من الذي عليه أن يخاف من تقرير فرانشيسكا ألبانيز؟ 

بقلم حميد دباشي 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

جاء تعيين الباحثة القانونية فرانشيسكا ألبانيز كأول امرأة تتولى منصب المقررة الخاصة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الوقت الذي تلوي فيه الآلام عنق الصهاينة من تل أبيب مروراً بلندن إلى نيويورك بعدما ارتكبوا الإبادة الجماعية، وقد باتت اليوم صوت الضمير العالمي الذي يقول الحقيقة أمام دعاة الحرب السوقيين الذين يرتكبون الفظائع في غزة.

لقد أثار التقرير الجريء والرائع والمدروس بعناية والذي أصدرته ألبانيز مؤخراً تحت عنوان “تشريح الإبادة الجماعية” الكثير من الإعجاب بعملها الدؤوب في جميع أنحاء العالم، ولكنه أثار الرعب والغضب كذلك بين الصهاينة الذين لا يريدون أن تلقى الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين مثل هذا الحساب البليغ و الدقيق والمفصل.

ويعد التقرير ثاني رواية من نوعها بعد الوثيقة المقنعة التي أعدها فريق جنوب أفريقيا القانوني ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية في محكمة العدل الدولية، كما أن تقرير ألبانيز أصبح بارزاً بذات القدر باعتبارهما سجلين قويين يحمّلان المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية المسؤولية عن جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

بعد تعرضهم للخديعة من قبل اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة والدعاية الإعلامية الغربية، قد يكون الصهاينة الذين يرتكبون الإبادة الجماعية مازالوا يعيشون تحت الوهم بأن العالم يتصرف مثل النعامة التي تضرب رأسها في الرمال، أي أنه أعمى لا يرى همجية الدولة الإسرائيلية في فلسطين، لقد اشترى اللوبي الساسة الأمريكيين الذين يواصلون شراء الأسلحة لتغذية هذا الرعب ودفع ثمنهم.

إن التقارير كتلك الواردة من ألبانيز، والوثائق القانونية مثل تلك الواردة من جنوب أفريقيا، تشكل لائحة اتهام عالمية ضد أيديولوجية السرقة والقتل والتدمير المنحرفة أخلاقياً والمفلسة سياسياً، والتي تكمن في جذور المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية.

تقرير ألبانيز مفصل ومذهل، وهو وثيقة ممتازة كنموذج للنزاهة المهنية والبحث الرائع، حيث خلص التقرير رسمياً إلى أن “الطبيعة الساحقة وحجم العدوان الإسرائيلي على غزة والظروف المعيشية المدمرة التي فرضها تكشف عن نية لتدمير الفلسطينيين جسديا كمجموعة”.

الحقائق على الأرض

ويستشهد التقرير “بأسباب معقولة للاعتقاد بأن الحد الأدنى الذي يشير إلى ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية التالية ضد الفلسطينيين في غزة قد تم استيفاؤها: قتل أعضاء المجموعة، التسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير لأعضاء المجموعة، وإخضاع المجموعة عمداً لظروف معيشية تهدف إلى تدميرها المادي كلياً أو جزئياً”.

جاءت اللغة القانونية للوثيقة محسوبة وخالية من المشاعر: “تمت الموافقة على أعمال الإبادة الجماعية وتفعيلها بعد بيانات نية الإبادة الجماعية الصادرة عن كبار المسؤولين العسكريين والحكوميين”.

إن ما يحفز ألبانيز في هذا التقرير هي الحقائق على الأرض، بما في ذلك الأطفال وآبائهم الذين ذبحوا في وضح النهار على يد نتنياهو ودولته والقادة الأميركيين والأوروبيين الذين دعموه، فهم كلهم ​​متورطون وفقاً لهذا التقرير التاريخي.

“يجب ألا تُفلت إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة من هذه الوصمة، وينبغي على المدارس والكليات في جميع أنحاء العالم أن تبدأ بتدريس هذه الوثائق”.

ويقدم كتاب ألبانيز الأخير والذي ألفته بالشراكة مع  ليكس تاكنبرج، بعنوان “اللاجئون الفلسطينيون في القانون الدولي”، فهماً عميقاً للأسس العلمية والقانونية لهذا التقرير القصير، ويفضح آلية الدعاية الصهيونية في أوروبا والولايات المتحدة.

