بقلم رويدا عامر
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
كانت صابرين لاشين واحدة من أوائل الذين حاولوا العودة إلى منازلهم في وقت سابق من هذا العام، حين سرت شائعة مفادها أن بوسع الفلسطينيين الانتقال من جنوب غزة إلى شمالها.
ولخيبة أمل لاشين، فقد منعتها قوات الاحتلال التي تحتل ما يسمى ممر نتساريم، أو “محور الموت” كما يشير إليه الفلسطينيون، من ذلك.
سئمت الأم النازحة من مخيم الشاطئ للاجئين في مدينة غزة من الحياة البائسة التي عاشتها في جنوب القطاع لمدة عام وثلاثة أشهر، ورفضت الاستسلام لطلب الجنود منها العودة، فحاولت مع خمس نساء أخريات، أن تشرح لهم الظروف المعيشية القاسية في جنوب غزة.
ففي الجنوب، نزحت لاشين 14 مرة بحثاً عن الأمان من قصف الاحتلال، ولكن دون جدوى، حيث قالت “لا يستطيع أبنائي العثور على عمل، ولا أستطيع تحمل تكاليف الدواء الذي أحتاجه”.
وأضافت المرأة البالغة من العمر 44 عاماً لموقع ميدل إيست آي: “النزوح المستمر والجوع والقصف والإذلال في الجنوب دفعني في النهاية إلى اتخاذ القرار الصعب بالعودة إلى الشمال، على الرغم من المخاطر”.
وعند نقطة التفتيش في ممر نتساريم، استمع بعض جنود الاحتلال إليها، فيما ظل آخرون منهم صامتين، لكنهم جميعاً رفضوا توسلاتها بالعودة إلى منزلها.
“في كل مرة، أنجو من الموت بصعوبة، لكنني أرفض الاستسلام، ما زلت آمل أن يظهر الجنود بعض الرحمة في يوم من الأيام ويسمحوا لي بالعودة” – صابرين لاشين، نازحة فلسطينية
وتقول لاشين أن قوات الاحتلال بدأت، دون سابق إنذار، في إطلاق النار على الذين اقتربوا من الممر، على أمل العودة إلى منازلهم، فأصيبت امرأة تبلغ من العمر 35 عاماً برصاصتين، واحدة في الظهر والأخرى أسفل صدرها”.
أمسكت المرأة المصابة بذراع لاشين، وتوسلت إليها ألا تتركها خلفها، فلم يبق أمام لاشين خيار سوى جر الجريحة نحو الجنوب، بينما فر الآخرون هرباً من إطلاق النار حيث مرت دبابة من بينهم وهدد طاقمها بدهس المرأة الجريحة.
وتقول لاشين: “خرج جندي وأمرني بترك المرأة خلفي، لكني رفضت، فقد كنت أصر أنها مازالت على قيد الحياة”.
نجحت لاشين في النهاية في جر المرأة على طول الطريق حتى وصلت إلى مجموعة من الشبان الذين ساعدوا في نقل الجريحة إلى مستشفى العودة في النصيرات، لكنها وللأسف لم تنج من إصابتها.
كانت هذه واحدة من 12 محاولة قامت بها لاشين للعودة إلى منزلها في شمال غزة، ومن المرجح أنها لن تكون الأخيرة.
وتضيف أن المنطقة في ممر نتساريم مليئة بالسيارات العسكرية والدبابات، بينما تحلق الطائرات بدون طيار في السماء، وتستهدف أي شخص يقترب.
لكنها ورغم ذلك تؤمن أن خطر الموت أثناء محاولة العودة إلى المنزل أفضل من البقاء نازحة في الجنوب.
وتقول: “ما زلت أحلم بالعودة إلى المنزل، أريد أن أقيم خيمة على أنقاض منزلي وأعيش مع أبنائي، بدلاً من تحمل إذلال النزوح في الجنوب”.
