مع منصبه الجديد… على ستارمر الابتعاد عن قواعد الازدواجية بين فلسطين وأوكرانيا

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

رغم إيصال الرسالة بوضوح إلى حكومات الوسط  في مختلف أنحاء العالم الغربي، إلا أن إخفاقاتها العديدة داخلياً وخارجياً جعلتها غير قادرة على فهم الرسالة، وكأنهم قد صموا وسط هدير الاحتجاج الشعبي.

يمكن وصف حالتهم على النحو الآتي، فهي الحكومات التي وصلت إلى السلطة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين وهي تفشل في تعديل أسوأ ما في الرأسمالية، بل قد غرقوا بها حتى باتوا يترأسون فجوة الثروة المتزايدة!

لقد أخفقوا في الحفاظ على دولة الرفاهية والخدمات الأساسية التي يطلبها سكانهم، وما زالوا يخوضون حروباً لا ينتصرون فيها، وما انفكوا يفشلون مراراً وتكراراً في توليد مجتمعات مستقرة.

علاوة على ذلك، فلا يمكنهم أن السماح للبنوك بالإفلاس، وفي الوقت نفسه يتجاهلون المتقاعدين منهم، وباسم الدفاع عما يسمونه بالديمقراطية الليبرالية، يلجأون ببساطة إلى وسائل غير ليبرالية، والتي تتمثل اليوم بوضوح بصعود اليمين المتطرف.

في فرنسا مثلاً، كانت الرسالة واضحة للغاية، فقد تحولت الانتخابات السريعة التي دعا إليها إيمانويل ماكرون إلى كارثة انتخابية بالنسبة له، فعلى عكس كل التوقعات، حقق اليسار الذي ظل خاملاً ومستبعداً لفترة طويلة، النصر في الانتخابات البرلمانية، فيما تراجع اليمين المتطرف إلى المركز الثالث، وبهذا، يكون الشعب الفرنسي قد وجه رسالة واضحة تؤكد على تعطشهم وشهيتهم للتغيير الحقيقي والجذري.

رسالة واضحة

في بريطانيا، تم تسليم الرسالة نفسها إلى كير ستارمر، الذي فاز بأغلبية برلمانية بعدد ضئيل من الأصوات، فقد حصل ستارمر على 34% فقط من الأصوات، أي أقل بـ 600 ألف صوت مما حصل عليه جيريمي كوربين عام 2019 وأقل بـ3 ملايين صوت مما حصل عليه زعيم حزب العمال السابق عام 2017.

في الدوائر الانتخابية ذات الأغلبية المسلمة، كانت الرسالة الموجهة إلى ستارمر أكثر وضوحاً، حيث أظهر تحليل تمت مشاركته مع موقع ميدل إيست آي، أنه في أكبر 20 دائرة انتخابية ذات أغلبية مسلمة، فقد انخفضت حصة حزب العمال من الأصوات بنسبة تتراوح بين 15% و44.6%. 

إن قوة أصوات المسلمين، التي أطاحت بأربعة نواب من حزب العمال لصالح المستقلين المؤيدين لغزة، لا ينبغي أن تكون مفاجأة لستارمر، الذي بذل قصارى جهده لمغازلة اللوبي المؤيد لإسرائيل، فقد استحق أصوات المسلمين الرافضة

تجدر الإشارة إلى أنه منذ انتخابات 2019، انخفضت نسبة الحزب بنسبة 44.6% في برادفورد ويست، و35.5% في برمنغهام هول جرين وموسيلي، و40.5% في برمنغهام ليديوود، و36.2% في ديوسبري وباتلي، و35% في ليستر ساوث، و20% في إلفورد نورث، و15% في لوتون نورث.

عندما سُئل عن علاقته بالجالية الإسلامية، كان رد رئيس الوزراء البريطاني الجديد سلبياً حين قال: “لدينا تفويض قوي لكننا لم نحصل على الأصوات، رغم أنني لا أعتقد أن هناك ما يعارض تفويضنا، فهو تفويض يهدف للتغيير والتجديد والسياسة كخدمة عامة”.

