بقلم جوزيف فهيم
ترجمة وتحرير مريم الحمد
“هل كانت كليوباترا سيدة سوداء؟”، هذا السؤال البسيط هو أهم ما أثارته ملحمة نتفليكس الأخيرة، التي أدت دور كليوباترا فيها الممثلة من أصل إفريقي، كلوديت كولبيرت الحائزة على جائزة الأوسكار، أما في المسلسل نفسه، فقد تساءلت النخبة الرومانية بمزيج من الحيرة والاشمئزاز عن جنس ملكة مصر، الأشهر عبر التاريخ، على لسان الأرستقراطي القوقازي كولبير “هل تعتقد أنها جميلة؟”.
جيش #كليوباترا يثور.. #مصر تتهم نتفلكس بتزييف التاريخ، بعد عرض فيلم وثائقي يظهر الملكة ببشرة سمراء! pic.twitter.com/fnVD1a84g3
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) April 28, 2023
لم يكن العرق هو السمة المميزة لهوليوود في ذلك الوقت، فقد تم استبعاد المواهب السوداء من صناعة يديرها البيض الذين اعتبروا الممثلين والمخرجين الأمريكيين من أصل إفريقي غير قابلين للتسويق ولا يستحقون الصدارة، فطالما كانت القصص السوداء موجودة في هامش السينما الأمريكية، بل وتم قمعها من قبل آلة هوليوود التي كانت قدرتها التسويقية قوية جداً، فلا تستطيع الأفلام المستقلة مكافحتها بأي شكل.
في السبعينات، بدأت هوليوود تدرك أن هناك سوقاً مربحاً للغاية للقصص السوداء ولا يمكن تجاهله، وهي ذات العقلية التي انبنى عليها مسلسل كليوباترا اليوم على نتفليكس، فكسب المال هو العامل المحدد الأهم، فقد أدى المسلسل إلى ضجة كبيرة مؤخراً، بسبب اختيار كليوباترا من العرقية الأفريقية، لا سيما لدى شريحة المصريين التي يتزايد عدائها تجاه العرقية الأفريقية.
العرق “الورقة الرابحة”
يعد مسلسل كليوباترا الموسم الثاني من سلسلة وثائقية أنتجتها جادا بينكيت سميث حول الملكات الأفريقيات عبر التاريخ، كنوع من الاحتفاء بها مقابل القمع والاضطهاد من قبل أوروبا لزمن طويل، ولكن الموسم الأول الذي حمل اسم “نينجا” لم يحقق النجاح والجدل المفترض، مما أضعف إيمان سميث بنجاح كليوباترا في البداية، إلا أنها حققت مع المخرجة الإيرانية الأصل، تينا غرافي، جدلاً وانتشاراً كبيراً باعتباره شكلاً من أشكال نجاح مسلسل كليوباترا.
بعد أن تم بث مسلسل كليوباترا، هل كان المسلسل يستحق كل هذا الضجيج؟ بالتأكيد لا، فالمسلسل لا يتناول حتى وجهة نظر جديدة عن حياة الملكة المصرية، إنها نفس القصة القديمة التي يمكن توقعها والتنبؤ بها بسهولة.
لم تكن ورقة اللعب على عرق الملكة سوى حيلة تسويقية رخيصة لجذب المشتركين ليس إلا!
تقدم الحلقات الأربع سرداً مألوفاً رتيباً لصعود كليوباترا إلى العرش في عام 51 قبل الميلاد، وعلاقتها مع يوليوس قيصر إلى زواجها من مارك أنتوني ثم سقوطها، في قالب يمزج بين المقابلات مع أكاديميين أمريكيين وبريطانيين يتخللها مقاطع درامية تمثيلية من حياة كليوباترا، فقد فشلت السلسلة في الحقيقة بتقديم أي فكرة جديدة، الأمر الذي يظهر من خلال تقييمها بنسبة 11% فقط على موقع Rotten Tomatoes.
