بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الولايات المتحدة، لا تموت معركة العدالة أبدًا، قد تُدفن أو تُهمَّش أو تُمحى من السرديات، لكنها دائمًا تجد طريقها للعودة؛ بأشكال جديدة، وأصوات جديدة، ووجوه جديدة.
رجلان يفصل بينهما جيل كامل – أحدهما أيقونة حركة الحقوق المدنية، والآخر سياسي صاعد في نيويورك – يقفان على الأرض الأخلاقية نفسها، بعد ستة عقود على اغتيال مالكوم إكس، يواصل المرشّح لرئاسة بلدية نيويورك زهْران ممداني تجسيد إيمانه العميق بالمساواة والحرية والتحرّر، دون اعتذار أو مواربة.
الأمر الحاسم أن مالكوم إكس، مثل ممداني، كان مسلمًا فخورًا، تَشكّل وعيه في أتون التمييز العنصري ونزعة القومية السوداء في حركة “أمة الإسلام”، التي قلبت معادلة تفوق العرق الأبيض لكنها ظلّت تقسم العالم إلى أسود وأبيض، ظالم ومظلوم، بالنسبة لرجل لم يعرف إلا وحشية نظام جيم كرو للفصل العنصري في الجنوب الأمريكي، بدا هذا العالم الثنائي حقيقة لا يمكن كسرها.
التحوّل في مكة
لكن رحلة الحج إلى مكة غيّرت كل شيء، فقد كتب مالكوم إكس بعد الحج: “قد تُصدمون من كلماتي هذه، لكن ما رأيته في هذه الرحلة أجبرني على إعادة ترتيب الكثير من أنماطي الفكرية السابقة، والتخلّي عن بعض استنتاجاتي القديمة.”
في الأرض المقدّسة رأى ما كان يعتقد أنه مستحيل: بشرًا من كل لون ولسان، من الشقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفارقة السمر، متساوين في الشعائر، غارقين في روح الأخوة والكرامة والهدف المشترك.
وقال: “لم أشهد قط مثل هذا الكرم الصادق وروح الأخوة الحقيقية… كنا جميعًا نشارك في الطقوس نفسها، ونُظهر روحًا من الوحدة لم أكن أتصوّر أنها ممكنة بين الأبيض وغير الأبيض.”
لم تغيّر رحلة الحج فكره السياسي فحسب، بل روحه أيضًا، عاد إلى أمريكا برؤية جديدة لا تقتصر على تحرّر السود، بل تمتد إلى كرامة الإنسان في كل مكان، كتب يقول:“على أمريكا أن تفهم الإسلام، فهو الدين الوحيد القادر على إزالة مشكلة العِرق من جذورها.”
من المحلي إلى العالمي
أدرك مالكوم إكس أن العنصرية ليست خطيئة أمريكية داخلية فحسب، بل جزء من بنية عالمية: منظومة استعمارية تربط نضال الأمريكيين السود بنضالات الجزائريين والغانايين والفيتناميين والفلسطينيين، وفي مقاله الشهير “المنطق الصهيوني” وصف الصهيونية بأنها “شكل جديد من الاستعمار”، مشروع يغلّف الاستيلاء على الأرض بلغة إنسانية زائفة، لقد سمّى ما رفض قادة أمريكا الاعتراف به: أن الاضطهاد ليس محليًا، بل هيكليًا وعالميًا.
قال مالكوم إكس يومًا: “إن لم تكن مستعدًا للموت في سبيل الحرية، فأزل كلمة الحرية من قاموسك”، ويقول ممداني اليوم: “سأجد نفسي في النور”
رفض الظلّ
حين دخل زهران ممداني عالم السياسة، نُصح بألّا يُظهر إيمانه علنًا، وأن يخفي ما قد يُعتبر “إسلاميًا أكثر من اللازم” في المجال العام الأمريكي”، إنها نصيحة يعرفها كثير من المسلمين في الغرب: أن يطلبوا أقل، ويتوقعوا أقل، ويكتفوا بالفتات.
لكن ممداني رفض التهميش، اختار أن يحتضن هويته الدينية كمصدر قوة لا ضعف، قال في أحد خطاباته: “حلم كل مسلم هو أن يُعامَل كأي نيويوركي آخر. ومع ذلك طُلب منا طويلًا أن نرضى بأقل من ذلك، وأن نكون ممتنين للقليل الذي يُمنح لنا، كفى!.
من غزة إلى نيويورك
ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، وعضو الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ليس غريبًا عن الجدل ولا عن الشجاعة، فهو من أبرز الداعمين لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) منذ أيامه الجامعية، وظلّ موقفه المؤيد لحقوق الفلسطينيين في صميم رؤيته السياسية، وقد أدان علنًا تواطؤ واشنطن في جرائم دولة الاحتلال، وصرّح بأنه، كرئيس لبلدية نيويورك، سيطالب باعتقال بنيامين نتنياهو إن وطئت قدماه المدينة — موقف رمزي أشعل حماس أنصاره وأغضب خصومه.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، ضخت الشركات الكبرى ومصالح العقارات أكثر من 22 مليون دولار لوقف حملته، في محاولة يائسة من الطبقة الثرية لكبح ما تعتبره تهديدًا وجوديًا لنفوذها.
لكن ممداني لا يمثل مجرد تحدٍّ لصورة دولة الاحتلال أو لراحة المؤسسة الديمقراطية، بل يجسّد تحوّلًا جيليًا يرى في دولة الاحتلال فاعلًا متمردًا لا ضحية، وفي الفلسطينيين الطرف المقهور في معادلة القوة، ورغم تعبئة المليارديرات ولوبيات الملاك، اتسع نطاق قاعدته الشعبية بدل أن يتقلص.
من اغتيال إلى اغتيال معنوي
كان مالكوم إكس يجمع بين الإسلام والرؤية التحررية العالمية المناهضة للاستعمار، ما أرعب المؤسسة الأمريكية لم يكن فقط حدة خطابه، بل وضوح بوصلته الأخلاقية، كما قال: “لا يمكنك أن تمتلك رأسمالية من دون عنصرية.”
اغتياله عام 1965 لم يكن مجرد إسكات رجل، بل محاولة لقتل حركة تستهدف جذور الهيمنة البيضاء والإمبريالية والاستغلال الرأسمالي، واليوم، يواجه ممداني شكلاً آخر من الاغتيال، ألا وهو الاغتيال المعنوي، فحملات التشويه لا تهدأ، تصفه بالتطرف، وتحاول تحويل تضامنه مع فلسطين إلى تهمة، وإيمانه إلى سلاح يُستخدم ضده.
هكذا يتصرّف النظام حين يُهدَّد: إن لم يستطع تدجين الحركة، سيسعى لتحطيمها، وإن لم يستطع إسكات الرسالة، سيسعى لتشويه الرسول، فالقوى التي خافت من رؤية مالكوم إكس نفسها، تخاف اليوم من تجسّدها الحديث في ممداني: مسلم بفخر، أمميّ بشجاعة، مؤمن بالعدالة، لا يساوم في وجه الإمبراطورية.
انقسام متّسع
تمتد رهانات هذا الصراع إلى ما هو أبعد من حدود نيويورك، ففي المدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي خارج دولة الاحتلال، تحوّلت الانتخابات إلى ساحة اختبار عميقة حول معنى السلطة والمبدأ.
أظهر استطلاع حديث أن 43% من الناخبين اليهود في نيويورك سيصوتون لممداني، بينهم 67% من الفئة العمرية 18-44 عامًا — قطيعة جيلية ما كانت لتُتخيّل قبل سنوات قليلة.
أما وطنيًا، فإن الفجوة تتسع أكثر، فغالبية اليهود الأمريكيين يرون أن دولة الاحتلال ارتكبت جرائم حرب في غزة، ويبدون ميلاً متزايدًا لرؤية الصراع من منظور الحقوق لا العصبية.
أما الإعلام العبري، فيتابع بقلق، فكما ورد في تحليل إسرائيلي: “قد تحدد هذه الانتخابات ما إذا كان دعم دولة الاحتلال أصبح عبئًا أم ميزة في الولايات المتحدة، وما إذا كان فوز ممداني سيشكّل الاتجاه المستقبلي لقيادات الحزب الديمقراطي.”
حتى غياب جبهة يهودية موحّدة ضد ممداني اعتُبر تحولًا لافتًا عن الأعراف القديمة.
وعندما سُئل مرارًا إن كان يؤيد “حق دولة الاحتلال في الوجود كدولة يهودية”، أجاب ممداني بثبات: “لا أستطيع أن أدعم أي دولة تُقيم هرَمية في المواطنة على أساس الدين أو أي عامل آخر، أؤمن بأن المساواة يجب أن تكون مبدأً دستوريًا في كل بلد في العالم.”
نبض الحرية
كان مالكوم إكس من أوائل القادة السود الذين دافعوا علنًا عن فلسطين، في عام 1964 زار غزة، والتقى قادتها، وكتب: “الاحتلال القائم في فلسطين العربية لا يستند إلى منطق أو أساس قانوني في التاريخ.”
أما ممداني، فقال مؤخرًا: “كل يوم في غزة أصبح مكانًا نفدت فيه اللغة التي يمكن التعبير بها عن الحزن.”
فحين يتردّد الآخرون، يسمّي هو الأشياء بأسمائها، وحين يختبئ الساسة خلف العبارات المريحة، يقف هو بثبات أخلاقي لا يعرف المساومة، وفي ذلك، يسير على خطى مالكوم إكس نفسه، فهما رجلان يجري فيهما نَفَس واحد: نبض التحرّر العنيد
إفريقيا.. الجذر والرؤية
بالنسبة إلى كلٍّ من مالكوم إكس وممداني، لم تكن إفريقيا مجرّد أصل، بل رؤية للعالم، ففكر مالكوم الإنساني تشكّل في ظلّ وعيه الإفريقي وتجاربه في غانا ومصر ونيجيريا، حيث أدرك أن الاستعمار منظومة عالمية مترابطة.
أما ممداني، فقد ورث المنظور ذاته من والده محمود ممداني، المفكر البارز في دراسات الاستعمار وما بعده، ومن سيرة عائلته التي تجسّد ما كتبه والده في كتاب “من مواطن إلى لاجئ”، حيث الهجرة والإمبراطورية والانتماء ليست مجرد نظريات بل تجارب حيّة.
من كان يتوقّع أنه بعد قرن من ميلاد مالكوم إكس وستة عقود على اغتياله، ستكون نيويورك على أعتاب انتخاب أول رئيس بلدية مسلم في تاريخها؟
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







