطلاق، ولا يجب ولا ينبغي أن يكون لها ذلك.
للإطلاع على النص باللغة الانجليزية من (هنا)