كانت ردود أفعال المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين والأوروبيين على هذا التقرير، بالطبع، مبتذلة للغاية، فقد تم قصر التقرير على كاتبته حيث أعلنها النقاد “معادية للسامية” وشككوا في أبحاثها وقللوا من أهمية دراستها.

وذهبت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، الصوت الدائم للاستعمار البريطاني في جميع أنحاء العالم، إلى أقصى حد حين قالت: “من المرجح أن يصاب العديد من الإسرائيليين أيضًا بالصدمة، فتأييد ارتكاب الإبادة الجماعية من قبل دولة تأسست كنتيجة مباشرة للإبادة الجماعية لليهود في ألمانيا النازية سوف يسبب إهانة كبيرة”.

يتفاعل العديد من الصهاينة مثل الأعضاء الحديثين تماماً على موضوع ما في نادٍ للمناظرة، حيث يسارعون إلى الحشو والاستعداد لمناظرة متلفزة، جاهلين بالحقائق على الأرض أو الأسوأ من ذلك تجاهلها، والواقع أن ألبانيز أثارت عش الدبابير.

الحقيقة مقابل الدعاية

ومع ذلك، تظاهرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بالتوازن بطريقة مثيرة للسخرية: “لن يحب الكثيرون اختيار فرانشيسكا ألبانيز للكلمات، لكن محتوى تقريرها سيزيد من الضغوط على إسرائيل لحملها على تغيير استراتيجيتها”. إستراتيجية؟ هل الإبادة الجماعية استراتيجية؟ وما الذي يستلزمه التغيير الاستراتيجي على وجه التحديد: الاستمرار في تشويه وقتل الفلسطينيين، مع التعامل بلطف معه؟ الجنون المطلق!

في نهاية المطاف، تعمل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) على تغذية الرواية الإسرائيلية الساعية إلى تشويه سمعة كيان الأمم المتحدة بأكمله باعتباره من كلف بإعداد هذا التقرير: “إن إسرائيل غاضبة منذ سنوات من جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي يخصص بشكل دائم قسماً كاملاً – البند 7 – للتدقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ومن بينها الوضع في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى”.

ويواصل المقال: “لم تتم الموافقة على هذا البند من جدول الأعمال من قبل الأمم المتحدة نفسها، ولكن من قبل الدول الأعضاء فيها منذ عقود، ولم تنته صلاحيته أبداً، ولا توجد دولة أخرى في العالم تخضع لتدقيق دائم مثل هذا، وإسرائيل تعتبر ذلك تمييزاً يهدف إلى نزع الشرعية عنها وترفض حضور المجلس عندما يكون البند السابع قيد المناقشة”.

تدور المعركة التي نشهدها بشأن تقرير ألبانيز بين الحقيقة، التي تتردد أصداؤها من جنوب أفريقيا إلى أيرلندا ونيكاراغوا إلى الأمم المتحدة من جهة، وآلية الدعاية اليائسة لإسرائيل، التي تدعمها و تغذيها وسائل الإعلام الغربية من جهة أخرى، لقد خلق التاريخ المستمر للاستعمار البريطاني هذه الكارثة، فيما تستمر هيئة الإذاعة البريطانية في الدفاع عن وحشيتها وإضفاء الشرعية عليها.

نحن نشهد نقطة بالغة الأهمية في تاريخ المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية والمسار المستمر للوحشية التي مكنتها فحسب، بل على نفس القدر من الأهمية، التاريخ الطويل للوحشية الأوروبية والمركزية الأوروبية في جميع أنحاء العالم، والتي تعد إسرائيل اليوم أبرز ميراث لها.

خلال انتفاضة “حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم، بدأ الناس في إسقاط التماثيل المروعة لملّاك العبيد الاستعماريين الأوروبيين العنصريين، في إشارة إلى أرشيفات الهمجية التي ارتكبتها أوروبا في جميع أنحاء العالم، واليوم، يشهد الناس في جميع أنحاء العالم هذا العرض الخطير من الوحشية الأوروبية في فلسطين.

إن الوثائق مثل تلك التي أعدتها جنوب أفريقيا في المحكمة العالمية أصبحت الآن تتمتع بنظير قوي بنفس القدر من اللغة الألبانية، هذه هي أرشيفات تاريخنا الحاضر والمتلاشي، ويجب ألا تُفلت إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة من هذا الخطاف، يجب على المدارس والكليات في جميع أنحاء العالم أن تبدأ بتدريس هذه الوثائق.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة