بقلم ريان فريسشي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
منذ الربيع العربي، تبنت دول الخليج أجندات وروايات سياسية نسجها الغرب، فالإمارات رسخت نفسها بقوة كوجه استبدادي ينفذ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها التطبيع مع إسرائيل، أما السعودية، بقيادة بن سلمان، فباتت تهرول نحو فرض المثل الليبرالية بشكل عدواني.
تبنت كل من الإمارات والسعودية رواية الغرب أيضاً باعتبار المعارضة السياسية القائمة على الدين شكلاً من أشكال “التطرف” يجب مراقبته وقمعه، فقامت السعودية باحتجاز أكثر من 300 سجين رأي تعرض بعضهم للتعذيب، فيما رفضت الإمارات إطلاق سراح ما لا يقل عن 41 سجيناً سياسياً ممن أنهوا محكوميتهم.
ولا تقتصر سياسات القمع على النطاق المحلي، حيث تهدف دول الخليج إلى التأثير على الأقليات المسلمة في أوروبا أيضاً، فقد عملت الإمارات، كجزء من استراتيجيتها الدبلوماسية، على تأجيج سياسات الإسلاموفوبيا في دول مثل فرنسا.
أما الدبلوماسية السياسية والدينية السعودية فهي تبدو أكثر طموحاً، ففي مؤتمر عقد في لندن في مارس 2023، صادقت رابطة العالم الإسلامي، التي تمولها الدولة ومقرها مكة، على ما عُرف ب”ميثاق مكة”، الذي تضمن تدريباً مثيراً للجدل للأئمة في أوروبا، كما انبثق عنه إنشاء هيئة للمجتمعات المسلمة الأوروبية هي “لجنة الفتوى والإرشاد الديني”.
يرى الباحث السعودي عاصم القريشي أن الميثاق يسعى إلى “جعل السلطة مركزية لنسخة تديرها الدولة من الدين”، كما أنه “يعمل على تطبيع الوضع القمعي للمسلمين في جميع أنحاء العالم”، فقبل مؤتمر لندن، عقدت الرابطة، التي تدعي أنها تمثل “الإسلام الحقيقي”، اجتماعات مع علماء متحالفين مع الدولة من عام 2019 من أجل الترويج للميثاق.
لا يتجاوز ميثاق مكة عن كونه أداة دبلوماسية يستخدمها نظام استبدادي لإضفاء شرعية على طغيانه
تدور الرسائل السياسية للميثاق حول المبادئ الأساسية التي روج لها صانعو السياسة الغربيين من قبل والداعمة لرواية معادية للإسلام، وهو أمر لا يثير الدهشة، فبدلاً من تسليط الضوء على دور الغرب في تأجيج الإسلاموفوبيا، يضع الميثاق اللوم على المسلمين أنفسهم، عبر الإشارة إلى أن “الإسلاموفوبيا ظاهرة ناتجة عن عدم القدرة على فهم الإسلام بشكل حقيقي، حيث يتطلب ذلك رؤية موضوعية تخلو من المفاهيم النمطية والتحيز، غالباً ما يقع فيها الذين يدعون أنهم مسلمون حقيقيون” على حد وصف الميثاق.
يدعي الميثاق أن الهدف هو “مواجهة خطر الجهل والسائد عن الإسلام الذي يدفع الناس لاعتباره ديناً لا يقبل التوافق، وبالتالي يشكل خطراً على فرنسا”
كما ورد في الميثاق رفض ما سمي أي “تدخل في الشؤون الداخلية للدول”، الأمر الذي يوفر غطاء دينياً لسياسات الدول الأوروبية المعادية للإسلام، مقابل ذلك، يتم منح شرعية سياسية للسعودية تتغاضى فيها أوروبا عن حملتها ضد حقوق الإنسان والمعارضة السياسية في المملكة، وبذلك لا يتجاوز ميثاق مكة عن كونه أداة دبلوماسية يستخدمها نظام استبدادي لإضفاء شرعية على طغيانه.
أما فرنسا فتلعب دوراً مهماً في هذا المخطط، حيث تمت دعوة اثنين من مروجي السياسات الفرنسية المسلمين في فرنسا، عميد المسجد الكبير في باريس شمس الدين حافظ، ورئيس مؤسسة الإسلام غالب بن الشيخ.
في خطابه، رحب حافظ بالميثاق وأثنى على علمانية الجمهورية الفرنسية، المفهوم الأشرس في تقييد حرية المسلمين في ممارسة شعائر دينهم أو المعارضة السياسية في فرنسا، كما أشار إلى أن هدف الميثاق هو “مواجهة خطر الجهل والسائد عن الإسلام الذي يدفع الناس لاعتباره ديناً لا يقبل التوافق، وبالتالي يشكل خطراً على فرنسا”.
تجاور مفهومي “عدم التوافق” و”الخطر” إلى المنطق السياسي الكامن وراء المواثيق الفرنسية والسعودية، بموجبها، تعد الممارسات الإسلامية التقليدية التي لا تتماشى مع الرؤية السياسية للدولة خطراً يستوجب التحييد والتهميش وصولاً إلى التجريم الذي يُمنح ختماً دينياً من قبل العلماء الموالين للدولة.
ما يبقى من الرسالة الإسلامية بعد عملية التجريد والتقييد السابقة يعطى اسم “الإسلام المستنير”، وهو تعبير استخدمه ماكرون عام 2020، أو “الإسلام المعتدل” كما استخدمه بن سلمان عام 2017، وبذلك لا يعدو ميثاق مكة عن كونه أداة دبلوماسية يستخدمها نظام استبدادي لإضفاء شرعية على طغيانه، رسالة تشوه جوهر الإسلام لتحقيق مآرب سياسية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)