في مقال، للكاتب التركي أمين إمره دانيش، أكد أنه إذا وظفت تركيا سياستها في مجال الطاقة بشكل صحيح، فقد تصبح قريبًا مركزًا قويًا لتجارة الغاز ووسيطًا حيويًا للطاقة بين روسيا وأوروبا
وفيما يلي النص الكامل للمقال والذي نشره على موقع “ميدل إيست آي”:
لا شك أن الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير كان له تأثير هائل على أسعار الطاقة؛ حيث إن الدول الأوروبية تعتمد بشكل كبير على روسيا في استيراد الغاز الطبيعي والنفط والفحم، ويشير هذا الاعتماد الكبير، فضلاً عن عدم وجود موارد بديلة، إلى أن مواسم الشتاء القادمة قد تكون الأصعب بالنسبة لأوروبا، وقد تكون تركيا قريبًا في وضع يمكنّها من المساعدة في تخفيف أزمة الطاقة في أوروبا.
واستورد الاتحاد الأوروبي 155 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا في سنة 2021، أي ما يعادل 45 بالمئة من احتياجاته. وفي نفس السنة؛ استورد الاتحاد الأوروبي 27 بالمئة من نفطه و46 بالمئة من فحمه من روسيا، وعلى مدار العقد الماضي؛ كان الاتحاد الأوروبي يحاول تقليل اعتماده على روسيا، لكنه كان لا يزال يشتري 66 بالمئة من إجمالي احتياجاته من الطاقة من موسكو في سنة 2021، وذلك مقابل 99 مليار يورو (105) مليارات دولار.
ويبحث الجزء الأكبر من أوروبا عن حل بديل ودائم لاستبدال الغاز الروسي. ومن ناحية أخرى؛ لا تزال روسيا تسعى لإيصال صادراتها إلى سوق الغاز الطبيعي الأوروبي، رغم التوترات القائمة بينها وبين أوروبا؛ أو على الأقل لبعض الجهات الفاعلة في جنوب أوروبا الراغبة في شرائه، مثل المجر وبعض دول البلقان.
واقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت سابق من هذا الشهر إنشاء مركز لتخزين وتوزيع الغاز في تركيا، بهدف إنشاء أكبر مركز لأوروبا.
وبينما حافظت روسيا على دورها القيادي في سوق الطاقة الأوروبية على امتداد العقدين الماضيين؛ كانت تركيا تشق طريقها لتُنصّب نفسها كمركز لتجارة الغاز للتنافس مع جارتها الشمالية. ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نما سوق الغاز الطبيعي التركي والبنية التحتية بسرعة، بالإضافة إلى ظهور مشاريع خطوط الأنابيب الجديدة في الصدارة مع زيادة حاجة الاتحاد الأوروبي لمصادر إمداد بديلة.
وتعد تركيا مستهلكًا ومستوردًا كبيرا للغاز الطبيعي، وتتمتع بسوق متطورة وبنية تحتية مادية جيدة، إلى جانب مؤسسة تبادل الطاقة في إسطنبول، إيبياس، مما قد يسمح لها بأن تصبح مركزًا مهمًا لتجارة الغاز. وكل هذا يعني أن تركيا يمكن أن تظهر كجهة فاعلة لإرضاء الطرفين.
هناك حاجة إلى مزيد من العمل
واتخذت تركيا خطوة كبيرة في هذا الاتجاه في وقت سابق من هذا الشهر، عندما أعلن وزير الطاقة التركي، فاتح دونماز عن خط الأنابيب الطبيعي عبر الأناضول (تاناب)، الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى تركيا وأوروبا، وسيضاعف قدرته إلى 32 مليار متر مكعب في السنوات القادمة (التقديرات تضع جدولاً زمنياً لإنجاز المشروع حتى سنة 2027.(
وتستورد تركيا 6 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا من تاناب، التي يبلغ إجمالي طاقتها الاستيعابية السنوية حاليًا 16 مليار متر مكعب.
ويتكون خط أنابيب ترك ستريم الذي تقوده روسيا، والذي يمر تحت البحر الأسود من روسيا إلى تركيا، من خطين منفصلين، وسيصدر سنويًّا حولي 15.75 مليار متر مكعب من الغاز. ويقوم أحد الخطوط بتوصيل الغاز الطبيعي الروسي إلى السوق التركية، بينما يقوم الآخر بتوصيله إلى الأسواق الأوروبية عبر بلغاريا.
ومع ذلك؛ فإن خط أنابيب “ترك ستريم” كما هو لا يكفي لجعل تركيا مركز الغاز الذي يريده بوتين. ونظرًا لطبيعتها، يتم تنفيذ مشاريع الطاقة بأهداف طويلة الأجل وتكاليف استثمارية عالية. لذلك، يجب أن تكون لديهم جدوى سياسية وتقنية واقتصادية.
وهناك حاجة إلى مزيد من العمل، وقد يساعد بناء خط ثالث وربما رابع في “ترك ستريم” على نقل المزيد من الغاز، ولكن ستكون هناك مشاكل فنية في بنائها بسبب العقوبات المحتملة التي يمكن فرضها على التوربينات وشركات البناء الأوروبية.
وعلاوة على ذلك؛ لن تكون صيانتها ممكنة إذا لم يتم توفير قطع غيار لخطوط الأنابيب من قبل الدول الغربية، وحتى لو تم الانتهاء منها في غضون سنتين، فليس من الواضح ما إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي ستشتري الغاز الروسي.
ويتمثل الخيار الأكثر واقعية في أن يتم تسويق الغاز الروسي مع مصادر الغاز الأخرى في “إيبياس” لتبادل الطاقة في إسطنبول، وخلطه فعليًّا في مركز سيتم إنشاؤه في تراقيا ثم تسليمه إلى المشترين الأوروبيين.
ولا بد أن تكون روسيا مرنة في عقودها طويلة الأجل مع أنقرة وأن تمنح تركيا حقوق إعادة التصدير، كما يجب مراجعة صيغة الأسعار الحالية وأسعار الغاز الروسي.
احتياطات البحر الأسود
في المقابل؛ تحاول تركيا مساعدة أوروبا في مجالات أخرى. فقد زودت تركيا بلغاريا ببعض الغاز في حزيران/ يونيو الماضي بفضل محطات الغاز الطبيعي المسال الراسخة في أنقرة، وتمتلك تركيا سعة تصدير للغاز الطبيعي تبلغ 133 مليون متر مكعب يوميًا مع محطتين للغاز الطبيعي المسال ووحدتين عائمتين لتخزين الغاز الطبيعي المسال وإعادة تحويله إلى حالته الطبيعية.
ولن تساهم كل من محطة مرمرة إرغليسي للغاز الطبيعي المسال التابعة لشركة “بوتاش” التركية المملوكة للدولة، والوحدة العائمة لتخزين الغاز الطبيعي المسال وإعادة تحويله في خليج ساروس، واللتان تسيران على المسار الصحيح لإكمالهما وتشغيلهما هذه السنة، في تأمين الإمدادات في إسطنبول ومنطقة مرمرة فحسب؛ بل وستزودان أيضًا بلغاريا ورومانيا وأوكرانيا ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا بالغاز عبر تراقيا في المستقبل.
وتهدف تركيا إلى البدء في إنتاج الغاز الخاص بها، المكتشف في احتياطيات البحر الأسود في سنة 2020. وتهدف وزارة الطاقة التركية إلى ضخ أول غاز من حقل صقاريا في الربيع المقبل، الذي يحتوي على 540 مليار متر مكعب من الاحتياطيات.
وتهدف تركيا إلى إنتاج 14-15 مليار متر مكعب سنويًا بحلول نهاية سنة 2026، وتشير التقديرات إلى أن الإنتاج قد يرتفع؛ حيث قد يتراوح بين 19 و20 مليار متر مكعب سنويًا بحلول سنة 2029.
وهناك أيضا بعض البدائل التي تتطلب تحولًا جوهريًا في السياسة الإقليمية، مثل توصيل الغاز التركماني والعراقي إلى أوروبا عبر تركيا. ولن يكون هذا مستحيلًا، ولكنه ليس سهلاً أيضًا؛ حيث ستكون موافقة إيران ضرورية لبناء خط أنابيب عبر قزوين، حيث من المحتمل أن تعيق روسيا المفاوضات لأنها الوسيط التقليدي في المنطقة.
وينطبق الأمر نفسه على الغاز في شمال العراق؛ حيث إن عدم الاستقرار في البلاد والخلاف بين الحكومة المركزية العراقية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل يجعل يجعل تصدير الغاز العراقي لأوروبا مستقبلًا صعبًا في الوقت الحالي.
وفي سياق آخر؛ يعتمد تسليم الغاز الإسرائيلي وشرق البحر المتوسط إلى تركيا على حل القضايا السياسية في المنطقة وإقامة ثقة متبادلة، وليس لأسباب تجارية.
دور الوسيط التركي
وإذا استمر المشهد السياسي الحالي في الانتخابات المقبلة في “إسرائيل”، فسوف يتم تطبيع العلاقات بسرعة بين تل أبيب وتركيا ويعود التعاون في مجال الطاقة إلى جدول الأعمال مرة أخرى.
ولا ينبغي أن ننسى أن تركيا تعتبر الخيار الأسرع والأرخص والأكثر جدوى لغاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد تساهم أزمة الطاقة المتفاقمة في أوروبا أيضًا في حل مشاكل أخرى، مثل مسار خط الأنابيب إلى تركيا ومناطق الولاية البحرية وقضية قبرص.
وسوف تتطلب كل هذه المشاريع، حتى مع وجود الإرادة السياسية، أربع سنوات على الأقل لحل قضاياها والانتهاء منها. وإذا مارست تركيا لعبة الطاقة بشكل صحيح، فقد توحد كل مصادر الغاز هذه لتصبح مركزًا لتجارة الغاز في السنوات القادمة.
ويمكن لتركيا أيضًا أن تساعد أوروبا في برامجها للطاقة المتجددة، مثل إنتاج توربينات مزارع الرياح والألواح الشمسية بأسعار تنافسية، وتوفير تكاليف نقل منخفضة، وموارد بحثية وبنية تحتية علمية قوية.
إن إيجاد حل سريع ودائم لأزمة الطاقة المتفاقمة في أوروبا على المدى القصير لن يكون سهلاً، وسيكون خيارًا منطقيا لأوروبا زيادة تعاونها في مجال الطاقة مع تركيا بما يتماشى مع أمن الإمداد والاقتصاد والواقع السياسي الحالي.
وكما هو الحال في اتفاقية ممر الحبوب بين روسيا وأوكرانيا خلال الأشهر الأخيرة، يمكن لتركيا أن تلعب دور الوسيط بين أوروبا وروسيا في حل أزمة الطاقة.