تقول الأكاديمية من كلية هاميلتون، شيلي هايلي، في الحلقة الأولى “أخبرتني جدتي لا يهمني ما يقولونه لك في المدرسة، كانت كليوباترا سوداء” وأضافت “كانت ملكة أفريقية عظيمة”، فيما قال أكاديمي بريطاني آخر “أتخيلها مجعدة الشعر مثلي”، في أمثلة على الخطاب الذي يريد أن يقدمه المسلسل عن الملكة المصرية.
حيلة تسويقية
شددت نتفليكس في بيانها الأخير عن المسلسل بالقول أن “عرق كليوباترا ليس محور المسلسل، لكننا قررنا عمداً تصويرها من أصل عرقي مختلط لنعكس النظريات حول السلالة المصرية المحتملة للملكة والطبيعة المتعددة لثقافات مصر القديمة”، كما أعطى المقطع الدعائي للمسلسل انطباعاً بأنه سوف يتمحور حول الأصول العرقية لكليوباترا، وحقق أكثر من 3 مليون مشاهدة على يوتيوب.
ذهب الجميع إلى الحديث عن “كليوباترا السوداء”، من صحافة وتلفزيون ومواقع، بما في ذلك ردة فعل المصريين التي اعتبرت “مبالغة”، فلم يهتم أحد بمتابعة المسلسل بقدر ما أطلقوا أحكاماً مسبقة أثارت الجدل.
يلمح المسلسل إلى ازدواجية كليوباترا الجنسية، وهو أمر في صميم سياسات نتفليكس، الإيجابية الجنسية والجنسانية والسيولة في أسلوب مفرط صارخ!
من يشاهد السلسلة لا يشعر بأنها تحاول إقناعه بأن كليوباترا كانت سوداء، بل تم تصوير حملة الإمبراطور الروماني أوكتافيان ضد الملكة على أنها معادية للأجانب وتحمل كراهية للنساء، دون علاقة بعرقها الأفريقي المحتمل، ولم تكن ورقة اللعب على عرق الملكة سوى حيلة تسويقية رخيصة لجذب المشتركين ليس إلا!
نظرة غربية
لقد تم تناول قصة كليوباترا أكثر من 20 مرة في السينما والدراما الغربية، مع تعديلات في كل مرة، أشهرها Asterix & Obelix الذي أدت فيه مونيكا بيلوتشي دور الملكة المصرية.
هذه المرة، وعدت نتفليكس بكليوباترا “لم ترها من قبل” ولكن ذلك لم يكن دقيقاً، فالمخرجة غرافي وقعت في فخ نظرة الرجل الأبيض في صياغتها للشخصية التي صورتها بحبها للحياة المبهرجة والحياة الجنسية بلا خجل، بل وقعت القصة في فخ تقييم الجمال بحسب المعايير الغربية.
يذكر التاريخ جمال كليوباترا وتألقها، ولكن ذلك لا يظهر في الدراما بقدر ما تركز القصص حول الملكة المصرية دوماً عن تبرير الجوانب المظلمة في حياتها، مثل قتل زوجها وإعدام ابنها بذريعة الرغبة بالبقاء.
تبتعد نتفليكس في تناولها أيضاً عن السياسة الشائكة، لكنها دائماً ما تكون صريحة بشأن الحديث عن القضايا الجنسية والليبرالية الجنسية، وهو أمر يظهر بوضوح في مسلسل كليوباترا، فالمسلسل يدافع عنها كقائدة نسائية ترفض تعدد الزوجات، ويلمح إلى ازدواجيتها الجنسية، وهو أمر في صميم سياسات نتفليكس في عموم إنتاجاتها، الإيجابية الجنسية والجنسانية والسيولة في أسلوب مفرط صارخ!
كليوباترا ومصر اليوم
لا يتطرق مسلسل كليوباترا إلى أي تشابه بين التاريخ وواقع مصر اليوم، فقد كان من الممكن التلميح إلى التشابه بين معاملة روما السيئة لمصر قديماً وصندوق النقد الدولي اليوم، بدلاً من ذلك، يظهر الطرح في المسلسل منسلخاً عن المقاربة مع واقع مصر اليوم.
رداً على نتفليكس، تم نشر فيلم وثائقي مستقل من إخراج الأبيض الجنوب أفريقي كورتيس رايان، على يوتيوب في نفس اليوم الذي تم فيه إطلاق مسلسل كليوباترا، ويحوي مقابلات بما فيها مع صانع أفلام مصري وعالم آثار مصري، وحاول الفيلم إثبات أن كليوباترا لم تكن سوداء.
في كلتا الحالتين، لا تنقص هذه الأفلام القيمة الجمالية والفنية التي قد تبدو متقنة في كثير من الأحيان، ومع ذلك، يكون تركيزها الأشد هو صنع الحماسة من خلال موضوع مثل إثارة الجدل حول العرق.
أنا جزء من الأقلية القبطية العربية العلمانية، ولذلك يعد تقديم الأقليات على الشاشة من اهتماماتي الأساسية، وقد أصبح اليوم هذا التقديم هو المجال الوحيد للرقابة في السينما والتلفزيون، لذلك أصبح اتخاذ موقف من ذلك أمراً ضرورياً، ففي العقد الأخير، ظهرت على الشاشة صناعة كبيرة مؤلفة من كتاب ومنتجين خبزهم وقوتهم مبني على كيفية تقديم الأقليات وتصويرها في أعمالهم.
لم يكن تاريخ الفن والسينما جزءاً من الحديث أبداً، عادة ما يتم تجاهل التساؤلات الفلسفية العميقة حول الفن والأخلاق، فبالنسبة للصحافة السائدة، لا يهم كيف تعامل المسلسل مع إرث كليوباترا من الناحية الفنية أو السرد التاريخي، بل انصب جل الاهتمام على بشرتها وعرقها، وعلى الموقف العنصري المصري من البعض تجاه السود، مما ادى إلى خلط الأوراق، حتى أن بعض الباحثين المصريين غامر باستكشاف علاقة مصر الإشكالية بالتاريخ الفرعوني.
ربما يكون أفضل المناقشات التي استمعت إليها ما قام به الكاتب المصري المنفي بلال فضل والروائي المصري المقيم في لندن شادي لويس بطرس، من تسليط الضوء على حقيقة أن علاقتنا بمصر القديمة نشأت في الغالب في بداية القرن العشرين كوسيلة لمحاربة الحكم الاستعماري البريطاني.
ومن المفارقة أن ظهور علم المصريات لم يكن مختلفاً عن الدافع الذي أدى لظهور حركة العداء المصرية تجاه ما يسمى “المركزية الأفريقية”، التي أرادت بالمثل استعادة التاريخ الأفريقي بعيداً عن التأثير الاستعماري.
بالنسبة لبلد لم يعد يمتلك شيئاً، فإن مجرد التلميح لإعادة صياغة تاريخه لا يمكن أن يمر بشكل عرضي!
لاشك أن جزءاً كبيراً من رد الفعل المصري تجاه مسلسل كليوباترا عنصري بطبيعته، لكنه ليس بمعزل عن عوامل أخرى، فلا يزال العديد من المصريين مستعمرين بمعايير الجمال الاوروبية، حيث يشعر الكثيرون بالقلق والارتباك والعجز تجاه القوى الغربية الغنية، خاصة صندوق النقد الدولي ومن خلفه من الأمريكيين والأوروبيين الذين يتحكمون بشكل ما في تشكيل واقع مصر اليوم.
لا شيء يبرر الهجمات العنصرية، لكن مصر لا تزال تعاني من “هزيمة جماعية” متمثلة بأسوأ أزمة اقتصادية منذ سنين طويلة، موت الطبقة الوسطى والانتقادات اللاذعة تجاه الرئيس المصري السيسي الذي لم يعد يحظى بشعبية ولكن لا يمكن الإطاحة به أيضاً، بالإضافة إلى التأثير المتزايد لمنطقة خليجية ثرية مصرة على شراء البلد بثمن بخس.
لم يشعر المصريون باليأس كما يشعرون اليوم منذ هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967، فمصر اليوم دولة منهارة بلا منقذ، واستفزاز نتفليكس كان آخر ما ينقصها، بالنسبة لبلد لم يعد يمتلك شيئاً، فإن مجرد التلميح لإعادة صياغة تاريخه لا يمكن أن يمر بشكل عرضي!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)