ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لا يجد الفلسطينيون في قطاع غزة المحاصر سبيلاً للتواصل مع العالم الخارجي سوى بوابة واحدة لا تسيطر عليها إسرائيل بشكل مباشر، وهي معبر رفح الحدودي مع مصر.
يمثل المعبر “شريان الحياة” للفلسطينيين، لكن القاهرة أحكمت السيطرة عليه لسنوات فقلصت المدة التي يظل فيها مفتوحًا إلى ما دون 32 يومًا خلال بعض الأعوام.
وتعد هذه القيود جزءاً من الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ عام 2007، الأمر الذي حول القطاع الفلسطيني إلى ما يسميه البعض “سجنًا مفتوحاً”.
ومنذ أن شنت إسرائيل عدوانها الوحشي على غزة الشهر الماضي، أخفقت مصر في تسهيل دخول المساعدات الضرورية لاستمرار حياة أكثر من 2.2 مليون فلسطيني متذرعة بالقيود الإسرائيلية.
وأخيراً دخلت قافلة الإسعافات الأولية، المكونة من 20 شاحنة، في 21 تشرين الأول / أكتوبر، بعد 13 يوماً من بدء العدوان، وقبل ذلك، قالت مصر إن المعبر مفتوح رسميا لكنه غير صالح للعمل بسبب القصف الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير أجزاء من المعبر والطرق المحيطة به على جانبي الحدود.
لا تمثل كمية المساعدات اليومية المسموح بدخولها إلى غزة، والتي تقدر بنحو 31 شاحنة يوميا قبل الاتفاق على هدنة مدتها أربعة أيام الأسبوع الماضي، سوى “قطرة في محيط” مقارنة بمتوسط 500 شاحنة مساعدات إنسانية يومية كانت تصل إلى غزة، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
وبموجب اتفاق الهدنة المؤقت بين حماس وإسرائيل الذي تم التوصل إليه يوم الخميس، فقد جرى السماح بإدخال نحو 200 شاحنة يومياً منذ ذلك الحين.
ويستعرض هذا التقرير السياق التاريخي والقانوني للقيود التي فرضتها كل من مصر وإسرائيل على معبر رفح، أسهمت في الحصار على قطاع غزة على مر السنين.
“سياسة الحصار”
أعلنت إسرائيل فرض “حصار كامل” على غزة في 9 تشرين الأول/أكتوبر، ومنعت دخول الوقود والغذاء والدواء وغيرها من السلع الأساسية لسكان غزة المحاصرين.
وجرى إغلاق كل من معبر بيت حانون (إيرز) الذي تسيطر عليه إسرائيل، والمستخدم لحركة المشاة، ومعبر كرم أبو سالم الذي يستخدم للبضائع، في خطوة أدانها مسؤولون وخبراء في الأمم المتحدة على نطاق واسع باعتبارها شكلاً من أشكال “العقاب الجماعي”.
وتزامن الحصار مع حملة قصف عنيفة واجتياح بري أدى إلى ارتقاء قرابة 15 ألف فلسطيني خلال 50 يومًا، من بينهم ما لا يقل عن 6150 طفلًا، فيما لا يزال آلاف آخرون في عداد المفقودين تحت الأنقاض.
بدأت الهجمات في 7 تشرين الأول / أكتوبر في أعقاب الهجوم الذي قادته حركة حماس الفلسطينية على جنوب إسرائيل والذي أسفر عن مقتل حوالي 1200 إسرائيلياً.
خلال ذلك، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية معبر رفح، وفرضت إسرائيل شروطاً مشددة على مصر فيما يتعلق بدخول القوافل الإنسانية.
ويتعين على شاحنات المساعدات المقرر دخولها إلى غزة عبر رفح أن تقطع أولاً مسافة تزيد على 100 كيلومتر إلى معبر نيتسانا بين مصر وإسرائيل لإجراء فحص أمني، قبل أن تعود إلى رفح ليتم فحصها مجدداً قبل دخول غزة.
ووصفت سيندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، القيود وشروط التفتيش التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية بأنها “جنونية”، كما انتقدت وزارة الخارجية المصرية هذه الإجراءات قائلة إنها تؤخر بشكل كبير تسليم المساعدات الحيوية.
لكن وحتى قبل اندلاع الصراع الحالي، كانت مصر تغلق معبر رفح بانتظام، خاصة منذ الحصار الإسرائيلي الذي فرض عام 2007.
وتظهر بيانات الأمم المتحدة أن أسوأ فترات الإغلاق كانت بين عامي 2015 و2017، عندما كان المعبر مفتوحا بمعدل ثلاثة أيام فقط شهريا، وتم فتحه في الغالب في السنوات الخمس السابقة لذلك، في حين بلغ متوسط الإغلاق مرةً واحدةً كل يومين تقريبًا منذ عام 2018.
وعادة ما يلقى إغلاق إسرائيل ومصر للمعبر إدانة المنظمات الحقوقية، حيث قال عمر شاكر، مدير مكتب إسرائيل وفلسطين في هيومن رايتس ووتش: “لقد حولت إسرائيل بمساعدة مصر غزة إلى سجن مفتوح”.
وقالت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم إن مصر “شريك في سياسة الحصار الإسرائيلية”.
وتصف كلتا المنظمتين الحقوقيتين الحصار، بما في ذلك إغلاق معبر رفح، بأنه يرقى إلى مستوى جريمة الفصل العنصري ضد الإنسانية.
السياق التاريخي
ويعود تاريخ إنشاء معبر رفح واعتماد إطاره القانوني إلى أكثر من 40 عامًا.
يقع المعبر على حدود جنوب غزة مع مصر، وأصبح لأول مرة حدودًا دولية بعد انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء المصرية عام 1982.
وبموجب معاهدة السلام الموقعة بين إسرائيل ومصر عام 1979، أعادت إسرائيل سيناء إلى السيطرة المصرية لكنها أبقت على احتلالها لغزة.
“لا يمكنهم الذهاب إلى مصر، ولا يمكنهم العودة إلى شمال قطاع غزة، غزة مدمرة بالكامل تقريبًا وغير صالحة للسكن” – لورنزو نافوني، محاضر
ثم تم إنشاء حدود جديدة بين غزة ومصر، وجرى تقسيم مدينة رفح إلى قسمين، مصري وفلسطيني، حيث دخل هذا الانقسام حيز التنفيذ بعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء عام 1982.
كان الجانب الفلسطيني من المعبر خاضعاً في ذلك الوقت لسيطرة سلطة المطارات الإسرائيلية، فيما كان الجيش المصري يسيطر على الجانب المصري منه.
وبموجب معاهدة 1979 تم إنشاء طريق فيلادلفيا، المعروف باسم ممر فيلادلفيا (محور صلاح الدين)، وهو منطقة عازلة بطول 14 كيلومترًا وبعرض 100 متر على طول الحدود بأكملها بين غزة ومصر، والتي تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى معبر كرم أبو سالم الحدودي مع إسرائيل، وقد منحت المعاهدة إسرائيل السيطرة على الطريق.
مهدت اتفاقيات أوسلو الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عامي 1993 و1995 الطريق لإنشاء السلطة الفلسطينية، والتي مُنحت بناء على ذلك حكمًا ذاتيًا محدودًا لقطاع غزة والضفة الغربية.
وفي ذات الوقت، أسست اتفاقية غزة وأريحا الموقعة عام 1994 نظامًا جديدًا للسيطرة المشتركة على معبر رفح، احتفظت إسرائيل بموجبه بمعظم السيطرة على وصول الأشخاص، وتقاسمت مع السلطة الفلسطينية السيطرة الجزئية على الأمن وعمليات الفحص والتحقق.
لكن، وفي أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتحديداً في كانون الثاني/يناير 2001، سيطرت إسرائيل بشكل كامل على المعبر، ثم دمرت القوات الإسرائيلية في كانون الأول / ديسمبر من العام نفسه مطار ياسر عرفات الدولي في غزة، وهو المطار الوحيد في الأراضي الفلسطينية، والذي أنشئ قبل ثلاث سنوات فقط بموجب اتفاقيات أوسلو.
في الأول من أيلول / سبتمبر 2005، وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية فيلادلفي لنشر قوة مؤلفة من 750 عنصراً من حرس الحدود على طول الشريط في منطقة رفح.
وبموجب الاتفاقية، لن يتم نشر القوة المصرية لدواع عسكرية ولن يغير نشرها من وضع الطريق كمنطقة عازلة منزوعة السلاح، لكن الغرض من نشرها يتمثل في “مكافحة الإرهاب والتسلل عبر الحدود”.
وفي وقت لاحق من الشهر نفسه، نفذت إسرائيل ما أسمته “خطة فك الارتباط” عن غزة، وسحبت قواتها ومستوطنيها من الأراضي الفلسطينية، بعدما اعتبرت استمرار وجودها هناك بمثابة عبء أمني، كما أغلقت معبر رفح لمدة شهرين.
وفي 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2005، وقعت إسرائيل والسلطة الفلسطينية على اتفاقية التنقل والعبور (AMA) للسيطرة المشتركة على المعبر، والتي منحت إسرائيل السلطة في إغلاق الحدود وتقييد وصول الأفراد.
وقصر الاتفاق استخدام المعبر على حاملي بطاقات الهوية الفلسطينية وفئات أخرى من الأجانب، بمن فيهم “الدبلوماسيون والمستثمرون الأجانب والممثلون الأجانب للمنظمات الدولية المعترف بها والحالات الإنسانية” بناءً على إخطار مسبق لإسرائيل والسلطة الفلسطينية يتم إرساله إلى إسرائيل، وفقًا للمبادئ المرتبطة بالاتفاق، قبل 48 ساعة من السفر المخطط له.
ومنحت اتفاقية AMA المراقبين من بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية في رفح (EUBAM Rafah) الإشراف على العمليات الحدودية.
وأعيد فتح المعبر في 25 تشرين الثاني /نوفمبر 2005، عندما سلمت إسرائيل السيطرة عليه إلى السلطة الفلسطينية، مع تقييد حركة الفلسطينيين الذين لم يُسمح لهم باستخدامه إلا تسع ساعات ونصف الساعة يوميًا، وفقًا لاتفاقية العبور.
وإلى أن تم فرض الحصار عام 2007، ظلت إسرائيل تسيطر على ستة من أصل سبعة معابر في غزة، بالإضافة إلى سيطرتها الحصرية على المجال الجوي والبحري للقطاع، إلى جانب التحكم في الوصول إلى المرافق بما في ذلك المياه والكهرباء والاتصالات.
وبعد شهرين فقط من تسليم السلطة الفلسطينية السيطرة على المعبر، فازت حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وأطاحت بمنافستها فتح من السلطة.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، أدت عملية اقتحام نفذتها حماس لمعبر كرم أبو سالم إلى مقتل جنديين إسرائيليين وأسر جندي آخر هو جلعاد شاليط.
وردا على ذلك، قصفت إسرائيل غزة وأغلقت معبر رفح ومنعت موظفي بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية في رفح من الوصول إليه.
وبحلول حزيران / يونيو 2007، تحول التوتر السياسي الفلسطيني الداخلي إلى نزاع دموي، حيث تمكنت حماس من السيطرة على القطاع وانتزاع حكمه من فتح وأصبحت الحاكم الفعلي هناك.
وفي وقت لاحق، علقت إسرائيل اتفاقية الهدنة ووضع معبر رفح تحت السيطرة المشتركة لحماس ومصر.
“عشوائي وغير متوقع”
وعقب ذلك، فرضت إسرائيل حصاراً برياً وبحرياً وجوياً على غزة، مما أدى إلى تقييد حركة الأشخاص والبضائع بشدة.
وشمل الحصار إغلاق كافة معابر غزة باستثناء معبر رفح وبيت حانون وكرم أبو سالم، حيث تم إغلاق معبر رفح معظم فترات عامي 2007 و2008، مما أثر بشدة على الوضع الإنساني في القطاع.
وقال لورينزو نافوني، المحاضر في جامعة ستراسبورج والذي كان مقيمًا في شمال سيناء لإجراء أبحاث حول معبر رفح بين عامي 2008 و2011، إن فتح المعبر كان عملية “عشوائية وغير مجدولة”.
وأضاف: “كان يتوجب على الفلسطينيين الذين حضروا لزيارة أقاربهم من الخارج الانتظار لفترات طويلة، وأحياناً أشهر، حتى يتمكنوا من الوصول إليهم”.
وتجلت الأزمة الإنسانية عندما دمر الفلسطينيون جزءا من الجدار على طول حدود رفح في كانون الثاني/يناير 2008، مما سمح لنحو نصف سكان غزة بالعبور إلى مصر سعيا للحصول على الغذاء والإمدادات، حيث أمر الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك قواته بعدم مهاجمة الفلسطينيين.
وخلال السنوات التالية، تم فتح المعابر أمام الفلسطينيين، لا سيما في أعقاب الثورة الشعبية المصرية عام 2011 التي أجبرت الرئيس مبارك على التنحي، وبلغت ذروتها بانتخاب الرئيس محمد مرسي عام 2012، الذي تعهد برنامجه الانتخابي بتخفيف الحصار على غزة.
تمت الإطاحة بمرسي بعد عام في انقلاب قام به وزير دفاعه عبد الفتاح السيسي، الذي تم إغلاق معبر رفح تحت إدارته مرة أخرى.
“كان على فلسطيني الشتات الذين يأتون لزيارة أقاربهم الانتظار لفترات طويلة وأحيانًا أشهر، حتى يتمكنوا من الوصول” – لورنزو نافوني، محاضر
وعلى مدار السنوات العشر الماضية، منذ انقلاب السيسي عام 2013، تم حظر دخول وسائل الإعلام المستقلة والباحثين ونشطاء المجتمع المدني إلى شمال سيناء، حيث فرضت الحكومة تعتيمًا على المنطقة خلال حملتها ضد التمرد المرتبط بتنظيم داعش.
وقال نافوني إن حماس ومصر تسيطران حاليًا على الحدود من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية تتمتع إسرائيل بسلطة كبيرة على من يُسمح له بعبور الحدود.
وفي الوقت نفسه، عارضت حكومة السيسي الخطط الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من غزة قسراً إلى سيناء المصرية، محذرة من أن ذلك سيخلق نكبة ثانية، تكراراً للتطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون عام 1948 أثناء تأسيس إسرائيل، وبالتالي فإن التدفق الجماعي للفلسطينيين إلى سيناء لا يزال غير واقعي.
وقال نافوني إنه في مواجهة القصف الإسرائيلي المتواصل لشمال غزة وأجزاء كبيرة من جنوب غزة، فضلا عن التنسيق المصري مع إسرائيل للحد من الحركة عبر الحدود، فإن الشعب الفلسطيني ليس لديه سوى خيارات قليلة للتنقل.
وقال: “لا يمكنهم الذهاب إلى مصر، ولا يمكنهم العودة إلى شمال قطاع غزة”، وأضاف: “حتى لو انتهت الحرب اليوم، فكيف يمكنهم العودة؟ غزة مدمرة بالكامل تقريباً وغير صالحة للسكن”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)