بقلم عمران ملا
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بثت هيئة الإذاعة البريطانية مؤخراً مسلسلاً وثائقياً من ثمانية أجزاء مخصص لدراسة دور واشنطن في العالم.
ويتضمن المسلسل الوثائقي “ممرات القوة: هل ينبغي لأميركا أن تحرس العالم؟”، وهو من إخراج المخرج الإسرائيلي الشهير درور موريه، عشرات المقابلات التي أجريت على مدى عدة سنوات مع كبار المسؤولين الأميركيين السابقين، بمن فيهم هيلاري كلينتون و كوندوليزا رايس، وقد توفي العديد من المقابلين مثل مادلين أولبرايت وكولن باول وهنري كيسنجر.
لا يترك الوثائقي السؤال الذي يحمل عنوانه دون إجابة، بل على العكس من ذلك، يقدم موريه، من خلال صوت الراوية الشهيرة ميريل ستريب، قضية محفزة للولايات المتحدة كي تتدخل و تحرس العالم.
وينتقد العمل الوثائقي السياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، ويزعم أن واشنطن فشلت في وقف الإبادة الجماعية والفظائع عندما كان ينبغي عليها أن تتدخل، في حين نفذت أيضاً عمليات فاشلة أعقبها انسحابات فوضوية.
الحل لهذا السجل المؤسف؟ هو المزيد من التدخل، كما يقترح موريه، وهذه قضية تم تناولها عبر ثماني حلقات تتناول الصراعات في العراق والبوسنة ورواندا وكوسوفو والسودان وليبيا وسوريا، والتي تم تخصيص عرضين لها.
لم يحظ غزو أفغانستان عام 2001 باهتمام كبير، في حين لم يتم تناول غزو العراق عام 2003 إلا بإيجاز خلال الحلقة الخاصة بالسودان، كما تم تجاهل الأنشطة والتدخلات العسكرية الأمريكية في الصومال وباكستان ودول أخرى إلى حد كبير.
وقد غابت حرب دول الخليج المدعومة من قبل الولايات المتحدة في اليمن، والتي قتلت مئات الآلاف من الناس على مدى العقد الماضي، بشكل محير عن السرد.
ولكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة، بالنظر إلى توقيت المسلسل الوثائقي التي تم بثه في أغسطس/آب يتمثل في الحجة القائلة بأن الولايات المتحدة يجب عليها أن تراقب العالم، فيما يبدو أن هناك حلقة حاسمة و مفقودة عن غزة.
إغفال صارخ
ذلك أن عدوان الاحتلال المتواصل على قطاع غزة المحاصر، والذي أودى بحياة ما لا يقل عن 40 ألف فلسطيني، غائب بشكل صارخ عن السلسلة الوثائقية.
كما أن الولايات المتحدة تلعب دوراً جاداً وحاسماً في هذه الحرب، وذلك من خلال تسليح إسرائيل التي تعتمد بشكل كبير عليها سواء في الدعم العسكري أو في الغطاء الدبلوماسي.
وفي حال سحبت الولايات المتحدة هذا الدعم فإن قصف غزة سوف يتوقف، وإذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات فإن إسرائيل قد تتعرض للضغوط لحملها على إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
ويتناول الجزء الختامي من السلسلة أوكرانيا و شينجيانغ، وهما حالتان يقترح فيهما أن على واشنطن أن تبذل المزيد من الجهود لمكافحة الأنشطة الإجرامية التي تقوم بها روسيا والصين.
وتعلن الراوية ستريب أيضاً أن “الديمقراطية في انحدار” و”الأنظمة الاستبدادية في صعود” (مصحوبة بصور للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان).
هناك حجة قوية يمكن تقديمها مفادها أن الولايات المتحدة نفسها تشكل أكبر تهديد للنظام القائم على القواعد حيث تواصل القول أن العقود التي انقضت منذ سقوط جدار برلين أظهرت أن “الشر يمكن أن يظهر في أي مكان، وأن الشوق البشري للهيمنة والوحشية لن يختفي أبداً”
ويستمر التعليق الصوتي العاطفي: “لن يتبع هذا العالم تلقائياً نظاماً دولياً قائمًا على القواعد، يجب على شخص ما أن يقود الديمقراطيات ويحشدها، وهذا يعني دولة قوية يمكنها إظهار الانضباط لاتباع هذه القواعد بنفسها ويمكنها استدعاء قوتها لإقناع الآخرين بالمساعدة في فرضها، “إن أميركا وحدها قادرة على فعل ذلك”.
ضع في اعتبارك أن إدارة بايدن لم تكتف بالسخرية من قرار محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، بل إنها ترفض حتى الاعتراف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية على إسرائيل.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، اعترف الرئيس جو بايدن بأن إسرائيل متورطة في “قصف عشوائي” في غزة، لكنه استمر في تسليحها، وبالتالي فإن هناك حجة قوية مفادها أن الولايات المتحدة نفسها تشكل التهديد الأكبر للنظام القائم على القواعد.
“الفشل الأعظم”
في هذا السياق، وبعد مرور عشرة أشهر على حرب إسرائيل على غزة، تبدو سلسلة الأفلام الوثائقية التي بثتها هيئة الإذاعة البريطانية وكأنها قديمة ومحرجة على أقل تقدير.
من المؤكد أنها لا تصور السياسة الخارجية الأميركية في سياق إيجابي، فبعد أن رأت أنه لا حاجة للتدخل لمنع صدام حسين من استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد، تشير السلسلة إلى أن الولايات المتحدة لم تتدخل إلا عندما غزا العراق الكويت الغنية بالنفط في تسعينيات القرن العشرين، والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن الأميركيين تصرفوا بسخرية، وليس لحماية النظام القائم على القواعد.
وفي خضم الإبادة الجماعية في البوسنة في نفس العقد، تظهر السلسلة أن الولايات المتحدة لم تفعل الكثير، بل تأخرت كثيراً، ووقع نفس الأمر مع الإبادة الجماعية في رواندا، التي قتل فيها 800 ألف شخص، حيث يظهر الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وهو يصف افتقار الولايات المتحدة إلى التحرك بأنه “أعظم فشل في حياتي”.
وتزعم الحلقة الخامسة من السلسلة أن الولايات المتحدة كانت غارقة للغاية في العراق وأفغانستان لدرجة أنها لم تتمكن من اتخاذ أي إجراء خلال حملة التطهير العرقي التي شنتها الحكومة السودانية عام 2003، كما تُتهم الولايات المتحدة بالفشل مجدداً في خوض المعركة بشكل صحيح ضد الرئيس السوري بشار الأسد بعد أن ذبح شعبه بالأسلحة الكيميائية.
إنها قصة مختلفة في العراق وأفغانستان وليبيا، حيث يؤكد المخرج موريه أن “الجيش الأميركي اجتاح الدكتاتوريات، وترك الفوضى والخراب في مكانها”، والاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذه الأمثلة هو أن الولايات المتحدة “أظهرت أنها تمتلك القوة للتدمير، ولكنها لا تمتلك الصبر والإرادة لإعادة البناء”.
فقد غزت الولايات المتحدة العراق على سبيل المثال بحجة زائفة مفادها أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وسرعان ما أطيح بالدكتاتور، وافترض المسؤولون في إدارة بوش أن “العراق سوف يظل دولة فاعلة”، ولكن هذا لم يكن ليحدث، وتقييم موريه قاسٍ: “لقد حطمت أميركا العراق، وأثبتت أنها غير مستعدة على الإطلاق لما سيأتي بعد ذلك”.
أصوات غائبة
لقد فشلت واشنطن بشكل روتيني في تأسيس سياستها الخارجية على قيم أخلاقية ثابتة، إما عبر الإخفاق في التدخل أو التدخل بطريقة عشوائية وغير كافية، كما توضح سلسلة الأفلام الوثائقية التي بثتها هيئة الإذاعة البريطانية.
ويخلص موريه إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تكون أكثر تدخلاً، لكن الأصوات من غير الأميركيين غائبة بشكل واضح عن السلسلة الوثائقية مثل العراقيين والأفغان واليمنيين والسوريين، فهل يعتقد أولئك أن الولايات المتحدة يجب أن تتدخل أكثر وتسعى إلى مراقبة العالم؟ هل يعتقدون أن هذا هو الحل؟ هل يعتقد الفلسطينيون ذلك؟ لم نكتشف ذلك أبداً.
وعلى العكس من ذلك، فإن السلسلة التي تبلغ مدتها سبع ساعات ونصف تزدحم بالمسؤولين الأميركيين الذين يعانون ويتأملون ويتفلسفون، غالباً بطريقة فخمة، حول الولايات المتحدة ودورها في العالم، ومن الواضح جداً أن هذا هو المنظور الذي يريد موريه استكشافه، وغياب غزة عن الإنتاج يجعل الأمر يبدو سخيفاً.
في غزة، تتدخل الولايات المتحدة بتسليح ودعم دولة متهمة من قبل جزء كبير من المجتمع الدولي بارتكاب جرائم حرب، هنا، يكون التدخل الأمريكي ذا عواقب ومستمراً ومعارضاً بشكل صارخ للأمم المتحدة.
تثبت غزة أن الرواية الكبرى لمسلسلات موريه الوثائقية على هيئة الإذاعة البريطانية معيبة بشكل أساسي، وهذا هو السبب في أن حذفها بات ملح للغاية، فصحيح أنه تم التخطيط للسلسلة وإنتاجها، بشكل غير ملائم، قبل الهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر من العام الماضي والحرب الإسرائيلية التي تلت ذلك على غزة، لكن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل لأنها تنتهك القانون الدولي ظاهرة قديمة ومهمة، فلماذا تم تجاهلها؟
منظور المخرج
يملك مخرج السلسلة الوثائقية الإسرائيلي موريه سجلاً حافلاً في مناقشة الصراع الاحتلال والفلسطينيين، وقد قال لصحيفة هآرتس في وقت سابق من هذا العام: “لقد أذهلني في السابع من أكتوبر شدة الكراهية تجاه إسرائيل، هكذا منذ البداية، ظللت أسأل نفسي ما الذي يدفع الناس إلى مثل هذه الكراهية”.
