موقف زعيم حزب العمال البريطاني من الحرب على غزة يسقط القناع عن وجه الديمقراطية البريطانية!

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لو كانت الديمقراطية متوقفة على وجود خيارات سياسية موضوعية متعددة، لم يكن ليبقى إلا عدد قليل من السياسيين الذين كان يمكن أن يفعلوا أكثر مما فعله كير ستارمر لتدمير الديمقراطية البريطانية.

لقد أمضى ستارمر معظم سنواته الثلاث في زعامة حزب العمال بتبني مواقف حزب المحافظين الحاكم الذي يزداد يمينية ووحشية، ففي كل القضايا المهمة اليوم، أصبح حزب العمال بزعامة ستارمر انعكاساً شاحباً لنظيره في حزب المحافظين، وقد برز ما يمكن تسميته  بموت الخلاف السياسي البريطاني مؤخراً بشكل فج من خلال موقف الحزبين البريطانيين تجاه حرب إسرائيل على غزة.

رفض ستارمر تقديم دعم من حزب العمال، بل قام بالاقتراب من موقف واشنطن، وغض الطرف عن الإبادة الجماعية في غزة

حرب قتل فيها أكثر من 10 آلاف فلسطيني حتى الآن، 40% منهم من الأطفال، أما من بقوا على قيد الحياة، فهم لا يواجهون القنابل فحسب، بل يتضورون جوعًا وعطشاً، وتفتقر المستشفيات إلى الكهرباء والدواء، مما يعني أن عشرات الآلاف من الجرحى لا يستطيعون الحصول على الرعاية المناسبة.

في وقت سابق، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، الفلسطينيين في غزة بأنهم “حيوانات بشرية”، فيما وصفهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنهم “عماليق”، من يعتبرونهم الأعداء الدينيين لبني إسرائيل في التاريخ، كما اقترح أحد وزراء الحكومة الإسرائيلية إسقاط قنبلة نووية على غزة، واعتبار أي شخص يلوح بالعلم الفلسطيني “لا يستحق العيش على وجه الأرض”!

لا مكان للفرار

من المفترض أن يكون موقف الحكومة من الحرب على غزة فرصة ذهبية سهلة وقضية يمكن لحزب العمال أن يستغلها لإبراز خلافاته مع حكومة محافظة قاسية تتحيز لإسرائيل، خاصة أن ستارمر جاء جاء من خلفية محاماة في مجال حقوق الإنسان، لكن الواقع جاء عكس ذلك.

 وفي الوقت الذي يشعر فيه غالبية الشعب البريطاني بالغضب تجاه ما يحدث في غزة، حيث لا يوجد مكان يمكن للمدنيين أن يهربوا إليه من القصف، شهدت المملكة المتحدة أكبر مظاهرات سياسية منذ تلك التي اندلعت ضد حرب العراق قبل 20 عاماً، حتى وسائل الإعلام الرسمية أخذت بتغيير لغتها المنحازة بشدة بعد سيل صور الضحايا والأطفال والمسحوقين القادمة من غزة.

في ظل هذه الظروف، كان ينبغي أن تكون الدعوة إلى وقف إطلاق النار وحماية الأطفال أمراً مفروغاً منه وليس بحاجة إلى تفكير سياسي، ومع ذلك، فقد رفض ستارمر تقديم دعم من حزب العمال، بل قام بالاقتراب من موقف واشنطن، وغض الطرف عن الإبادة الجماعية في غزة.

أهم سبب يجعل موقف ستارمر من الحرب على غزة بغيضًا، هو أنه يتجاهل قوانين الحرب والحقائق الواضحة على الأرض، فبدلاً من دعم دعوة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، أيد ستارمر “الحصار الكامل” الذي تفرضه إسرائيل على غزة، والعقاب الجماعي للسكان رغم أنها سياسة تنتهك  القانون الدولي بوضوح

ويعد موقف ستارمر هذا بمثابة تمزيق لحزب العمال، حيث استقال بالفعل العشرات من أعضاء المجالس المحلية احتجاجًا، مما أدى إلى فقدان الحزب السيطرة على مجلسين أحدهما في مدينة أكسفورد،  كما استقال رئيس مجلس بيرنلي و 10 من زملائه من أعضاء المجلس من عضوية الحزب، وكتب مئات آخرون من أعضاء المجلس رسالة مفتوحة يطالبون فيها ستارمر بدعم وقف إطلاق النار، وانشق ما لا يقل عن 16 عضواً من قيادات الصف الأول في الحزب أيضاً، من بينهم عمدة لندن وعمدة مانشستر، صادق خان وآندي بورنهام.

موقف ستارمر هذا جاء نتيجة لرغبته في معاقبة أحد نواب حزبه، آندي ماكدونالد، بعد أن دعا إلى “الحرية السلمية للإسرائيليين والفلسطينيين بين النهر والبحر”، وبدلاً من السعي إلى تضميد جراح الحزب، أصر ستارمر على أنه “ليس من الحكمة أن يقف السياسيون على منصات أو يجلسوا في استوديوهات التلفزيون يتحدثون عن أفعال ويصنفونها بين قانونية وغير قانونية مستخدمين مصطلح التي بموجب القانون الدولي”.

قشرة ظاهرة على السطح

ربما أهم سبب يجعل موقف ستارمر من الحرب على غزة بغيضًا، هو أنه يتجاهل قوانين الحرب والحقائق الواضحة على الأرض، فبدلاً من دعم دعوة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، أيد ستارمر “الحصار الكامل” الذي تفرضه إسرائيل على غزة، والعقاب الجماعي للسكان رغم أنها سياسة تنتهك  القانون الدولي بوضوح.

وصف زعيم حزب العمل صراحة القصف على غزة بأنه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، معتبراً أن ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين هو ثمن إجباري لإطلاق سراح أكثر من 200 رهينة إسرائيلية تم احتجازهم في غزة خلال هجوم حماس في 7 أكتوبر، ولكن المفارقة، أنه بموقفه هذا سكون قد وافق على تحويل سكان غزة جميعاً إلى رهائن أيضاً.

في الحقيقة، القصف الإسرائيلي هو أكبر تهديد لحياة أولئك الرهائن، فرغم تجنب كل من إسرائيل وستارمر ذكر ذلك، إلا أن الحقيقة المنطقية هي أن سلامة الرهائن لا شك سوف تكون أفضل من خلال التفاوض على إطلاق سراحهم، لكن ستارمر ظل مصراً على تتبع نهج إدارة بايدن في الحث فقط على ما يسمى بـ “الهدنات الإنسانية”، والذي يعني بشكل ما ضوءاً أخضر من واشنطن لتواصل إسرائيل قصف غزة دون رحمة!

يعلم ستارمر أن “الهدنة الإنسانية” ما هي إلا قشرة ظاهرة على السطح تهدف إلى التعتيم على انتهاكات إسرائيل الصارخة لقوانين الحرب، فهو يتشبث برواية إسرائيل التي تبرر عنفها الوحشي على غزة بأنه ضروري للقضاء على حماس، ولكن كما كانت الحال مع حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، فإن الحرب ضد حماس محكوم عليها بالفشل.

إن المقاومة المسلحة، سواء سميت إرهاباً أم لا، هي في جوهرها رد فعل متوقع من قبل الضعفاء تجاه العنف الممنهج والانتهاكات التي يرتكبها الأقوياء، فهي راية نضال يرفعها المظلوم في وجه ظالمه.

الحزب في الحرب

يعلم ستارمر كل هذا، فلماذا، إذن، يمد حزب العمال يده بحرارة لإسرائيل و يعمق الانقسامات داخل حزب يخوض بالفعل حرباً مع نفسه؟! أهم الأسباب الواضحة هو أن ستارمر شهد ما حدث لسلفه جيريمي كوربين، الاشتراكي المعتدل، الذي رفض الانصياع للخط الثابت في دعم بريطانيا لإسرائيل.

لقد ناضل كوربين من أجل سياسة خارجية أخلاقية حقيقية، وكان يرغب في إنهاء مبيعات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، والضغط على إسرائيل لإجبارها على إنهاء احتلالها وحصارها لغزة الذي دام 16 عاماً، واليوم يعد كوربين واحدًا من السياسيين البريطانيين القلائل الذين يدعون بصوت عالٍ إلى وقف إطلاق النار.

أثار موقف كوربين حملة شرسة لتشويه سمعة حزب العمال باعتباره معقلاً لمعاداة السامية، ولكن مما لا شك فيه هو أن ستارمر يشعر بالقلق بنفس القدر إزاء التهديدات التي وجهتها المؤسسة البريطانية إلى سلفه.

الحقيقة هي أن سياسته لا تلقي بالاً لا للأولويات الانتخابية ولا الأخلاقية ولا بأحكام القانون الدولي التي تنتهكها إسرائيل صراحةً يوماً بعد يوم، فهو يتبع نفس المسار النتن الذي سلكه أحد أسلافه، توني بلير، حين كذب لجر بلاده إلى حرب كارثية وغير قانونية ضد العراق عام 2003 بناء على أوامر واشنطن

بمجرد انتخاب كوربين زعيما لحزب العمال عام 2015، صرح جنرال بريطاني لم يذكر اسمه إلى صحيفة التايمز أنه سيتم استخدام أي وسيلة كانت لمنعه من الوصول إلى رقم 10، حتى هدد الجنرال بـ “التمرد” العسكري.

كما روجت وسائل الإعلام آنذاك، بمساعدة المخابرات البريطانية على الأرجح، معلومات مضللة مفادها أن كوربين كان له ماض كجاسوس سوفياتي، وكتبت صحيفة التايمز لاحقاً أن “تصريحات كوربين بشأن الإرهاب كانت مثيرة للقلق بالنسبة للأجهزة الأمنية”، كما تم إنشاء حملة همس لتنشر مزاعم أن كوربين كبير في السن و”ضعيف” بدرجة لا تسمح له بالعمل كرئيس للوزراء.

كان هذا التآمر ضد كوربين مشتركاً مع الولايات المتحدة، فقد كشفت محادثة مسربة مع زعماء يهود أمريكيين عن وعد مايك بومبيو، رئيس وكالة المخابرات المركزية آنذاك، بتوريط كوربين لضمان عدم انتخابه رئيسًا للوزراء، كما نقل عن بومبيو قوله “سنبذل قصارى جهدنا لمنع كوربين من أن يصبح رئيساً للوزراء”.

ماضٍ سري

كانت مطالب كوربين بتبني سياسة خارجية أخلاقية تخالف مطالب الولايات المتحدة بـ “الهيمنة العالمية الكاملة”، وهو أمر لا شك أن ستارمر قد لاحظه، كما أنه لم يغفل عن ملاحظة ما فعلته الولايات المتحدة مع ، جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس، حيث تم احتجازه في أحد سجون لندن شديدة الحراسة لسنوات، وسعت الإدارات المتعاقبة لمحاكمته بتهمة فضح جرائم الحرب الأمريكية والبريطانية في العراق وأفغانستان.

قبل أن يتحول إلى سياسي، كان ستارمر مديراً للنيابة العامة ، يعمل على مطاردة أبرز سجين سياسي في بريطانيا، وفقًا لتحقيقات موقع Declassified، حتى دمرت النيابة العامة في عهده سجلات 4 رحلات قام بها إلى واشنطن، عندما كانت قضية أسانج في أوجها.

ومن هذه الحادثة، فهم ستارمر أن المسؤولين البريطانيين قد يعطون الأولوية لأجندة الأمن القومي لواشنطن في بعض الأحيان، وهي رسالة لو لم يفهمها وقتها لفهمها لاحقاً خلال سنوات قضاها في اللجنة الثلاثية السرية، وهي مجموعة دولية تتمتع بعلاقات قوية مع أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية، وذلك أثناء خدمته في حكومة الظل التابعة لكوربين دون علم الأخير على ما يبدو.

على محمل الجد

يمكن تفسير إصرار ستارمر على تجاهل الدعم الشعبي لوقف إطلاق النار، من خلال ما صرح به وزير  مقرب من ستارمر في حكومة الظل مؤخراً لصحيفة Observer، بأنه كان من السهل على زملائه تبني مواقف “غير واضحة” فيما يتعلق بغزة، وذكرت الصحيفة أن ستارمر “إذا ما حذا حذوه، فإنه سوف يظهر بمظهر غير جدي بالنسبة لمرشح لمنصب رئيس الوزراء، غير جدي لمن؟! فمن الواضح أن جمهور ستارمر ليس الناخبين البريطانيين!!

يكشف سلوك ستارمر عمق الخداع الواقع في قلب السياسة البريطانية،  فالحقيقة هي أن موقف المملكة المتحدة مرهون بشكل كامل للموقف الأمريكي، تماماً كحال الساسة الذين يسعون إلى مناصب عليا بأي ثمن!

الحقيقة هي أن سياسته لا تلقي بالاً لا للأولويات الانتخابية ولا الأخلاقية ولا بأحكام القانون الدولي التي تنتهكها إسرائيل صراحةً يوماً بعد يوم، فهو يتبع نفس المسار النتن الذي سلكه أحد أسلافه، توني بلير، حين كذب لجر بلاده إلى حرب كارثية وغير قانونية ضد العراق عام 2003 بناء على أوامر واشنطن.

ومثل بلير، فإن ما يراه ستارمر مصلحته الحقيقية الوحيدة هو في أن يتم أخذه على محمل الجد من قِبَل المؤسسات الأميركية والبريطانية، ولو كان ذلك على حساب الأطفال الفلسطينيين القتلى.

هذا ما عبر عنه وزير الدفاع السابق لحزب المحافظين، مايكل بورتيلو، حين أشاد بزعيم حزب العمال لإثباته “همته” في رفض وقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن موقف ستارمر سيطمئن واشنطن التي تريد “معرفة ما إذا كانت حكومة حزب العمال ستنحرف عن التحالف مع الولايات المتحدة”.

الحقيقة أن ستارمر سيقف بالضبط عند الحد الذي تسمح له به واشنطن، ويشمل ذلك الدعوة إلى “هدنة إنسانية” لا معنى لها، وتكرار سردية الحاجة إلى حل الدولتين الذي قتلته إسرائيل منذ سنوات، والذي لا يمكن إحياؤه، وفي المقابل، لن ينتقد ستارمر إلا القضايا التي لا تؤثر بشكل حقيقي على مواصلة قصف غزة، كما رفض الضغط ضد سياسات الإبادة الجماعية ضد غزة.

يكشف سلوك ستارمر عمق الخداع الواقع في قلب السياسة البريطانية،  فالحقيقة هي أن موقف المملكة المتحدة مرهون بشكل كامل للموقف الأمريكي، تماماً كحال الساسة الذين يسعون إلى مناصب عليا بأي ثمن!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة