بقلم عاينه خان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
على مدى 8 أجيال على الأقل، دُفنت عائلة المصري حسين عمر في ما يُعرف بـ “مدينة الموتى” أو “القرافة”، وهي مقبرة تاريخية دُفن فيها سياسيون وشعراء ومطربين وشخصيات إسلامية وعائلات مصرية بارزة منذ القرن السابع الميلادي.
عندما توفيت والدة عمر قبل 22 عاماً، دُفنت في مقبرة العائلة المزخرفة بنقوش عثمانية وأوروبية وإسلامية، والتي أنشئت عام 1924 بتكليف من الجد الأكبر لعمر، فتح الله باشا بركات، الذي كان أول وزير للزراعة في مصر بعد الاستقلال وأحد قادة ثورة 1919، حتى أصبحت مكاناً تاريخياً مهماً يمثل بقايا تاريخ عائلة عمر.
يقول عمر عن المقبرة “هذا هو المكان الذي قضيت فيه الكثير من الوقت، كنت أذهب إليه كثيرًا عندما كنت أعيش في القاهرة عندما كنت طفلاً، ثم توفيت والدتي عندما كان عمري 14 عامًا، ولذلك بدأنا بالذهاب بشكل أكثر انتظامًا حيث دُفنت هناك أيضًا”.
في منطقة المقبرة، هناك أيضاً فناء ومنطقة للحراس ومنطقة أخرى لجلوس الزوار، ولكن على الرغم من الجمال المعماري للمكان، إلا أنه كان حتى وقت قريب واحداً من مقابر عائلية أخرى مهددة بالهدم، من أجل إفساح المجال لمشاريع تنمية مثيرة للجدل أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث تضمنت إنشاء جسور علوية وطرق سريعة تمر عبر الموقع التاريخي، المُدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، بل وتحويل المنطقة إلى مدينة ضخمة تتسع لـ20 مليون شخص!
على مقربة من ضريح أم كلثوم في مدينة الموتى التاريخية، يمكن سماع أزيز السيارات من طريق رئيسي، حيث بنيت شبكة من الجسور لربط القاهرة القديمة بالجديدة
يذكر أن الحكومة المصرية قامت في وقت سابق بإزالة العمارة الحديثة وليس الإسلامية، لكن عمليات الهدم في مايو الماضي تسببت بموجة غضب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن كشف نشطاء عن اكتشاف قطع أثرية في المنطقة وسط أعمال الهدم.
وقد أوضح عمر، الذي غادر مصر في عمر 17 عاماً، أنه علم بخطط الهدم المتعلقة بمقبرة عائلته من خلال موقع اكس، عندما شاهد صورة لقبر والدته تحت هاشتاغ #SAVEEGYPTSHERITAGE، حيث يقول “عندما بدأت الصور تنتشر، شعرت بالغضب الشديد، لماذا لم يكن هناك الكثير من رد الفعل العام عندما حدث ذلك؟ ربما لأن الناس لم يدركوا مدى أهمية هذه الأماكن من الناحية الجمالية والتاريخية، ففي المخيلة الشعبية كانت مقبرة عائلتي مجرد مقبرة”.
استراحة عمرها آلاف السنين
تم استخدام مقبرة “القرافة” منذ الفتح العربي الإسلامي قبل 1400 سنة تقريباً، حيث تم خلالها بناء مساكن حجرية تمتد أسفل منحدرات المقطم المطلة على المركز التاريخي للمدينة، وفيها أماكن لجلوس الزوار، كما أن المقبرة تتمتع بأهمية دينية، بسبب وجود ضريح الإمام الشافعي فيها، حيث أكد أستاذ التاريخ في جامعة تافتس، خالد فهمي، أن “مقبرة القاهرة أقدم مقبرة إسلامية تم استخدامها بشكل مستمر حتى يومنا هذا”.
وصلت العمارة الإسلامية إلى مدينة الموتى منذ قرن من الزمان، وذلك تحت إشراف مهندسين إيطاليين، بمن فيهم ماريو روسي الذي اعتنق الإسلام وساعد في تزيين المسجد الحرام في مكة، وهو ذاته الذي صمم مقابر عائلة عمر في عام 1924، ويعلق فهمي على ذلك بقوله “إن الأضرحة التي بناها أمراء المماليك، ثم رجال النخب الفكرية والسياسية في القرن التاسع عشر، لا مثيل لها في أناقتها وجمالها”.
منذ عام 2020، قامت السلطات المصرية بنقل آلاف الرفات البشرية من المدينة، حتى اضطر أفراد عائلة عمر إلى استخراج رفات العائلة ونقلها إلى مقابر جديدة في الصحراء، وفي فبراير عام 2022، تم نقل رفات آخر قرينات ملكة مصر، فريدة زوجة الملك فاروق، من مقبرة الإمام الشافعي إلى مسجد قريب!
جعل القاهرة أكثر تحضراً!
كانت خطط الهدم في البداية جزءاً من رؤية الرئيس الأسبق حسني مبارك “القاهرة 2050″، المشروع الذي كشفت عنه الحكومة المصرية عام 2008 لتطوير القاهرة من خلال إنشاء ملايين المنازل الجديدة على عشرات الآلاف من المساحات الخضراء، بالإضافة إلى المباني الضخمة والطرق السريعة.
في صيف عام 2013، تولى السيسي زمام الأمور، وضخ عشرات المليارات من الدولارات في العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تم نقل الوزارات الحكومية إليها، في وقت كانت فيه البلاد ترزح تحت ضغط اقتصادي تمثل في ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض قيمة الجنيه المصري.
على مقربة من ضريح أم كلثوم في مدينة الموتى التاريخية، يمكن سماع أزيز السيارات من طريق رئيسي، حيث بنيت شبكة من الجسور لربط القاهرة القديمة بالجديدة، وصفها العضو الباحث في المجلس الأطلسي، أحمد عبوده، بقوله “هذه واحدة من الدول القليلة، إن لم تكن الوحيدة، التي تحلق نفسها طواعية من الأشجار والحدائق العامة وتدمر تاريخها في وقت السلم، فهذه الحكومة تعاني من حمى ولكن في محاولتها إعادة بناء مصر، حولت نفسها إلى أداة هدم للتاريخ”.
“تريد الحكومة قطع ارتباط الناس بتاريخهم، خاصة وأن هذه التواريخ مرتبطة بلحظات أكثر ديمقراطية وحرية في التاريخ المصري”- حسين عمر- متضرر من هدم المقابر
لا تعتبر عمليات الهدم في مدينة الموتى مجرد انعكاس لدافع التوسع نحو العاصمة الإدارية الجديدة، بل أيضاً انعكاس للجهود الأوسع التي بذلها النظام لسحق النشاط الثوري بعد ثورة 25 يناير، فقد أكد الباحث في الشرق الأوسط من جامعة شيكاغو، آرون جاكس، أن “مشاريع البنية التحتية كانت بمثابة محور أساسي لنظام السيسي، فقد كانت هناك جهود أيضاً للتضييق على الممارسات التي يعتبرها النظام تخريبياً سياسياً”.
وأضاف جاكس أن نقل مباني الوزارات الحكومية بعيداً عن الميادين المركزية الكبيرة في المدينة، مثل ميدان التحرير، من شأنه أن يعزل النظام عن أشكال السياسة الجماهيرية الحضرية التي انفجرت خلال ثورة 2011، فليس الموتى فقط هم من يتم إجلاؤهم من مدينة الموتى!
يذكر أن مدينة الموتى، التي يسكنها مصريون فقراء لأجيال مضت، تقف على صفيح ساخن بسبب الانقسام الطبقي العميق في مصر وأزمة الإسكان المستمرة، حيث يشير الباحث العمراني بالمفوضية المصرية لحقوق الإنسان، إبراهيم عز الدين، إلى أن “عدد الأشخاص الذين اتخذوا المقابر سكنا لهم وصل إلى 1.5 مليون عام 2008، واستمر هذا العدد في الزيادة حتى وصل إلى نحو 2 مليون عام 2017″، وذلك وفقاً لتقرير التنمية الاجتماعية الثالث الصادر عن الإسكوا التابعة للأمم المتحدة عام 2019.
لقد أدى النزوح عقب حرب عام 1967، بالإضافة إلى إحجام الحكومة في ذلك الوقت عن بناء مساكن منخفضة التكلفة، وفي مقابلها توسيع القطاع الخاص في الاستثمار العقاري، إلى تشكيل ما يسمى “جزراً سكنية” منها “مدينة الموتى”، فوفقاً لعز الدين، فإن “الحكومة المصرية لا تأخذ بعين الاعتبار رأي المتخصصين في التراث في وضع آلية للتعامل مع هذه المناطق، لم تجد حلا سوى الإزالة”!
المفارقة أن الشجيرات والأشجار النابضة بالحياة بين الأضرحة التي تغطي مدينة من المقابر تتضاءل مساحتها الخضراء كل عام من أجل إفساح المجال أمام المشاريع التنموية، يقول عمر “هذه حقًا آخر مساحة خضراء من نوعها، إن وجود عدد قليل من قطع الأراضي الخضراء وسط شبكة من الطرق السريعة يعد كارثة”.
لقد أحدثت عمليات الهدم إلى تداعيات في جميع أنحاء مصر، بدءاً من انتقادات المهندسين المعماريين والأكاديميين والنشطاء وخبراء التراث والسياسيين، حيث نشر رئيس لجنة مسح المباني والمنشآت في الحكومة، أيمن ونس، استقالته مكتوبة بخط اليد على فيسبوك، احتجاجاً على تدمير الأضرحة التاريخية في القاهرة، وجاء فيها “إن الهدم المستمر للمقابر التراثية ليس فقط خسارة لمباني المقابر التاريخية، بل خسارة لنسيج عمراني تاريخي ذي قيمة فريدة في العالم وجزء مهم من التراث العالمي”، وفي اليوم التالي، تراجع عن استقالته مبرراً ذلك بأن الهدف كان انتقاد الحكومة، وقد تم التأكيد له على أنه “سيتم تصحيح خطة التنمية”.
أما عضو مجلس النواب، ضياء الدين داوود، فقد انتقد عمليات الهدم على فيسبوك ووصفها بأنها “اعتداء على القاهرة التاريخية”، كما قدم 4 أعضاء في لجنة خبراء التراث، التي تم تعيينها من قبل الحكومة في يونيو من أجل “تقييم الوضع” على حد وصف الحكومة!
يمكن لعمر حتى اللحظة تنفس الصعداء بعد أن نجا ضريح والدته وقطعة أرض تابعة لعائلة والده من جرافات الهدم في الوقت الحالي، فقد كشفت صحيفة “مدى مصر” أن عمليات الهدم توقفت رغم حظر التصوير في المنطقة وسط حضور أمني كثيف، حيث تم إغلاق مقبرة عائلة عمر بالقوة، وأصبحت العائلة بحاجة لإذن من الشرطة من أجل الذهاب للمكان الذي يعتبر من ممتلكاتهم!
يقول عمر “تريد الحكومة قطع ارتباط الناس بتاريخهم، خاصة وأن هذه التواريخ مرتبطة بلحظات أكثر ديمقراطية وحرية في التاريخ المصري”، لكن النتيجة هي رد فعل عكسي غير متوقع من مختلف قطاعات المجتمع المصري، حيث يؤكد عمر على “أنها توحد الناس الذين لم يعتبروا أنفسهم ناشطين أو منخرطين سياسياً على الإطلاق، لقد رأيت ذلك من أفراد الأسرة “.
كانت مشاهدة عمليات الهدم مؤلمة بالنسبة لعمر، الذي يعيش في المنفى في نيويورك، بسبب قمع السيسي لعائلته، يقول عمر “أحاول قدر استطاعتي رفع مستوى الوعي، أنا آمن حيث أعيش، ووضعي كمهاجر آمن، لكن من ناحية أخرى، يبدو الأمر كما لو أن القيام بذلك يزيد من خطر عدم قدرتي على العودة إلى مصر”.
من جانبها، أعربت لجنة التراث التابعة لمنظمة اليونسكو، عن قلقها بشأن عمليات الهدم الاخيرة، مضيفة أن خبراءها “يراقبون الوضع عن كثب”، وتأتي أخبار عمليات الهدم الأخيرة في الوقت الذي تم الإعلان فيه عن ترشيح وزير السياحة والآثار المصري، خالد العناني، لمنصب المدير العام للمنظمة.
يذكر أنه سوف يتم “إعادة النظر في حالة الحفاظ على مدينة الموتى” من قبل لجنة التراث العالمي في دورتها المقبلة في الرياض في 10 سبتمبر، وفي هذا السياق يحذر عمر “لقد وقع الضرر بالفعل، لم يفت الأوان بعد، لكنه يقترب جدًا”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)