وأضاف: “لا تنسوا أننا في عام 2024، الأشخاص الذين غزوا إسرائيل في عام 2023 كانوا في عمر سنة أو سنتين أثناء انسحاب إسرائيل من غزة، وأعمارهم تتراوح الآن بين 18 و21 عاماً، وكل ما يعرفونه عن الإسرائيليين هو العمليات العسكرية في غزة وما يسمعونه في المساجد، من آبائهم وبيئتهم وهذه هي النتائج”.
“لا شك أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في العالم، ولكن لماذا يعني ذلك أن عليها أن تراقب العالم؟”
لاحظ أنه وفقًا للأمم المتحدة وبموجب القانون الدولي، كانت إسرائيل القوة المحتلة في غزة حتى بعد أن أزالت مستوطناتها من القطاع، لكن موريه يتجنب هذا الأمر بحديثه عن “فك الارتباط”.
وبشأن السابع من أكتوبر، يبدو أنه يلقي باللوم جزئياً على الفلسطينيين الأكبر سناً في “تطرف” الشباب الفلسطيني، ويضع أيضاً بعض المسؤولية على الحكومة الإسرائيلية من خلال الإشارة إلى “العمليات العسكرية” في غزة.
وقد كانت مقابلة هآرتس نسخة مخففة بشكل كبير من المشاعر التي عبر عنها سابقاً، ففي عام 2012، أصدر موريه فيلماً وثائقياً بعنوان “حراس البوابة”، تضمن مقابلات مع ستة رؤساء سابقين لجهاز الأمن والاستخبارات الإسرائيلي، وزعم أن الاحتلال الإسرائيلي كان أكبر تهديد للبلاد، ومصدر المظالم الفلسطينية.
وقال في مقابلة حول الفيلم إن اليمين المتطرف “هو الخطر الأكبر على إسرائيل، إذا كانوا يعتقدون أن الحفاظ على الاحتلال هو لصالح إسرائيل، فإنهم مخطئون بشكل خطير، إنه يدمرنا من الداخل”.
ومن المهم أن موريه زعم حينها أن القرار لا يمكن أن يأتي إلا من خلال الضغط الخارجي على إسرائيل عبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد كرر هذا الرأي عام 2021 أثناء حديثه عن فيلم The Human Factor، وهو فيلم وثائقي يتناول فيه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعيون المسؤولين الأميركيين.
وقال: “أعتقد أن أميركا تتمتع بنفوذ أكبر بكثير مما تمارسه فعلاً على إسرائيل، وإذا قررت أميركا أن إحلال السلام بين إسرائيل وجيرانها يشكل مصلحة أميركية أساسية، فإن الطريقة التي تتعامل بها مع هذا الأمر يجب أن تكون مختلفة عندما تتعامل مع رئيس وزراء مثل بنيامين نتنياهو، الذي لا يؤيد السلام”.
انقلاب دراماتيكي
ويبدو أن أسلوب موريه في التدخل يشير إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تستخدم قوتها ونفوذها للضغط على نتنياهو لمواصلة السلام، وهذا يعني انقلاباً دراماتيكياً في النهج الأميركي حتى الآن، والذي كان يتمثل في توفير الغطاء والدعم لإسرائيل حتى في انتهاكاتها للقانون الدولي.
كما يستلزم هذا انحرافاً كبيراً عن النهج العام لواشنطن في التعامل مع مسائل القانون والمساءلة، فهي مثل إسرائيل، لم تصادق على نظام روما الأساسي، مما يضعها خارج اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
وفي الوقت نفسه، يحمي قانون حماية أفراد الخدمة العسكرية الأميركيين عناصر الجيش الأميركي من الملاحقة الجنائية، حتى أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب الأميركية المزعومة في أفغانستان.
كل هذا غائب بشكل مذهل عن سلسلة الأفلام الوثائقية التي بثتها هيئة الإذاعة البريطانية، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر قوة في العالم، ولكن لماذا يعني ذلك أنها يجب أن تراقب العالم؟
تذكر التعليق الذي يختتم الحلقة الأخيرة: “لن يتبع هذا العالم بمفرده نظاماً دولياً قائماً على القواعد”، لكن كثيرين سوف يقولون إن الولايات المتحدة هي التي لن تتبع نظاماً دولياً قائماً على القواعد، ربما في المرة القادمة، يجب على هيئة الإذاعة البريطانية أن تكلف بسلسلة أفلام وثائقية حول هذا الموضوع.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)