بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في ذات اليوم الذي نجا فيه رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بفارق ضئيل من حل الكنيست وسط خلاف داخلي حول اقتراح إلزام اليهود المتدينين بالخدمة العسكرية، أطلقت حكومته هجوماً عسكرياً واسع النطاق على البنية التحتية النووية الإيرانية.
تم تدشين الهجوم الذي استهدف كبار المسؤولين في الحرس الثوري الإيراني والعلماء النوويين، بما سماه نتنياهو “عملية الأسد الصاعد”، في إشارة توراتية للنبي بلعام الذي شبّه إسرائيل بأسد لا يهدأ حتى ينتصر.
ولم تكن هذه اللغة المشحونة دينيًا محض صدفة، بل جاءت استكمالاً لتقليد مزمن دأبت النخبة السياسية في دولة الاحتلال على اتباعه يُظهر الحرب باعتبارها “مهمة مقدسة”، وبهذا لا يبرر نتنياهو العنف فقط، بل يغلفه بقشرة من “الغاية الإلهية”.
غير أن هذا التصعيد العسكري جاء في لحظة مفصلية تعيش فيها دولة الاحتلال حالة من الإنهاك السياسي والاجتماعي والعسكري، مع تفاقم الانقسامات الداخلية وضغط الساحة الدولية المتصاعد.
فجيش الاحتلال يعاني نقصًا في الأفراد، وسط سخط شعبي على التفاوت في أعباء الحرب بين العلمانيين واليهود المتشددين، بينما تعثّرت مفاوضات تبادل الأسرى مع حركة حماس، واستُبعدت أي بوادر حقيقية لوقف العدوان على غزة أو استعادة الأسرى، وفي ظل هذا المناخ المتوتر، يُنظر إلى الحرب مع إيران باعتبارها قفزة في المجهول.
دعم أمريكي وصمت دولي
ورغم تزايد عزلة دولة الاحتلال عالميًا، ومذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، مضت الحكومة في تنفيذ ضرباتها.
فبحسب الرواية الإعلامية الغربية، صُوّرت الهجمات على أنها مغامرة إسرائيلية منفردة، بينما تتمثل الحقيقة في أن واشنطن كانت على علم مسبق ولم تتدخل لإيقافها.
وعلى ما يبدو فإن الإدارة الأمريكية تعتبر هذا التصعيد العسكري ورقة ضغط جديدة في مفاوضاتها مع طهران.
إذ وبينما دعا وزير الخارجية ماركو روبيو علنًا إلى ضبط النفس، فإن الدعم الاستخباراتي والعسكري الأميركي استمر بالتدفق إلى دولة الاحتلال.
وقد عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن موقف بلاده بوضوح عبر وسائل التواصل الاجتماعي، محذرًا: “إذا رفضت إيران التوصل إلى حل وسط، فستواجه المزيد من الضربات”.
ما وراء البرنامج النووي
وكما يرى المراقبون فإن الهدف الحقيقي من هذه الحرب لا يقتصر على كبح البرنامج النووي الإيراني، بل يمتد إلى زعزعة استقرار النظام الإيراني نفسه.
ومع ذلك، يدرك قادة دولة الاحتلال أن أقصى ما يمكنهم تحقيقه هو مجرد تأخير المشروع النووي الإيراني لا وقفه تماماً.
وهذا ما أقرّ به رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين حين وصف إيران في التسعينيات بأنها “تهديد وجودي” مشيرًا إلى أن الخطر الإيراني لا يكمن فقط في القوة العسكرية، بل في مشروعها الإقليمي المعادي لهيمنة الاحتلال خاصة في ظل تاريخ طويل من التدخل الإسرائيلي في الشأن الإيراني، مثل دعم نظام الشاه قبل الثورة.
لقد استهدفت الضربة الأولى شخصيات رفيعة في الحرس الثوري والقيادة العسكرية الإيرانية، إلى جانب علماء بارزين في المجال النووي.
ويدرك نتنياهو أن الرد الإيراني كان قادماً لا محالة، لكنه أخذ يراهن على ضعف عدوه في الجبهة الشمالية، لا سيما بعد أن أشار حزب الله إلى أنه لن يفتح جبهة جديدة في الوقت الراهن.
الداخل المنهك
وفي الواقع فإن اقتصاد دولة الاحتلال يعاني من الركود، وتكاليف المعيشة آخذة في الارتفاع، والانقسامات الاجتماعية تتفاقم.
وفي خضم كل ذلك، يواصل نتنياهو الدفع بمبدأ “الحرب الأبدية”، مدركًا أن الحروب تصنع الإجماع الوطني، وبالفعل اصطفت معظم قيادات المعارضة اليهودية خلف حكومته بعد بدء العملية.
لكن جيش الاحتلال نفسه أطلق تحذيرات غير مسبوقة حول نتائج هذه المغامرة، فحتى لو لم ترد إيران بردّ واسع النطاق، فإن الحرب تأتي بعد عامين من صراعات متعددة الجبهات، أنهكت مجتمع الاحتلال وسحبت عشرات آلاف الجنود من حياتهم المدنية لأشهر طويلة.
تُهدد هذه الهجمات بآثار إشعاعية كارثية ليس على إيران فقط، بل على المنطقة بأسرها، وتشكل سابقة دولية خطيرة في ضرب المنشآت النووية ذات الطابع المدني والعلمي.
رهان على الإرث
لكن الأمر بالنسبة لنتنياهو لا يتعلق بخطة عسكرية فحسب، بل بمحاولة لصياغة إرثه السياسي.
فبعد سنوات من تصوير نفسه على أنه “حامي الأمة اليهودية” من “التهديد الإيراني”، يحاول اليوم تأكيد هذا الدور عبر القوة المطلقة.
فابتداءً من خطابه الشهير ضد الرئيس باراك أوباما في الكونغرس عام 2015، إلى تقويض الاتفاق النووي بالشراكة مع إدارة ترامب، لطالما وضع نتنياهو إيران في صلب مشروعه السياسي.
لكنه اليوم أكثر حذرًا من تكرار نفس اللعبة، لأن تدخله قد يثير غضب ترامب، الذي لا يقبل، على عكس أوباما، تدخل الاحتلال في السياسة الداخلية الأمريكية.
نقطة تحوّل
وتشكل الحرب الحالية انحرافًا عن سياسة الردع غير المباشر التي اتبعتها دولة الاحتلال لعقود، والتي كانت تعتمد على دفع الولايات المتحدة للقيام بالمواجهة، كما حدث في العراق.
لكن مع تراجع الدبلوماسية، وانتقال الثقل الاستراتيجي إلى دول الخليج كما أظهرت جولة ترامب الأخيرة التي تجاهلت تل أبيب فقد بات نتنياهو يدرك أن مكانة دولة الاحتلال لم تعد محورية في الاستراتيجية الأمريكية حيث باتت واشنطن منشغلة بالصين والتجارة، لا بحروب جديدة في الشرق الأوسط.
وعليه، ألقى نتنياهو النرد، دون أن تكون هناك استراتيجية خروج واضحة، ذلك أن تكاليف الهجوم على المنشآت النووية، وارتفاع أسعار النفط، ومخاطر الرد الإيراني، جميعها تدفع المجتمع في دولة الاحتلال نحو حالة من القلق العام.
ورغم أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على نتائج هذه المغامرة، فإن نجحت العملية دون تصعيد كبير، فقد تمنح نتنياهو دفعة قوية داخليًا وتعزز صورته كمخلّص قومي.
غير أن العملية إن فشلت أو أدت إلى خسائر فادحة، فقد تكون آخر فصل في حياة سياسية مثقلة بالمخاطرة.
كل الخيارات على الطاولة، لكن النتيجة الوحيدة المؤكدة حتى الآن هي أننا دخلنا مرحلة جديدة من سياسة الصدمة والقوة، حيث تُهمّش الشرعية الدولية لصالح مغامرات قد تغيّر وجه المنطقة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)