منزل لورد بريطاني… قطعة شرقية في قلب لندن

في قلب حديقة هولاند وسط لندن، يقع منزل لايتون الذي يعد تحفة معمارية مستوحاة من طابع خليط بين العربي والفارسي والعثماني معاً، تدل عليه لوحة  مخطوطة باللون الأزرق على الحائط الرئيسي مكتوب عليها ” الرسام اللورد فريدريك لايتون (1830-1896) عاش ومات هنا”، حيث توضع هذه المخطوطة الزرقاء في الموروث الإنجليزي على مقدمة منازل شخصيات مهمة من أجل تخليد ذكراهم، خاصة في حديقة هولاند التي تعد موطناً لعدد من بيوت العصر الفيكتوري الشهيرة.

غير أن ما يميز بيت المستشرق البريطاني فريدريك لايتون، والذي اكتمل بناؤه بين 1866-1895، ليس شكله الخارجي، وإنما طرازه من الداخل، وكأنه حمل معه الشرق الذي افتتن به، فأهم ما يلفت الأنظار في المنزل، الذي أصبح متحفاً الآن، هو “قاعة العرب” الغرفة الأغلى بلا منافس، لأنها تحتوي على مئات المقتنيات من دمشق واسطنبول والقاهرة والتي تعود إلى الفترة ما بين القرن 16-18 ، وبعضها ربما أقدم من ذلك أيضاً.

المستشرقون الأوروبيون

أبدى لايتون اهتماماً بالعمارة في الشرق، رغم أن غالبية أعماله الفنية مستوحاة من الميثولوجيا الإغريقية والتصوير من العهد القديم في قالب العصر الفيكتوري الذي ينتمي إليه، الأمر الذي يدعو للتساؤل، هل كان لايتون يحذو حذو العديد من الفنانين في عصره ممن كانوا يزورون الشرق ليروه بعيونهم بحثاً عن الإلهام مثلاً؟ يبدو هذا السبب منطقيا إذا ما عرفنا أن لايتون بالفعل زار الجزائر وجزيرة رودس ومصر وسوريا وتركيا، حتى كتب يصف شعوره بقوله ” أنا أحببت الشرق كما هو”.

لم يكن لايتون الفنان الانجليزي الوحيد الذي كان مفتوناً بالشرق، ولكنه من القلائل الذين زاروا الشرق بالفعل، إلى جانب ويليام موريس وفيليب ويب وجون هنري ديرلي وإمري والكر، الذين جمعوا مقتنيات أثرية وتحفاً شرقية خاصة العثمانية والفارسية منها، وأصبحوا متخصصين بها، حيث يقول موريس في مذكراته التي تعود إلى عام 1882 يشرح عن اهتمامهم بالعالم الإسلامي ” بالنسبة لنا كمصممين، كانت فارس بلاداً مقدسة، بسبب إرثها الفني المبهر”، أما لايتون فقد زخرف منزله بتحف فنية أصلية وتجارية.

بلاط تركي

يعود معظم البلاط المزخرف بأزهار زرقاء اللون مطلية بطلاء لامع شفاف على أرضية متحف لايتون إلى حقبة القرن 17 في تركيا، إلى زهرات منطقة إزنيك تحديداً غرب الأناضول التركي، وهي زخرفة تستخدم على جدران المساجد في تركيا، وفي القصور خاصة قصر توبكابي في اسطنبول، وموجودة في القسم العثماني من المسجد النبوي في المدينة المنورة.

ويحتوي المنزل على قاعتين رئيسيتين للاستقبال، في كل منهما ديوان للجلوس مزين بالخشب على الطراز الدمشقي في القرن 17، وخزانة خشبية أثرية رفوفها على شكل أقواس من الحقبة الصفوية الفارسية في القرن 15 أو 16، وعلى جدران القاعات أيضاً المزيد من البلاط المزخرف بأزهار إزنيك ممزوجة بمخطوطات بالأحرف العربية، أكبرها كان مخطوطاً باسم الله “الرحمن”، وأخرى مخطوطة بالبسملة، وأكثرها بهجة مخطوطة بتحية عثمانية “هذا المنزل مضاء ويتجلى بفرح لمن ينظرون إليه. السعادة والفرح مكتوبة على أبوابه، ادخلها بسلام وأمان”.

“هذا المنزل مضاء ويتجلى بفرح لمن ينظرون إليه، السعادة والفرح مكتوبة على أبوابه، ادخلها بسلام وأمان” تحية عثمانية

وجود هذه المخطوطات الإسلامية في بيت أوروبي من تلك الحقبة يدلل على أن استخدام الثقافة الإسلامية والاستلهام منها في أوروبا لم يكن أمراً غريباً، الأمر الذي يمكن تفسيره بوجود تجارة كبيرة بين الأوروبيين والدولة العثمانية، خاصة في إيطاليا، وغالب الظن أن الأوروبيين كانوا يقتنون أشياء تحتوي على مخطوطات عربية دون أن يعرفوا معناها، حتى أن البعض من الفنانين في أوروبا حاولوا تقليد الخط العربي في أعمالهم لإضافة عنصر جمالي إليها.

صُممت الجدران في وسط المنزل أسفل القبة من الداخل بنمط يسميه العرب الأبلق، حيث يتبادل اللونين الأبيض والأسود الصف في حجارة الجدران، وهو نمط استخدم لأول مرة في دمشق، ثم نقله المماليك إلى مصر والشرق، ويستخدم عادة للمساجد والمدارس الدينية والخانات.

في نفس الوقت، تحتوي الغرفة الرئيسية أيضاً على عناصر من الحقبة الفيكتورية في أوروبا، وإضافات قام بها فنانون إنجليز مثل نقش من جبص الموزاييك الذهبي مستوحى من فن الموزاييك في الجامع الأموي في دمشق من صنع الإنجليزي والتر كرين.

“إنه شيء جميل”

ما الذي دفع لايتون إذن إلى صنع هذه التحفة الفنية وسط لندن؟ ففي سبب ذلك كتب لايتون موضحاً بقوله “من أجل النظر إلى شيء جميل من حين لآخر”، حيث روي أن الغرفة التي صممت جدرانها بنمط الأبلق كانت تستخدم لجلوس ضيوف لايتون بعد العشاء، كما كانت تستخدم في دمشق موطنها الأصلي، وهي الأكثر بذخاً في المنزل، وتكلفتها لوحدها أكثر من تكلفة المنزل ككل!

ويوجد في المنزل عناصر إسلامية أخرى، مثل القاعة النرجسية كما تسمى، والتي تملأ جدرانها قطع من بلاط أزهار إزنيك والبلاط الملون بالتركواز، نُقشت بأيدي المستشرق الرسام البريطاني ويليام دي مورغن.

ويعلو قاعة العرب أو الاستقبال مشربية خشبية تطل عليها، استوحى لايتون فكرتها خلال رحلته إلى القاهرة، حيث كانت تستخدم المشربيات لجلسات النساء وأحاديثهن الخاصة وهن يشاهدن ما يحصل في قاعة الضيوف في الأسفل، كما كانت مصدراً للتهوية بعيداً عن حرارة الشمس، وهي ميزة كانت مهمة في مناخ الشرق الأوسط، بينما تقل أهميتها من هذه الناحية في الأوساط الأوروبية بالتأكيد.

فلسفة العصر الفيكتوري

يجسد منزل لايتون مثالاً مهماً على فلسفة الفيكتوريين في بحثهم عن الجمال والبذخ في معيشتهم، خاصة لفنان بحجم لايتون، ولد لعائلة غنية ووالده كان طبيب العائلة القيصرية في روسيا، واختلط بالطبقة المخملية حول أوروبا، وبدأ حياته المهنية كفنان ببيع قطعته الفنية الأولى إلى الملكة فكتوريا عام 1855.

أعيد افتتاح متحف لايتون مرة أخرى في أكتوبر 2022، بعد إغلاقه لعدة سنوات بهدف الإصلاحات والترميم، حيث تم الكشف عن مساحة جديدة من المنزل للزوار لأول مرة، تحتوي على أعمال وتحف فنية تربط الإرث التاريخي للمنزل بفنانين وحرفيين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، منها جناح كامل مفروش بأثاث صنع بأيدي حرفيين سوريين في الأردن.

من الأجزاء المكشوفة حديثاً والمثيرة للاهتمام، ملحق مستدير الشكل يمتد على الجدران الجانبية لدرج حلزوني في المنزل الأثري، عرض فيه أول عمل فني معاصر في المنزل الأثري، وهي جدارية يبلغ طولها 11 متراً وتحمل عنوان “الوحدانية” بيد الفنانة الإيرانية شهرزاد غفاري، مستوحاة من قصيدة “من أنا” لجلال الدين الرومي.

إذا زرت لندن يوماً، وأردت رؤية فن الشرق وسحره بعيون إنجليزي من العصر الفيكتوري، كيف كان يرى الشرق وكيف جلبه إلى ثقافته وموطنه، فما عليك إلا زيارة متحف منزل اللورد فريدريك لايتون لتشاهد ذلك بعينك.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة