بقلم صفاء الخطيب – يروي إنجيل يوحنا قصة معجزة وقعت في حفل زفاف في بلدة قانا الجليل، والتي وُصفت بأنها أولى معجزات المسيح عيسى ودليل على نبوته، عندما حوّل الماء إلى نبيذ.
ومنذ ذلك الحين أي بعد ألفي سنة، لا تزال قرية الجليل تشهد معجزاتها الخاصة، ففي ثاني أيام عيد الفطر في أيار/ مايو سنة 2021، تحوّل حفل زفاف في قرية كفر كنا في الجليل إلى معركة ضارية بين القرويين والمتسللين المدججين بالسلاح الذين حولوا عيدنا المقدس إلى مذبحة.
كنت قد انتهيت لتوي من تحضير كوب من القهوة لأرتشفه مع عائلتي. وكنا قد قررنا عدم مغادرة المنزل للاحتفال بالعيد، لأن مصير الوطن بأكمله على المحك، من النهر إلى البحر. شعرت كما لو أن الاحتلال الإسرائيلي قرر أن يزين أيامنا بالخوف وبدماء الشهداء، بدلاً من أنوار العيد المعتادة ورائحة لحم الضأن المشوي والكحك المليء بالتمر.
في حوالي الخامسة مساءً، سمعت أصوات أشخاص يتحدثون باللغة العبرية وصخبًا غير مألوف قادم من الشارع؛ فهرعت مسرعة من المطبخ لأخبر والدي، كمال الخطيب، أن شيئًا ما كان يحدث، لأفاجأ بأفراد وحدة مكافحة الإرهاب الإسرائيلية يخلعون باب منزلنا، ويقتحمون المكان وانتشروا في أرجاء منزلنا.
لم أكن أعرف ماذا أفعل، هرعت إلى غرفتي لأرتدي حجابي، وأخفيت هاتفي المحمول تحت سريري. عدت لأجد والدتي وشقيقاي في غرفة المعيشة، محاطين بعناصر الشرطة الذين صوبوا أسلحتهم إلى وجوههم وأصابعهم على الزناد.
وحاصر عناصر آخرون في الوحدة والدي في مكتبه، وكبّلوا يديه بأشرطة بلاستيكية، وصادروا متعلقاته الشخصية ونهبوا الغرفة. جلست بجانب والدتي وإخوتي وبدأت أشرب قهوتي وأنا أجد صعوبة في الاسترخاء، ثم خرج أبي من مكتبه مكبّل اليدين، وأمرنا ألا نستسلم لخوفنا وأن نعتني بأمنا، ثم اقتادته عناصر الشرطة معهم.
الاختناق بالغاز المسيل للدموع
هرعت إلى غرفتي على الفور لأخذ هاتفي المحمول، وكتبت منشورًا على “فيسبوك” عن اقتحام الشرطة لمنزلنا واعتقال والدي، ثم فتحت النافذة وبدأت بثا مباشرا، لتصوير القوات الإسرائيلية في الشارع وهي تضع والدي في شاحنة بنية اللون لتأخذه بعيدًا، وكانت هناك عدة شاحنات أخرى في الأسفل لإغلاق الشارع وحراسة عملية الاعتقال.
لكن بينما كانوا يستعدون للانطلاق، تعالت الأصوات في شارعنا، وشاهدت الضباط يطلقون قنابل الصوت باتجاه عشرات الشبان الذين احتشدوا، في غضون دقائق فقط من اعتقال والدي، على مقربة من منزلنا، ورشق الشبّان القوات بالحجارة، لترد الشرطة عبر إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي.
واصلتُ البث المباشر حوالي 10 دقائق، حتى هددتني الشرطة، وطلبت مني إغلاق النافذة. ورغم اختناقي بالغاز المسيل للدموع، إلا أنني واصلت توثيق ما يحدث، حتى اصطدمت قنبلة صوتية بالنافذة وأجبرتني على الانتقال من مكاني.
صعدت إلى سطح منزلنا؛ لكن سرعان ما أدركت أنني لا أستطيع التصوير من هناك أيضًا، لأن العديد من الشبان تسلقوا مئذنة المسجد المجاور لمنزلنا، مرفرفين بالعلم الفلسطيني، ولم أكن أريدهم أن يظهروا في الفيديو، لذلك عدت إلى الداخل.
في هذه المرحلة؛ اضطررنا إلى إغلاق جميع النوافذ والأبواب بسبب الرائحة القوية للغاز المسيل للدموع، والتي كانت تُطلق تقريبًا من بنايتنا نفسها تجاه الشباب المتظاهرين، وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد استولت بشكل أساسي على بنايتنا وساحتنا باعتبارها ثكنات عسكرية لها، حيث هاجموا شباب القرية بشكل خسيس.
جلست أنا وأمي وإخوتي نراقب من خلال كاميرات المراقبة، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها رؤية أي شيء، حيث تم إغلاق جميع النوافذ، واستمرينا على ذلك الوضع حتى وصلت فرقة جديدة من الشرطة الإسرائيلية لاقتحام المنزل مرة أخرى، وأخذوا الحاسوب الخاص بكاميرات المراقبة وخلعوا باب المخزن الخشبي، واستخدموه كحاجز ضد الأحجار التي كان يرميها الشباب.
وبعد ذلك صعد العشرات من الضباط إلى سطح بنايتنا لإطلاق النار من هناك، وكنا محاصرين بالداخل وغير قادرين على رؤية ما كان يحدث في الخارج، لكن سمعنا إطلاق نار كثيف وهتافات “الله أكبر”، ولم نكن نعرف ما إذا كان والدي لا يزال في الشاحنة بالخارج، أو ما إذا كانوا قد أخذوه بعيدًا.
بقينا على هذا النحو قرابة الساعة ونصف حتى طرقت مجموعة من رجال القرية بابنا، وكانوا يختنقون من الغاز المسيل للدموع وملابسهم ملطخة بالماء، لكنهم أكدوا لنا أن القوات الإسرائيلية غادرت قريتنا التي تحولت إلى منطقة حرب منذ فترة وجيزة.
الدفاع عن كرامتنا
أخذت الشرطة والدي بعيدًا، ولكنهم نفذوا هذه العملية بصعوبة بالغة، فقد اضطروا لاستدعاء العشرات من سيارات الشرطة الإسرائيلية، وبفضل القرويين الذين قاوموا بكل قوتهم، وقاتلوا لأطول فترة ممكنة، وسدوا الشوارع ودافعوا عن كرامة قريتنا بكل حجر يمكنهم الوصول إليه.
بهذه الطريقة؛ اتحدت القرية في مواجهة قوات الاحتلال التي سلبت أماننا وحوّلت قريتنا إلى مكان للإرهاب، كل ذلك لمحاكمة رجل كان قد كتب على فيس بوك منشورًا يقول فيه: “تحيا غزة، تحيا يافا، تحيا القدس!”، ثم وجُهّت إليه تهمة التحريض.
وفي تلك الليلة أصيب عشرات الشبان من أبناء القرية بجروح خلال مواجهات مع قوات الاحتلال في قريتنا ومحيطها، ثم اعتُقِل والدي وأمضى 18 يومًا في سجن الجلمة بالقرب من حيفا في ظروف مهينة، ثم نُقِل إلى سجن مجدّو وأمضى هناك 19 يومًا، حيث تم اقتياده مرارًا وتكرارًا إلى قاعات المحكمة، ولم نتمكن من رؤيته طيلة هذه الأيام.
كان يتعيّن عليه تهذيب لحيته بقصافة أظافر للحفاظ على مظهر لائق، لأنه لم يُسمح له باستخدام المقص، مع عدم وجود مرآة بطبيعة الحال، ولجأت الشرطة إلى أساليب استجواب وضيعة وبشعة لإجباره على الاعتراف بتهم ملفّقة، مثل الدعوة إلى العنف والتحريض على “الإرهاب” والانتماء إلى منظمة “محظورة” (الحركة الإسلامية.)
أُطلق سراحه من السجن في 20 حزيران/يونيو 2021 بشرط أن يغادر قرية كفر كنا لمدة 45 يومًا ويرفض إجراء أي مقابلات إعلامية وعدم إلقاء خطبة الجمعة وعدم الانخراط في أي شيء على منصات التواصل الاجتماعي أو الالتقاء بمجموعة من الأشخاص (أكثر من 15 شخصًا) لمدة ثلاثة أشهر.
ظل الانتفاضة
مرّت أكثر من سنة ونصف منذ أن أصدرت محكمة إسرائيلية في مايو/ أيار 2021 أوامر بإجبار العائلات في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية المحتلة على إخلاء منازلهم، لإفساح المجال للمستوطنين الإسرائيليين، الخطوة التي أذكت موجة من الاحتجاجات زادت حدتها مع تصاعد هجمة الاحتلال على المسجد الأقصى.
وردًّا على هذه الاقتحامات المتكررة على المسجد الأقصى؛ شنّت حركة حماس هجومًا عسكريًا بإطلاق مجموعة من الصواريخ باتجاه أهداف إسرائيلية، الأمر الذي اندلعت على إثره حرب استمرت 11 يومًا أمطرت فيها “إسرائيل” غزة بوابل من الصواريخ، وانتهت باستشهاد حوالي 250 فلسطينيًا في غزة، من بينهم عشرات النساء والأطفال، مقابل مقتل 13 شخصًا في إسرائيل.