“محور الموت”
ولاشين واحدة من مئات الآلاف من الفلسطينيين النازحين داخل قطاع غزة الذين تمنعهم قوات الاحتلال من العودة إلى منازلهم منذ بدء عدوانها العام الماضي.
وقبل غزوها لغزة في أواخر أكتوبر/تشرين أول 2023، أجبرت قوات الاحتلال أكثر من مليون فلسطيني في شمال غزة على التوجه جنوباً تحت قصف عنيف.
ووعد جيش الاحتلال النازحين بالأمان في الجنوب إذا استجابوا لأوامر الإخلاء وزعم أن الانتقال سيكون مؤقتاً، لكن مئات الآلاف الذين امتثلوا لهذه الأوامر تعرضوا للقصف في الجنوب، حتى وهم في المدارس والخيام المؤقتة والمستشفيات والملاجئ الأخرى.
وفي الوقت نفسه، غزت قوات الاحتلال ما يسمى بممر نتساريم، وهو امتداد من الأرض يبلغ طوله 6 كيلومترات جنوب مدينة غزة يقسم القطاع إلى قسمين شمالي وجنوبي، ويمتد من الشريط الحدودي لقطاع غزة في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً.
وتشير التقارير إلى أن عرض ممر نتساريم يبلغ الآن 7 كيلومترات ويحتوي على قواعد عسكرية، وتستخدمه قوات الاحتلال لمراقبة حركة الفلسطينيين بين شمال وجنوب غزة وشن العمليات العسكرية.
ولدى محمد حجو، وهو من سكان حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، قصة أخرى حيث رفض في البداية المغادرة فيما انتقلت زوجته وأطفاله إلى الجنوب عند بداية الحرب، وبقي هو لحراسة المنزل، معتقداً أن غياب أسرته في الجنوب سيكون قصير الأمد.
وعندما استمرت الحرب دون نهاية في الأفق ووصل الجوع الشديد إلى جنوب غزة، قرر حجو عبور ممر نتساريم والانتقال جنوباً لمساعدة أسرته.
وقال حجو: “أخذت الكثير من الملابس لأطفالي لأن البرد في الخيام كان لا يطاق، كما أحضرت ملابس لزوجتي والعديد من الأشياء الأخرى، لكنها كانت رحلة طويلة ومليئة بالخوف”.
ويتذكر الأب البالغ من العمر 32 عاماً بعضاً من تفاصيل العبور من الممر قائلاً: “مشيت لفترة طويلة على طول الساحل، كنت خائفًا باستمرار من التعرض للقنص أو الاعتقال، وعندما وصلت إلى حاجز نتساريم، أوقفني الجنود”.
“كان هناك العديد من الجنود والدبابات والكاميرات وأجهزة المسح، لقد كانوا في كل مكان، لقد تغير المكان كثيرًا، لكنني لم أكن أركز على ذلك، كنت أركز فقط على الخروج من هناك بأمان” – محمد حجو، نازح فلسطيني
وأضاف: “أجبروني على ترك كل ما أحمله من الملابس والإمدادات، حتى إنهم أخذوا هاتفي، ورأيت حفرة كبيرة مليئة بأغراض من أسر نازحة أخرى، تم أخذها منها وكأنها لا تهم”.
احتجز الجنود حجو طوال الليل في ظروف يصفها بقوله: “أجبروني على خلع ملابسي، وأخذوا كل شيء مني، وطرحوا العديد من الأسئلة التي لا معنى لها، مثل لماذا هربت جنوبًا الآن، وليس في وقت سابق”.
وأضاف: “اعتقدت أنهم سيعتقلونني، ولكن في الصباح، تركوني أرحل عارياً، فوجدت شاباً على الطريق وساعدني في ارتداء بعض الملابس، قبل أن أصل في النهاية إلى عائلتي في خان يونس”.
وعلى الرغم من بعض الارتياح الذي شعر به عقب لم شمله مع عائلته، إلا أن المحنة لا تزال تثقل كاهل حجو.
وقال: “لقد تحطم قلبي لأنهم أجبروني على ترك كل ما تحتاجه عائلتي بشدة، لقد عانينا بالفعل من الكثير من الإذلال والإهانة أثناء الحرب، هذا المكان، نتساريم، هو محور موت، وليس مجرد نقطة تفتيش”.
لم يتركوا أثراً
كان حجو واحداً من المحظوظين القلائل الذين تمكنوا من الوصول إلى ممر نتساريم والخروج منه على قيد الحياة.
فخلال الأسبوع الماضي، كشف تحقيق لصحيفة هآرتس أن مئات الفلسطينيين، بما في ذلك الأطفال، قد استشهدوا برصاص جنود الاحتلال عشوائياً عند ممر نتساريم.
ونقلت الصحيفة عن ضابط كبير القول أن قائد الفرقة 252 أمر بتصنيف الممر كـ “منطقة قتل”، مما يسمح للجنود بإطلاق النار على “أي شخص يدخل”، حيث يتم وصف من يتم قتلهم بـ “الإرهابيين”، حتى لو كانوا أطفالاً.
“آمل أن تتوقف الحرب حتى أتمكن من الذهاب إلى منطقة نتساريم والبحث عن ابني” – انتصار العطار، نازحة فلسطينية
كما نقلت الصحيفة عن عنصر آخر في الفرقة العسكرية قوله أن حدود منطقة القتل كانت تعسفية إلى حد كبير وممتدة “إلى أقصى مدى يمكن أن يراه القناص”.
وأضاف العسكري الإسرائيلي للصحيفة: “نحن نقتل المدنيين هناك، الذين يتم اعتبارهم بعد ذلك إرهابيين”.
وأشار جندي آخر إلى المتحدث العسكري الذي أعلن أن فرقته قتلت أكثر من 200 “مسلح” في غزة، رغم أنه تم التأكد أن 10 فقط من بين هؤلاء الضحايا الـ 200 هم من نشطاء حماس المعروفين.
وبالإضافة إلى قتل العديد من الفلسطينيين، فإن آخرين يتم اعتقالهم تعسفياً عند نقطة التفتيش ويتم إخفاؤهم قسراً.
فقد فقدت انتصار العطار، 58 عاماً، أحد أبنائها في قصف الاحتلال في بداية الحرب، مما أجبرها على النزوح من مدينة غزة جنوباً مع بقية أفراد أسرتها.
لكن بعد أشهر من النزوح، قرر ابنها الآخر سامي القيام بالرحلة الخطرة نحو الشمال قبل ثلاثة أشهر، على أمل العودة إلى المنزل، لكن العطار لم تسمع عنه شيئاً بعد ذلك.
وقالت العطار لميدل إيست آي: “لا أعرف عنه شيئاً، هل استشهد أم اعتقل؟ لا أعرف”.
وبالقرب من نتساريم، يتجمع الشبان في منطقة تسمى النويري، في انتظار فرصة للعودة إلى الشمال.
وتقول العطار إنها تقف في مكان قريب، على أمل أن يجلب لها شخص ما الطمأنينة التي تحتاج إليها بشدة بشأن مصير ابنها.
غير أن التقارير الأخيرة عن عمليات القتل التعسفي للفلسطينيين بالقرب من الممر لم تزد إلا من مخاوفها.
وقالت: “تصريحات الجنود في الأخبار مخيفة، يقولون إنهم يطلقون النار على أي شخص يقترب من تلك المنطقة”.
وأضافت والدموع تترقرق في عينيها: “آمل أن تتوقف الحرب حتى أتمكن من الذهاب إلى منطقة نتساريم والبحث عن ابني، إذا كان ميتا، أريد دفنه، وإذا اعتقلوه، أريد أن أطمئن نفسي بشأنه، إن قلبي يحترق منذ أن تركني”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)