رغم كلام ستارمر، إلا أن رفض الجالية المسلمة للحزب لم يمر دون أن يلاحظه أحد كبار الشخصيات في حزب العمال، فقد اعترف وزير الصحة الجديد، ويس ستريتنج، الذي صوت عدة مرات كنائب معارض ضد وقف إطلاق النار في غزة وحصل على 528 صوتاً في دائرة إلفورد نورث، بما يلي: “بالنظر إلى النتائج، فمن الواضح جداً أن غزة كانت قضية مؤثرة في نتائج حزب العمال في هذه الانتخابات”.

يعد المسلمون أكبر كتلة تصويتية في الحزب، وهذا لا يتعارض مع كوربين ولا اليسار الشعبوي، فهما متفقان على النظر إلى فلسطين وعلى معارضة الحروب الغربية المدمرة في الدول الإسلامية، فقد عارضها كوربين بإصرار وشجاعة، وكان افتراقه مع اليسار في قضايا اجتماعية فقط.

إن قوة أصوات المسلمين، التي أطاحت بأربعة نواب من حزب العمال لصالح المستقلين المؤيدين لغزة، لا ينبغي أن تكون مفاجأة لستارمر، الذي بذل قصارى جهده لمغازلة اللوبي المؤيد لإسرائيل، فقد استحق أصوات المسلمين الرافضة، وبدلاً من الاعتراف بذلك، اعتبر أنه يستطيع تحصيل تلك الأصوات من المحافظين الساخطين على حزبهم. 

إعادة تدوير الفشل

لقد قام زعيم حزب العمال فعلاً بتفكيك مبادئ رئيسية لسياسة حزبه  حول فلسطين، من خلال القول بأن حزب العمال لن يعترف إلا بالدولة الفلسطينية التي تكون مقبولة لدى إسرائيل، كما رفض معاداة الصهيونية وحركة المقاطعة، التي كان قد ناضل من أجلها كمحامٍ لحقوق الإنسان.

لم يكتف ستارمر بدعم القصف الإسرائيلي الوحشي على غزة عندما كرر مراراً بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، بل صرح في مقابلة مع بي بي سي بأن لإسرائيل الحق في حجب الكهرباء والمياه عن غزة وقام بالتصويت ضد وقف فوري لإطلاق النار.

إن إعادة تدوير القادة الذين فشلوا هي إحدى سمات الإمبراطورية المحتضرة، فديفيد كاميرون، الذي كان مسؤولاً عن الحرب الأهلية الليبية، قد تمت إعادة تدويره ليصبح وزيراً للخارجية من قبل ريشي سوناك، والآن يتم إعادة تدوير بلير وفريقه ليستخدمهم ستارمر!

يذكر أنه عندما سُئل أحد كبار مستشاري ستارمر لشؤون الشرق الأوسط، في وقت مبكر من حرب غزة، عن عدد القتلى الفلسطينيين الذي سوف يعلن حزب العمال بعده الدعوة إلى وقف إطلاق النار، أجاب: “كل ما يتطلبه الأمر”.

علاوة على ذلك، فقد منع ستارمر الممثلين المنتخبين من حضور المسيرات المؤيدة للفلسطينيين، كما منع حزبه حملة التضامن مع فلسطين من وصف إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري في أدبيات مؤتمر الحزب الأخير.

تجدر الإشارة إلى أن ستارمر، كزعيم حزب العمال، قد رفض مقابلة أي وفد فلسطيني خلال السنوات الأربع التي قضاها كزعيم للمعارضة، في الوقت الذي طلب فيه رأي توني بلير حول كيفية التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو الذي يجري الترويج لأتباعه، مثل ديفيد ميليباند لأدوار مثل منصب السفير في واشنطن.

لقد أصبح صوت بلير مرة أخرى يؤخذ على محمل الجد فيما يتصل بالهجرة، رغم أن هذا هو الرجل الذي ارتكب الخطأ الأسوأ والأخطر في السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط منذ أزمة السويس، فقد غزا العراق بناء على أسس زائفة، وأطلق العنان لحرب أهلية طائفية مريرة دمرت العراق وخلقت نسخة أكثر شراسة من تنظيم القاعدة في تنظيم الدولة الإسلامية. 

في جنازة أرييل شارون، ألقى بلير خطاباً وصف فيه الزعيم الإسرائيلي الذي أشعل الانتفاضة الثانية بعد اقتحام المسجد الأقصى، وهو المسؤول عن مجازر صبرا وشاتيلا، بأنه “رجل دولة عظيم”!

إن إعادة تدوير القادة الذين فشلوا هي إحدى سمات الإمبراطورية المحتضرة، فديفيد كاميرون، الذي كان مسؤولاً عن الحرب الأهلية الليبية، قد تمت إعادة تدويره ليصبح وزيراً للخارجية من قبل ريشي سوناك، والآن يتم إعادة تدوير بلير وفريقه ليستخدمهم ستارمر!

اكتساب المصداقية

إن الرسالة التي يوجهها الناخبون في مختلف أنحاء العالم الغربي إلى قادتهم هي شيء مختلف تماماً عن واقع الحكومات، ولذلك إذا أردت أن تكون ذا مصداقية، فعليك الاستماع لشعبك.

في حالة ستارمر، فقد وصل إلى السلطة بأقل قدر ممكن من التصريحات، سواء كزعيم للمعارضة أو كمرشح انتخابي، فهل يتذكر أحد شيئاً قاله أو سياسة واحدة اقترحها في هذه الانتخابات؟ لا أستطيع تذكر شيء، وهذا ليس أمراً جيداً للبقاء في السلطة. 

يتعين على ستارمر، إذا أراد البقاء في السلطة، أن يُظهر أن هناك بالفعل تغييراً في الحكومة الجديدة، فقد فشل بشكل ملحوظ في القيام بذلك كزعيم للمعارضة، حيث كان على توافق مع سوناك حول غزة.

هناك 5 أشياء يستطيع ستارمر القيام بها لإظهار أن الحكومة قد تغيرت بالفعل، أولها يتمثل في الاعتراف بالدولة الفلسطينية دون انتظار الإذن الإسرائيلي، ولكن ذلك لن يأتي أبداً.

لا ينبغي لستارمر تكرار خدعة بلير القديمة المتمثلة في إنشاء منتديات بديلة للمجلس الإسلامي في بريطانيا، وذلك ببساطة لأنه لا يستطيع مواجهة الحديث معهم

ثانياً، يجب على بريطانيا أن تعيد تمويل الأونروا فوراً، فلم يتم تقديم أي دليل على الإطلاق على ادعاء إسرائيل بأن أعضاء في الأونروا شاركوا في هجوم 7 أكتوبر، أو أن ما يصل إلى 10% من موظفيها كانوا يعملون لصالح حماس، فكل الأدلة موجودة لوجود دافع سياسي في محاولة وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة الوحيدة التي تعترف صراحةً باللاجئين الفلسطينيين، ولا ينبغي لبريطانيا أن تكون جزءاً من هذا التخريب المشين.

احترام القانون الدولي

لقد أعادت مجلة لانسيت مؤخراً حساب معدل الوفيات في غزة، باستخدام الوفيات غير المباشرة التي تتراوح بين 3 إلى 15 ضعف عدد الوفيات المباشرة، فجاء في التقرير: ” لو قدرنا أن هناك 4 وفيات غير مباشرة لكل حالة وفاة مباشرة على 37396 حالة وفاة تم الإبلاغ عنها، فيمكن تقدير أن ما يصل إلى 186000 أو حتى أكثر من الوفيات يمكن أن تعزى إلى الصراع الحالي في غزة، وهذا يعني 7.9% من إجمالي السكان في قطاع غزة”.

ثالثاً، ينبغي لبريطانيا أن تطبق القانون الدولي، وذلك لسبب بسيط وهو أنه مع تراجع المملكة المتحدة والولايات المتحدة كقوتين عالميتين، فسوف يتعين على المملكة المتحدة الاعتماد على الإقناع وفقاً لنظام عالمي قائم على القواعد بدلاً من استخدام القوة الغاشمة أو العقوبات، فعلى ستارمر أن يفهم أن بريطانيا لا تستطيع الدعوة إلى نظام عالمي قائم على القواعد إذا انتهكت جميع القواعد المتعلقة بدعمها لإسرائيل.

ينبغي أيضاً على بريطانيا عدم معارضة المحكمة الجنائية الدولية، التي تدرس حالياً إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو، رغم ورود أنباء عن التراجع عن ذلك على الأرجح.

يعد تعيين المحامي ريتشارد هيرمر الذي يقف ضد انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، في منصب المدعي العام علامة إيجابية أخرى، فتعيين هيرمر يمكن أن يتبعه إجراء رابع وهو نشر نصيحة محامي الحكومة حول مشروعية الاستمرار في توريد الأسلحة إلى إسرائيل أثناء حرب التي تتعارض مع اتفاقية الإبادة الجماعية أو اتفاقية جنيف.

كان وزير خارجية الظل، ديفيد لامي قد عبر عن وجود “مخاوف جدية” لديه حول سلوك الجيش الإسرائيلي في غزة، فقام بحث الحكومة آنذاك على نشر المشورة القانونية بشأن مبيعات الأسلحة لإسرائيل، والآن ليس هناك ما يمنعه من القيام بذلك، فهل يفعل؟

مع كل لحظة يدين فيها ستارمر الفظائع الروسية في أوكرانيا، في حين يلتزم الصمت إزاء نفس الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، نتأكد بأنه لم يحدث أي تغيير في الحكومة في بريطانيا على الإطلاق!

خامساً، يجب على ستارمر، التخلص من عادة الاجتماع والتفاعل مع ممثلي المجتمع الإسلامي شكلياً، فرغم ميله للتصرف كحاكم استبدادي، إلا أنه لا ينبغي لستارمر تكرار خدعة بلير القديمة المتمثلة في إنشاء منتديات بديلة للمجلس الإسلامي في بريطانيا، وذلك ببساطة لأنه لا يستطيع مواجهة الحديث معهم.

تغيير جذري

قام بلير بإنشاء المجلس الصوفي الإسلامي عام 2006، كما تم افتتاح مؤسسة كويليام عام 2008 بتمويل قدره 674.608 جنيه إسترليني أي 864.000 دولار من جيب وزارة الداخلية، وكان هدفها الأساسي هو تعريف الإسلام السياسي باعتباره المحرك للتطرف.

نقل الصحفي في موقع ميدل إيست آي، إيان كوبين، كيف أخبره مسؤول حكومي بريطاني أن مؤسسة كويليام “تم إنشاؤها بالفعل من قبل مكتب الأمن ومكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية”، وكانت الخطة الأولية هي تمويلها سراً بأموال يبدو أنها من أحد المتبرعين في الشرق الأوسط.

يجب على ستارمر أن يوقف كل هذا الهراء، فإنشاء منظمات وهمية مؤيدة للحكومة هو ما يفعله المستبدون مثل فلاديمير بوتين، ولا يمكنه بذلك أن يخدع أحداً في روسيا ولا أي مسلم يعيش في بريطانيا.

لن يتمكن حزب العمال من استعادة أصوات المسلمين، ما لم يبدأ ستارمر  بالتحدث إلى ممثلي المجتمعات الإسلامية، فبريطانيا بحاجة إلى تغيير كامل في سياستها الخارجية، مع أن  الدلائل تشير إلى أن هذا التغيير غير مرجح. 

من جانبه، يتصرف وزير الخارجية، ديفيد لامي، وكأن الحبل السري الذي يربطه بالسفينة الأم في واشنطن لم ينقطع بعد، فهل هذه فكرة حكيمة، خاصة في وقت يعاني فيه الديمقراطيون من هفوات بايدن وينتظرهم دونالد ترامب للانتقام؟!

هل فكر ستارمر بخطة بديلة إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض؟ وأين ستكون المملكة المتحدة؟ وماذا سيكون دورها؟ فقد عزلت نفسها عن الاتحاد الأوروبي وباتت تبحر بلا دفة وسط المحيط الأطلسي.

لقد وعد ستارمر بالاستقرار، ولكن السياسة الخارجية البناءة والمتوازنة يجب أن تهدف إلى وقف التصعيد وليس إعادة التصعيد كما هو الحال الآن، فهو لن يقدم سياسة تناسب القرن 21 من خلال التمسك بقواعد اللعبة الأطلسية، فقد تجاوز التاريخ هذا بالفعل وانتهت صلاحية بيعه.

كل الحروب، منذ حرب كوسوفو عام 1998، انتهت بنتائج سيئة بالنسبة للتحالف الغربي، وبذلك لم تكن محاولة إخراج روسيا من 4 أقاليم في أوكرانيا سوى أحدث مثال على الفشل العسكري، وقد حان الوقت لإعادة كتابة قواعد اللعبة. 

مع كل لحظة يدين فيها ستارمر الفظائع الروسية في أوكرانيا، في حين يلتزم الصمت إزاء نفس الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، نتأكد بأنه لم يحدث أي تغيير في الحكومة في بريطانيا على الإطلاق!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة