كان زياد مشهور الغفاري ينظر من ساحة منزله في قرية سنجل الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة، إلى بستان الزيتون الذي قام والده بغرس أشجاره قبل عقود من الزمن والذي تم تدميره الآن.
فقبل ثمانية أشهر، أُبلغ الغفاري أن سلطات الاحتلال تخطط لبناء جزء من جدار يفصل قريته سنجل شمال رام الله عن الطريق الرئيسي، دون أن يُمنح أي تفاصيل حول تصميم الجدار أو مساره أو قربه من منزله المحاذي للطريق.
وفي نهاية سبتمبر/أيلول، فوجئ الغفاري، مثل غيره من سكان القرية، بحضور عدد كبير من جنود الاحتلال تصحبهم جرافات عسكرية إلى المدخل الرئيسي للقرية حيث شرعوا في اقتلاع أشجار الزيتون وتجريف المنطقة المحيطة بمنزله.
وفي كل مرة كان الغفاري حاول فيها الاقتراب من الجنود كي يستفسر عما يجري، كان يتعرض للتهديد بالسلاح والأمر بأن يعود إلى منزله.
وقال غفاري لموقع ميدل إيست آي: “فجأة، تحولت حياتنا إلى كابوس، لم يعد المنزل آمناً، ولم تعد فيه خصوصية ولا حرية حركة، ولا نعرف متى أو كيف سينتهي هذا الكابوس”.
عاد غفاري، 62 عاماً، قبل سنوات من الولايات المتحدة بعد غياب دام 40 عاماً لإعادة بناء حياته في مسقط رأسه، فقام بتجديد بيت عائلته وترميمه وبدأ في العناية بأشجار الزيتون المحيطة به.
وشرح عن ذلك بقوله: “كل طفولتي قبل الهجرة كانت هنا، زرع جدي أشجار الزيتون هذه أمامي، ولعبت تحتها مع أطفال جيراني عندما كنت طفلاً، لكن هذه الجرافات دمرتها جميعاً خلال ساعات، أمام عيني مباشرة”.
أبلغت الإدارة المدنية الإسرائيلية سكان القرية قبل عدة أشهر بنيتها مصادرة 30 دونم من أراضي القرية لبناء سياج فاصل بطول 1000 متر “لحماية أمن المستوطنين الذين يمرون عبر طريق 60″، متذرعة برشق الحجارة من قبل شبان المنطقة عليهم.
وطريق 60 هو الطريق الرئيسي الذي يربط شمال ووسط وجنوب الضفة الغربية.
وفي ذلك الوقت، حاول غفاري وجميع أهالي القرية الاعتراض على القرار، لكن اعتراضاتهم رُفضت بحجة أن القرار أمر عسكري لا يمكن الطعن فيه.
وقبل ثلاثة أشهر، أصدرت سلطات الاحتلال قراراً ثانياً بإضافة مقطع آخر بطول 500 متر إلى الجدار.
ويعيش أهالي القرية، الذين لا يعرفون أي تفاصيل إضافية عن مخطط الاحتلال لقريتهم، في خوف حقيقي من عزلها عن محيطها.
ووفقاً لتقديراتهم، وبناءً على عمل الجرافات، فإن تسعة منازل تقع الآن في مسار الجدار.
وبالإضافة إلى ذلك، سيتم فصل 49 منزلاً آخر عن القرية، وسيتم عزل 8000 دونم من الأراضي الزراعية الواقعة في المنطقة الشمالية الشرقية من القرية والاستيلاء عليها، لضمها إلى أربع مستوطنات أخرى قائمة في المنطقة.
وقال معز طوافشة، رئيس بلدية سنجل، لـ “ميدل إيست آي”: “يحاول المستوطنون منذ سنوات السيطرة على هذه المنطقة، وتمكن السكان من صدهم، لكنهم الآن يستغلون الحرب ويستخدمون ذرائع واهية مثل منع إلقاء الحجارة”.
ومنذ بدء الحرب على غزة قبل عام، مُنع أصحاب الأراضي من الوصول إلى أراضيهم، وأغلقت قوات الاحتلال الطريق الرئيسي للقرية، وأصبح كل من يحاول الاقتراب عرضةً للاعتداءات.
ووفقًا لطوافشة، فإن هذا القرار لا يؤثر على القرية فحسب، بل يؤثر أيضاً على حرية الحركة على طريق 60.
وبالنظر إلى نمط القرارات المماثلة الأخرى، فإن دولة الاحتلال تهدف من خلال إقامة مناطق عازلة حول عدة قرى مثل سنجل في الضفة الغربية إلى فصل هذه المجتمعات بشكل كامل عن محيطها الفلسطيني ومنع اتصالها بالمنطقة الأوسع.
“فجأة تحولت حياتنا إلى كابوس، لم يعد المنزل آمنًا ولا خصوصية فيه ولا حرية حركة” – زياد الغفاري، أحد سكان القرية
وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وهي هيئة حكومية فلسطينية، فقد أصدرت سلطات الاحتلال 13 أمراً عسكرياً بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لإنشاء مناطق عازلة بهدف بناء أجزاء من الجدار أو أسوار حول المستوطنات في المناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية.
وتتوزع هذه المناطق على مواقع مختلفة، فهي تشمل في محافظة رام الله المزرعة الغربية حول بؤرة حراش الاستيطانية، ودير دبوان حول مستوطنة متسبيه داني.
أما في محافظة سلفيت، فتطال الأوامر قرية ياسوف حول مستوطنة كفار تبواح، واسكاكا حول مستوطنة نيفي نحميا، وبلدتي قراوة بني حسن وحارس حول مستوطنة كارني شومرون، ودير استيا حول مستوطنة رفافا.
وفي محافظة نابلس تشمل برقة في محيط مستوطنة حومش، ومنطقة ثانية قرب بلدة عورتا وروجيب حول مستوطنة ايتمار، ومنطقة ثالثة في قريتي الساوية ويتما حول مستوطنة رحاليم، بالإضافة إلى منطقة رابعة في قرى بورين وماداما وعصيرة القبلية المحيطة بمستوطنة يتسهار.
أما في قلقيلية فقد طالت الأوامر أراضٍ بالقرب من كفر قدوم، ومن المقرر إقامة منطقة عازلة حول مستوطنة كدوميم.
وفي بيت لحم شملت قريتي نحالين والجبعة في محيط مستوطنة جفعوت، وحول القدس شملت مناطق في قرية جبع، حيث من المقرر إقامة منطقة عازلة حول مستوطنة جيفا بنيامين.
عودة المستوطنين
وفيما لا تزال تفاصيل مخططات الجدار في قرية سنجل غير واضحة، فإن بعض القرى لم تتلق بعد قرارات رسمية بشأن البناء، رغم صدور الأوامر منذ أشهر، كما هو الحال في قرية برقة شمال نابلس.
وسيعمل هذا الجدار على عزل المناطق القريبة من مستوطنة حومش في برقة، والتي عاد إليها المستوطنون بعد إخلائهم في إطار خطة فك الارتباط الإسرائيلية، والتي أخلت إسرائيل بموجبها مستوطنات في غزة وبعض المستوطنات في الضفة الغربية عام 2005.
وبعد سنوات، وتحديداً في عام 2013، حصل أهالي القرية على قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية منحهم الحق في استعادة نحو 1200 دونم من أراضيهم الزراعية التي استولت عليها قوات الاحتلال عام 1978 لبناء المستوطنة.
وبالفعل، بدأ سكان القرية بعد القرار في إعادة تأهيل أراضيهم والاستعداد للبناء عليها، ليواجهوا الآن معركة جديدة ضد التوسع الاستيطاني.
لكن الضربة الكبرى جاءت في مارس/آذار 2023، عندما وافقت حكومة الاحتلال على مشروع قانون “إلغاء قانون فك الارتباط” في الضفة الغربية، مما يسمح للمستوطنين بالعودة إلى أربع مستوطنات تم تفكيكها، بما في ذلك حومش.
ومنذ ذلك الحين، هاجم المستوطنون في حومش سكان القرية وأراضيهم الزراعية مراراً وتكراراً.
وقال زياد أبو عمر، رئيس مجلس قرية برقة، أن القضية تمتد إلى ما هو أبعد من الأراضي المصادرة سابقاً، حيث يتوسع المستوطنون الآن في أكثر من 500 دونم جديد من أراضي القرية.
وأضاف لـ “ميدل إيست آي”: “لم نتلق بعد قراراً بمصادرة الأراضي لبناء الجدار، لكننا نرى جرافات الاحتلال تعمل يومياً في المنطقة، وتسوي الأرض وتضع المزيد من الأسوار حول الكرافانات التي تم تركيبها مؤخراً”.
الضم وخطط الفصل
وعلى الرغم من خطورة هذه الجيوب الاستيطانية على التجمعات الفلسطينية المعزولة في الضفة الغربية، إلا أنها ليست سوى جزء من خطة أكبر ستجعل واقع الضفة الغربية أكثر قتامةً، بحسب جمال جمعة، منسق الحملة الشعبية الفلسطينية لمقاومة جدار الفصل العنصري.
وقال جمعة أن هذه القرارات هي جزء من خطة الضم للضفة الغربية، والتي يتم تنفيذها بسرعة من خلال استغلال ظروف الحرب في غزة.
وأضاف جمعة: “ما يحدث على الأرض هو أن هذه الأوامر العسكرية لمصادرة الأراضي هنا وهناك مضللة، فبينما قد يتحدث الأمر العسكري عن مصادرة 10 دونمات من قرية فلسطينية، فإنه في الواقع يعزل ويصادر آلاف الدونمات حولها”.
وتابع: “هذه الأرض سوف يتم ضمها في نهاية المطاف إلى المستوطنات القائمة، وتوسيع هذه المستوطنات أو خلق روابط بينها”.
ففي حالة قرية سنجل على سبيل المثال، يذكر القرار 1500 متر من الجدار ومصادرة 30 دونماً لبنائه، ولكن في الواقع، فإن هذا الجدار سوف يعزل 8000 دونم ويضمها إلى مستوطنة معاليه ليفونا، ويربطها بمستوطنتي شيلو وإيلي والبؤر الاستيطانية الجديدة، مما يخلق كتلة استيطانية ضخمة في المنطقة.
ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى إغلاق الطريق بالكامل أمام الفلسطينيين وسيطرة المستوطنين عليها.
تسهم جميع هذه الإجراءات، إلى جانب خطط أخرى لبناء المزيد من المستوطنات وتوسيع المستوطنات الأصغر، في ترجيح كفة الميزان في الضفة الغربية، وتحويل المجتمعات الفلسطينية إلى أقلية محصورة في جيوب معزولة، ومفاتيح هذه الجيوب في أيدي الاحتلال.
وفي عام 1995، قسمت اتفاقية أوسلو الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، بحيث تخضع المنطقة أ و ب للإدارة المدنية للسلطة الفلسطينية، بينما بقيت المنطقة “ج”، التي تشكل نحو 60% من مساحة الضفة الغربية، تحت السيطرة العسكرية والمدنية الكاملة للاحتلال.
وقال جمعة: “الآن نحن نتحدث عن نظام فصل كامل لا يتضمن ضم المنطقة “ج” فحسب، بل يشمل أيضاً المنطقتين “أ” و”ب”، ويحيط بهذه القرى بالكامل ويتحكم في حركة سكانها”.