خلال عشرينيات القرن التاسع عشر، استخدم السلطان العثماني محمود الثاني مجمع المباني للشروع في حملة حداثة طموحة ومثيرة للجدل.
بقلم يوسف سلمان إنانج
لعقود من الزمن وبعد أن توقفت ثكنة رامي عن أداء وظيفتها العسكرية في الستينيات، واجه معلم إسطنبول التاريخي معاملة قاسية.
ففي الثمانينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من تسجيل الموقع على أنه “ملكية ثقافية” مدعومة من الدولة عام 1972، كان مجمع المباني في منطقة أيوب مجرد موقف للسيارات وملعب لكرة القدم وحتى مستودع للمواد الغذائية.
اليوم، وبعد مشروع ترميم دام ثماني سنوات، بات الموقع يستخدم في وضع أكثر ملاءمة، ففي وقت سابق من شهر يناير/ كانون الثاني/2023، حظي مبنى القرن الثامن عشر رسميًا بمكانته كأكبر مكتبة في اسطنبول.
يضم المجمع، الذي يطلق عليه الآن اسم مكتبة رامي، سبعة ملايين كتاب ووثائق أخرى، بما في ذلك المخطوطات النادرة والمجموعات الخاصة.
ويضم الموقع مساحة للجلوس تتسع لـ 4200 شخصا، كما تحتوي المكتبة داخل جدرانها على 36 ألف متر مربع من رفوف الكتب وغرف ترميم المخطوطات القديمة وقاعات المقابلات ومقهى ومكتبة ومتحفا صغيرا، وتتزين ممراتها الطويلة بأعمال فنية مستوحاة من ماضي تركيا، وكذلك من عمل الفنانين المعاصرين.
تأمل المؤسسة في جذب الباحثين والزوار العاديين على حد سواء، ولديها حديقة تتربع على مساحة 51 ألف متر مربع للاستخدام العام.
إصلاحات تاريخية
وفي حين أن المكتبة تعتبر واحدة من أحدث معالم اسطنبول، فإن للموقع وللمبنى بحد ذاتهما أهمية تاريخية، حيث تعود الهياكل الأولية إلى القرن الثامن عشر، وقد شيدت الثكنات بأمر من السلطان العثماني محمود الثاني.
وبحلول عام 1826، ارتأى الحاكم التركي إلغاء الإنكشارية الجامحة بشكل متزايد وقرر تشكيل جيش دائم حديث مكانهم.
كانت الثكنات جزءًا من عملية التحديث هذه، حيث كان المسؤولون العثمانيون يأملون أن تتحول الإمبراطورية إلى قوة فعالة ضد القوى الأوروبية.
وبعد فترة وجيزة، في عام 1828، واجهت الإدارة العسكرية الجديدة اختبارها الأول مع اندلاع الحرب التركية الروسية، التي أعلن السلطان فيها نفسه قائدًا للقوات العثمانية كأول سلطان يقوم بذلك منذ أكثر من قرن.
السلطان العثماني محمود الثاني
وخلال احتفال فخم، رفع المسؤولون البيرق العثماني (السانجاك) في الثكنات حيث أقام السلطان هناك وقاد جيوشه من بعيد لمدة عامين، وشكل المكان مركز القيادة العثماني خلال القرن التاسع عشر.
لكن لم يكن السلطان التركي أثناء تواجده هناك يفكر فقط في ضرب المقاتلين الروس (فقد خسر العثمانيون الحرب بالفعل)، بل شرع في حملة جريئة لتحديث البلاد على أمل التنافس مع أوروبا.
كانت العديد من هذه التحديثات ثقافية بطبيعتها، بما في ذلك مرسوم سلطاني يأمر بإدخال البناطيل والطربوش بدلاً من الجلباب التقليدي والعمامات.
وعلى الرغم من اعتراضات النخب، إلا أن السلطان محمود كان مصراً على الخطوة، وأعفى العلماء فقط من ارتداء النمط الغربي الجديد من الملابس.
كان هناك الكثير مما يمكن للنخبة الدينية العثمانية أن تتعامل معه، فقد كان قرار السلطان بتعليق صورته على جدران الثكنات سبباً في إثارة الذعر بين علماء المسلمين، لأنه انتهك أحد المحرمات بشأن عرض الصور البشرية.
كان هناك أيضًا عدم ارتياح تجاه العادات الغربية الجديدة الأخرى، مثل عزف الموسيقى الأوروبية وإقامة حفلات الرقص في القاعات، وتلقي الطلاب المعينين في المدرسة العسكرية داخل الثكنات تعليمًا غربيًا.
يسمي يوكسيل جليك، الأستاذ في جامعة مرمرة ومؤلف كتاب عن إصلاحات السلطان محمود، المبنى بـ “مقر التحديث الاستبدادي”.
وكتب جليك: “استخدم محمود الثاني ثكنة رامي كمقر إداري وعسكري خاص به لمدة 617 يومًا، تمكن خلالها من تطبيق إصلاحاته دون مواجهة مقاومة قوية بفضل ظروف الحرب”.
ويوضح الأكاديمي كذلك أن السلطان كان يأمل في أن يؤدي إصلاح الجيش بطبيعة الحال إلى إجراء إصلاحات في مجالات أخرى، مثل القضاء وبيروقراطية الدولة.
الاحتلال الفرنسي
استمرت الثكنات في كونها المقر الرئيسي للجيش العثماني الحديث بعد وفاة السلطان لفترة فاصلة قصيرة، ولكنها كانت مهمة بعد الحرب العالمية الأولى.
ففي عام 1918 أثناء احتلال الحلفاء لإسطنبول، استولت القوات الفرنسية على الثكنات حيث وضع قادتها صليبًا ضخمًا على مئذنة المسجد داخل الثكنة.
واعتبر كل من الجنود الأتراك والجزائريين، الذين كانوا جزءًا من الجيش الفرنسي، هذه الخطوة تحريضية، ويبدو أن الجيشين أضمرا الانتقام.
فخلال مراسم صلاة الجمعة في مسجد أيوب، حيث دفن أبو أيوب الأنصاري، أحد أقرب الصحابة للنبي محمد، عليه السلام، اقترب خطيب محلي يدعى كمال أفندي من الجنود الجزائريين وطلب منهم عدم التواطؤ مع الفرنسيين.
وكان الأتراك يأملون أن تساعدهم مناشدة الحساسيات الدينية للجزائريين في جهودهم للتخلص من قوات الاحتلال.
وبينما لا يزال التسلسل الدقيق للأحداث غير معروف حتى يومنا هذا، فقد سمحت سلسلة من الانفجارات في الموقع لأفراد المقاومة التركية بتهريب الذخيرة من المباني.
تم نقل الأسلحة إلى السفن التي تنتظر نقلها إلى الأناضول حيث كان مصطفى كمال أتاتورك يشن حملته الناجحة في النهاية لتحرير الأراضي التركية من المحتلين الأجانب.
عندما استعاد الجيش التركي السيطرة على إسطنبول في عام 1923، كان أول ما فعلته قواته هو إنزال الصليب عن المسجد، كما تروي نور بيلج كريس في كتابها، اسطنبول تحت احتلال الحلفاء، 1918-1923.
في حين أن القصص المرتبطة بثكنة رامي معروفة على نطاق واسع في تركيا، إلا أن المبنى نفسه يعود، الآن فقط، إلى الوعي العام، وإن كان بطريقة جديدة منفصلة عن ماضيه العسكري.
سيتمكن سكان إسطنبول الآن من الاستمتاع بالمرافق المعروضة على مدار 24 ساعة في اليوم، وسبعة أيام في الأسبوع، مع بقاء العديد غير مدركين تمامًا للمكائد التي تكشفت في السابق داخل جدرانه.