في غضون ذلك؛ امتدت المواجهات لتشمل المواطنين الفلسطينيين في “إسرائيل”، حيث وقف المئات في الـ 48 تضامنًا مع عائلات الشيخ جراح وضد اقتحام المسجد الأقصى. وفي المدن المختلطة بين العرب واليهود، مثل عكا واللد، هاجم المستوطنون مواطنين فلسطينيين، مما دفع نتنياهو إلى إعلان حالة الطوارئ واستدعاء شرطة الحدود لفرض السيطرة. وفي الوقت نفسه؛ شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي حملة اعتقالات واسعة ضد فلسطينيين، بمن فيهم قاصرون، بهدف تصفية الحسابات.
على الرغم من مرور أكثر من سنة ونصف على الانتفاضة وإطلاق سراح والدي، إلا أن محاكمته لا تزال جارية، مع تقديم أكثر لوائح اتهام أكثر سخافة ضده، إلى جانب فرض حظر جديد على السفر لمدة شهر قابل للتجديد. وفي الواقع؛ ما زالت الانتفاضة تلقي بظلالها، وما زلنا نشهد ذلك كفلسطينيي 48 في جميع أنحاء القرى والمدن لدينا، مع صدور عشرات التهم الموجهة ضد أكثر من 600 متهم، رُبعهم من القصر. ويضطر العديد من الشباب العرب، الذين اعتُقلوا بسبب أفعال مثل حمل العلم الفلسطيني أو إلقاء الحجارة، إلى دفع ثمن باهظ من خلال المحاكمات الصورية وأحكام السجن الباهظة، لترسل المحكمة الإسرائيلية بذلك تهديدًا واضحًا لكل من قد يفكر في مقاومة الاحتلال أو الانتفاض من أجل شعبه ودفاعًا عن كرامته في الوقت الذي تواصل فيه الشرطة الإسرائيلية التمتع بالإفلات من العقاب على انتهاكاتها ضد الفلسطينيين.
استهداف الجميع
خلال الانتفاضة؛ بدت “إسرائيل” وكأنها وهم بالنسبة لنا كمواطنين فلسطينيين في “إسرائيل” التي لطالما سعت إلى تجريدنا من هويتنا من خلال عملية كي الوعي ومحاولة عزلنا عن أهلنا في الضفة الغربية المحتلة وغزة والقدس من خلال قوانين تهدف إلى خنقنا وتجريمنا. ومن خلال أحداث سنة 2021؛ أعتقد أن “فلسطينيي 48” كانوا عاملاً حاسمًا في تشكيل صورة جديدة ومختلفة لتاريخ نضال شعبنا بعد أوسلو، ليس فقط لأننا اتحدنا جميعًا كشعب واحد للدفاع عن المسجد الأقصى وشيخ جراح؛ بل لأننا وقفنا وجهًا لوجه أمام المحتل.
كانت هذه أيام مليئة بالرعب والقلق لم نشهد مثلها من قبل؛ حيث قام فيها المستوطنون بتمييز أبواب منازلنا بكلمة “عربي” بالعبرية، مما يسهل عليهم العثور علينا ومهاجمتنا بشكل فردي في المدن المختلطة، وكانوا يقومون بمهاجمتنا في البث المباشر ويبتهجون بضرب العربي الوحيد الذي يجدوه في وسطهم، وكنا نتجنب مغادرة حدود قرانا للعبور إلى البلدات اليهودية لأداء مهامنا اليومية خوفًا من التعرض للعنف.
في الوقت نفسه؛ لم نكن نعرف أن لدينا روح المقاومة القوية في داخلنا – تلك التي ترفض العيش بدون هوية أو كرامة – رغم إجبارنا على قبول ذلك. إن ما عشناه وما نعيشه الآن وما يعيشه كل فلسطيني هو ثمن الدفاع عن حقنا في أرضنا كفلسطينيين.
لم تكن الأحداث التي وقعت في قريتنا كفر كنا في تلك الليلة من شهر أيار/ مايو 2021 فريدة من نوعها، فالاحتلال يستمر في اقتحام منازل الفلسطينيين كل يوم وليلة، واعتقال الآباء والأطفال وترهيب العائلات في الضفة الغربية المحتلة، أو إبادتهم من خلال الغارات الجوية على غزة. لم تكن هذه الحرب أبدًا حربًا مقصورة على أولئك الذين يتصدون للعدوان الإسرائيلي، ففي هذه الحرب الكل مستهدف ولا أحد معفي من مكيدة الاحتلال.