قبل بضعة أسابيع، أدان “المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط” التابع للأمم المتحدة، النرويجي توم وينسلاند، المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي المستمر ووصفه بأنه “إرهاب”. ووينسلاند هو آخِر، ولكن للأسف ليس الأخير، ضمن قائمة طويلة من المسؤولين النرويجيين، الذين وجهت آراؤهم السياسية بشأن المقاومة الفلسطينية السياسة النرويجية تجاه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية منذ الحرب العالمية الثانية، ويشمل هذا السجل المسؤولين النرويجيين الذين شغلوا مناصب في الأمم المتحدة، بمن فيهم الأمين العام الأول للأمم المتحدة، تريغفي لي.
وفي رده على سؤال حول ما إذا كان للشعب الفلسطيني الحق في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي العنيف، لم يكرر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كلمات وينسلاند حرفياً، لكنه أعلن أنه يجب على الفلسطينيين أن يحذوا حذو غاندي في المقاومة لا أكثر: “دعونا لا ننسى مثال غاندي. أعتقد أنه من المهم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني والاعتراف بها بشكل كامل. أعتقد أنه من المهم إدانة أي محاولة تقويض حل الدولتين، وبناء المستوطنات، وإخلاء العائلات الفلسطينية والعديد من الجوانب الأخرى. لكنني لا أعتقد أن الفلسطينيين سيتمكنون من خلال العنف من الدفاع عن مصالحهم بشكل أفضل. هذا هو رأيي المتواضع”.
لكن في واقع الأمر رأي غوتيريش ليس متواضعاً أبداً، لا سيما أنه يترأس نفس المنظمة التي جرّدت الشعب الفلسطيني من وطنه وأضفت الشرعية (ولا تزال تضفيها) على السرقة الاستعمارية لبلده، والتي لم تتحقق من خلال مكائد الولايات المتحدة والقوى الأوروبية فحسب، بل أيضاً من خلال جهود موظفي الأمم المتحدة الذين يتم الاحتفاء بإنجازاتهم في مهمتهم هذه حتى اليوم. أما غوتيريش، فشأنه شأن وينيسلاند، فهو آخِر حلقة في سلسلة طويلة من مسؤولي الأمم المتحدة الذين أضرّت، بل تسببت وجهات نظرهم تجاه الفلسطينيين المستعمَرين باضطهاد هذا الشعب.
وقد بعثت الأمم المتحدة تحت قيادة تريغفي لي المذكور أعلاه والمؤيد بشدة للصهيونية في آب/ أغسطس 1948 الكونت السويدي فولك برنادوت للتوسط لوقف إطلاق النار بين الإسرائيليين والدول العربية المجاورة في خضم الغزو الصهيوني لفلسطين. لكن مجموعة “ليحي”، العصابة اليهودية الإرهابية المؤيدة للأنظمة الأوروبية الفاشية المعروفة أيضاً باسم عصابة شتيرن، قامت باغتيال برنادوت في أيلول/ سبتمبر، ما اضطر نائبه، المثقف الأمريكي الأسود والعميل السابق للحكومة الأمريكية رالف بنش، للحلول محله. وكان بنش، بعد اغتيال برنادوت، هو من تفاوض على اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل وجيرانها العرب.
المنظمة التي جرّدت الشعب الفلسطيني من وطنه وأضفت الشرعية (ولا تزال تضفيها) على السرقة الاستعمارية لبلده، والتي لم تتحقق من خلال مكائد الولايات المتحدة والقوى الأوروبية فحسب، بل أيضاً من خلال جهود موظفي الأمم المتحدة الذين يتم الاحتفاء بإنجازاتهم في مهمتهم هذه حتى اليوم. أما غوتيريش، فشأنه شأن وينيسلاند، فهو آخِر حلقة في سلسلة طويلة من مسؤولي الأمم المتحدة الذين أضرّت، بل تسببت وجهات نظرهم تجاه الفلسطينيين المستعمَرين باضطهاد هذا الشعب
قبل انضمامه إلى الأمم المتحدة، كان بنش في عام 1941 قد أصبح المسؤول الأمريكي الأسود الذي تبوّأ أعلى رتبة رسمية في “مكتب الخدمات الاستراتيجية”، الذي تحول فيما بعد إلى وكالة المخابرات المركزية أو السي آي إيه. وخلال فترة عمله في مكتب الخدمات الإستراتيجية كتب بنش سلسلة من الكتيبات والكراسات الدعائية للحملات العسكرية الأمريكية في شمال وغرب أفريقيا أثناء الحرب العالمية الثانية. ومن أجل السيطرة على الأهالي من الأفارقة المحليين، أوصى بنش الولايات المتحدة بتوظيف “زنوج أمريكيين يتم اختيارهم بعناية” والذين “يمكن أن يثبتوا أنهم أكثر فعالية من البيض، وذلك بسبب قدرتهم الفريدة على اكتساب ثقة السكان الأصليين بسهولة أكبر”. وكان بنش أيضاً مسؤولاً عن إعداد الجنود الأمريكيين للخدمة في الدول الأفريقية حيث كان من المقرر أن يتمركزوا، ونصح البيض من ضمنهم بعدم التعبير عن آرائهم العنصرية. وبعد أن أصبح بنش عميلاً في الحكومة الأمريكية، وصفه المثقف الأمريكي الأسود الأبرز من بين مناوئي العنصرية البيضاء، وليم دو بويز، بأنه أصبح “زنجياً منحطاً يخدم الرجل الأبيض”.
وبعد انتهاء الحرب تم تعيين بنش مساعداً خاصاً لممثل الأمين العام لدى لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين، وبما أن زعماء الفلسطينيين الممثلين باللجنة العربية العليا رفضوا الاجتماع بلجنة الأمم المتحدة أو منحها الشرعية عند وصولها إلى فلسطين في صيف عام 1947، فقد قام الصهاينة بدعوة وتكريم بنش، الذي اجتمع معهم، لا سيما مع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن. كما التقى بنش سراً مع الإرهابي الهارب من العدالة والمطلوب من السلطات البريطانية آنذاك مناحيم بيغن الذي أجرى معه اتصالات سرية و”حميمة” فيما بعد، والذي قال له، بحسب رواية بيغن: “أستطيع أن أتفهمك. أنا أيضاً أنتمي إلى أقلية مضطهَدة”. وكان بنش صريحاً أكثر عندما أعلن فيما يتعلق بالصهاينة أنه “كان لدي تعاطف شخصي محض مع قضيتهم”.
وكان بنش هو أيضاً مَن صاغ تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين الذي اعتمدت الجمعية العامة على أساسه قرار تقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. وكان تريغفي لي، مدير بنش، يجتمع في تلك الأثناء سراً مع ممثلي الوكالة اليهودية بشكل شبه يومي في منزله بعد شهر نيسان/ أبريل 1947، حتى أن لي كان قد تمادى في غيّه إلى حد تمرير “تقارير استخبارات بريطانية سرية للغاية إلى الوكالة اليهودية” من خلال مسؤول الأمم المتحدة النرويجي في القدس، الذي كان قد عيّنه مسبقاً.
وبينما تم اختيار برنادوت من قبل الجمعية العامة في 14 أيار/ مايو 1948 ليكون “وسيط الأمم المتحدة في فلسطين”، فقد تم تعيين بنش من قبل لي بوصفه “الممثل الرئيس للأمين العام في فلسطين”. وقد كان تعاطف بنش مع الصهاينة لا يتناقض مع الانحياز المؤيد للصهيونية بين القائمين على الأمم المتحدة والحكومة الأمريكية اللتين عمل بنش موظفاً لديهما، بل كان تحيزه أيضاً يتماشى مع رأي برنادوت، الذي كان “الحياد” عنده يعني معاملة المستعمرين الصهاينة والسكان الأصليين المستعمَرين على قدم المساواة، بمعنى أن لدى الطرفين حقوقاً متساوية في فلسطين.
وكان بنش قد وصف الزعماء العرب بأنهم “أطفال” ووصف القادة اليهود بأنهم “أكثر ذكاءً وعقلانية”، ومع ذلك هاجمه الإسرائيليون هو وبرنادوت لعدم السماح لهم باحتلال المزيد من الأراضي أثناء غزوهم المستمر آنذاك لفلسطين، واتُهم بنش بأنه “معاد للسامية”. وانضم دو بويز، وكان صهيونياً متطرفاً، إلى الجوقة المؤيدة لإسرائيل في الصحافة الأمريكية والإسرائيلية عندما اعتذر في خطاب سيئ السمعة ألقاه أمام مؤسسة الكونجرس اليهودي الأمريكي باسم الزنوج الأمريكيين “عن رِدة رالف بنش الواضحة.. حيث كان ينبغي على مبادئ الحرية والتعامل بالعدل أن توجه سليل العبيد الأمريكيين هذا” كي يدافع عن إسرائيل بحماسة أكبر. وأضاف دو بويز أن بنش كان مرتبطا بـ”الخيانة المشينة” بحق اليهود التي قامت بها زعماً وزارة الخارجية الأمريكية. لم يغفر بنش لدو بويز ما اتهمه به قط، وخاصة عندما تم استهداف دو بويز نفسه في عام 1951 من قِبَل وزارة العدل الأمريكية بسبب معارضته للحرب الباردة.
كان الأمين العام للأمم المتحدة تريغفي لي منحازاً لإسرائيل لدرجة أنه نصح الإسرائيليين بكيفية التعامل مع برنادوت خلال المفاوضات، وكان بنش يعلم جيداً أن لي “لم يكن موضوعياً على الإطلاق فيما يتعلق بالقضايا الكبرى مثل فلسطين”. وقد تفاوض بنش على اتفاقيات الهدنة بين الإسرائيليين والدول العربية المجاورة في الأشهر السبعة الأولى من عام 1949، حيث جرت معظم الاجتماعات في جزيرة رودس، وكما هو متوقع، كانت نتيجة المفاوضات لصالح الإسرائيليين في جميع الحالات، على الرغم من أن بنش قد أقرّ، كما يفعل الليبراليون عادة لنزع المسؤولية عن أنفسهم، بأن الاتفاقيات مثلت “صفقة جديدة. وكالعادة كان عرب فلسطين الخاسرين فيها”.
وقد حاز بنش تقديراً لجهوده في تعزيز النظام الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني وتوسيع أراضيه على جائزة نوبل للسلام في عام 1950 (وكان أول رجل أسود يحوز عليها على الإطلاق). وظل دفاع بنش عن الولايات المتحدة، على الرغم من نظام الحكم العنصري الأبيض القائم فيها، راسخاً دون تردد، لدرجة أن الحركة الطلابية الراديكالية للسود الأمريكيين في الستينيات أطلقت عليه لقب “العم توم” (وهي شتيمة للسود الذين يخدمون البيض ويساعدونهم في اضطهاد بني عرقهم)، كما أطلق عليه آدم كلايتون باول (السياسي الأمريكي الأسود الذي كان قساً بروتستانتياً وقد زار فلسطين في عام 1938 أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى وكتب كتاباً استشراقياً مؤيداً للصهيونية عن رحلته) ومالكوم إكس لقب “العم توم الدولي”.
ونظراً لاحتفاء بنش بـ”الديمقراطية الأمريكية” الاستعمارية الاستيطانية العنصرية باعتبارها “أعظم تجربة في تاريخ المجتمع البشري”، فإن موقفه من الفلسطينيين لم يكن غريباً على الإطلاق. وقد كان بنش على بيّنة من أن دعم الأوروبيين والأمريكيين للاستعمار الاستيطاني اليهودي متجذر في مواقفهم المعادية للسامية، حيث إنهم “سيدعمون مطالبات الوكالة اليهودية بإقامة دولة يهودية كوسيلة للإلقاء بيهود العالم على عاتق العرب”. وكان قد كتب نقلاً عن المندوب الكندي إلى لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين، إيفان راند من المحكمة العليا الكندية، الذي أيّد إقامة دولة يهودية في فلسطين: “حتى نتمكن من التخلص منهم [أي اليهود] مرة واحدة وإلى الأبد، ولن يزعجونا طوال الوقت”. ومع ذلك، لم يتعاطف بنش مع الفلسطينيين باعتبارهم أيضاً ضحايا العنصرية والاستعمار اليهودي الأوروبي. بدلاً من ذلك، تعاطف مع اليهود، قَتَلة الفلسطينيين وسارقي وطنهم، لأن اليهود كانوا ضحايا معاداة السامية المسيحية الأوروبية، وكأن التماهي مع اليهود الأوروبيين كضحايا لم يكن ممكناً إلا من خلال دعم الاستعمار الاستيطاني اليهودي في فلسطين.
بخلاف بنش أو دو بويز، كان مالكوم إكس، الذي تأثر بشكل كبير بمؤتمر باندونغ لعام 1955 ونضالات العالم الثالث ضد الاستعمار، واضحا عندما كتب في مقالته الشهيرة “المنطق الصهيوني” أن ليس لما فعله الصهاينة بالفلسطينيين سند قانوني وأخلاقي أكثر مما كان سيكون لو قرر السود من الأمريكتين العودة إلى أفريقيا، وطرد السكان المحليين الذين يعيشون هناك، وإقامة وطن لسود الأمريكتين هناك:
“هنالك أكثر من 100 مليون من شعبنا يعيشون في نصف الكرة الأرضية الغربي يتحدرون من أصول أفريقية. لكن لمجرد أن أجدادنا عاشوا هنا في أفريقيا، فهل ذلك سيمنح الأمريكيين من أصل أفريقي الحق في العودة إلى القارة الأم لطرد المواطنين الشرعيين في نيجيريا، أو غانا، أو كينيا، أو تنجانيقا، أو أوغندا من مدنهم، ومصادرة جميع ممتلكاتهم من أجل أنفسنا كي نقيم دولاً أفريقية- أمريكية جديدة.. كما فعل الصهاينة الأوروبيون بإخواننا وأخواتنا العرب في فلسطين؟ ووفقاً لهذا المنطق الصهيوني المشوه، فسيكون على جميع البيض مغادرة نصف الكرة الغربي بأكمله، وستعود هاتان القارتان الشاسعتان إلى أصحابهما الأصليين.. الهنود الأمريكيين”.
إدانة مندوب الأمم المتحدة توم وينسلاند للمقاومة الفلسطينية باعتبارها “إرهاباً”، ونصيحة غوتيريش بأن يتخلى الفلسطينيون عن المقاومة المسلحة في مواجهة العنف الاستعماري الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه، ليستا إلا أحدث التجليات لسجل الأمم المتحدة الطويل في تجريد الشعب الفلسطيني من أراضيه، ومطالبته بالقيام بإضرابات عن الطعام وكتابة رسائل احتجاج ردا على ما حلّ ويحل به، لا أكثر
بخلاف الشتات الأفريقي الذي يتحدر بالفعل من القارة الأفريقية، فإن اليهود الأوروبيين بالطبع لم يأتوا إلى أوروبا من فلسطين، بل كانوا أوروبيين اعتنقوا الديانة اليهودية. وقد سخر مالكوم إكس من ادعاءات الصهاينة ذات الأساس الديني بفلسطين وتساءل عما إذا كان رالف بنش هو “مسيح الصهيونية”. رغم ذلك كله، فإن بنش لا يزال يحظى بالتقدير في الأمم المتحدة حتى اليوم، وكانت قد صدرت سيرة جديدة عن حياته هذا العام حاشدة بالإشادة والمديح له.
إن إدانة مندوب الأمم المتحدة توم وينسلاند للمقاومة الفلسطينية باعتبارها “إرهاباً”، ونصيحة غوتيريش بأن يتخلى الفلسطينيون عن المقاومة المسلحة في مواجهة العنف الاستعماري الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه، ليستا إلا أحدث التجليات لسجل الأمم المتحدة الطويل في تجريد الشعب الفلسطيني من أراضيه، ومطالبته بالقيام بإضرابات عن الطعام وكتابة رسائل احتجاج ردا على ما حلّ ويحل به، لا أكثر.
للإطلاع على النص باللغة الانجليزية من (هنا)