لم يؤدِ استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر في دارفور، إلى دخول مصر في معركة أخرى في حرب السودان فحسب، بل أصبح الأمر يشكل اختراقاً محتملاً في دفاعاتها، جعل القاهرة تعيد التعامل مع حدودها الجنوبية كخط دفاع أول.
ويشكل سقوط عاصمة شمال دارفور نقطة تحول في الصراع، فقد لعبت مصر دائماً دوراً في هذه الحرب، حيث تتمتع القوات المسلحة السودانية، التي تقاتل قوات الدعم السريع منذ أبريل عام 2023، بعلاقة طويلة الأمد مع الجيش المصري، وقد ساعدت القاهرة الجيش السوداني طوال الحرب.
“إن هجوم قوات الدعم السريع المخطط له على أم درمان في الأشهر المقبلة يمكن أن يسرع من تدخل القاهرة لأن العاصمة كانت دائماً خطاً أحمر للمصريين” – خلود خير- محللة سودانية
وعلى الأرض، تمثل سيطرة قوات الدعم السريع على الجزء السوداني من منطقة المثلث الحدودي القاحلة التي تضم أجزاء من مصر وليبيا في يونيو الماضي، والتي أعقبتها أهوال الفاشر، نقطة تحول جعلت حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تعيد رسم خريطتها الأمنية لتجمع بين التنسيق العسكري والدبلوماسية لاحتواء التداعيات.
وفقاً لمصادر سودانيى لميدل إيست آي، تبحث القوات المسلحة السودانية وحلفاؤها من القوات المشتركة ، التي تفوقت عليها بالأسلحة والتكنولوجيا المتفوقة في الفاشر، والتي قدمتها الإمارات، حليفة مصر، في هذه الأثناء المزيد من المساعدة.
في حديثها لميدل إيست آي، أشارت المحللة السودانية ومديرة مركز كونفلوينس الاستشاري للأبحاث، خلود خير: “تتوقع القوات المسلحة السودانية أن تزودها مصر وتركيا بالأسلحة بعد سقوط الفاشر، ومصر على وجه الخصوص لها مصلحة في تأمين حدودها الجنوبية، وتشعر بالقلق إزاء انتشار قوات الدعم السريع تجاهها”.
من هذا المنطلق، فقد عززت مصر بهدوء مواقعها على طول الحدود مع السودان وليبيا، وبدلاً من انتظار وصول الخطر إلى أبوابه، باتت تعمل بشكل وثيق مع الجيش السوداني لصد ذلك الخطر المحتمل.
مصر تتحرك لمساعدة القوات المسلحة السودانية
وقد صرح مصدر كبير في المخابرات العسكرية المصرية لموقع ميدل إيست آي بأن “التعاون جارٍ بين الجيشين المصري والسوداني لتشكيل قوة قيادة مشتركة لردع قوات الدعم السريع وأي تسلل محتمل إلى مصر عبر الحدود مع السودان أو ليبيا”.
وقد تأكدت خطورة الوضع بالنسبة للقاهرة عندما قام رئيس أركان الجيش المصري، الفريق أحمد فتحي، بزيارتين خلال 24 ساعة، الاولى إلى السعودية ثم إلى بورتسودان، مقر الحكومة السودانية المدعومة من الجيش حالياً، حيث شارك فتحي في رئاسة لجنة التعاون العسكري المصرية السعودية في السعودية، والتي يعتقد أنها تفضل القوات المسلحة السودانية في حرب السودان، وفي السودان، قام بتنسيق الخطط العملياتية على طول الحدود المشتركة.
بحسب المصدر المصري نفسه، فقد مهدت الزيارة لإنشاء غرفة عمليات مشتركة بشمال كردفان وأنظمة رادار جديدة للإنذار المبكر، وفي نفس الوقت الذي كانت فيه قوات الدعم السريع تسيطر على الفاشر، كانت قد استولت أيضاً على مدينة بارا في شمال كردفان.
وتعد منطقة بارا غنية بالنفط، وتبعد حوالي 4 ساعات عن العاصمة الخرطوم ومدينتها التوأم أم درمان، ويعتقد أن قوات الدعم السريع، التي استولت على منطقة العاصمة في بداية الحرب لكنها خسرتها أمام القوات المسلحة السودانية في مارس من هذا العام، تخطط لشن هجوم على أم درمان.
تقول خير: “إن هجوم قوات الدعم السريع المخطط له على أم درمان في الأشهر المقبلة يمكن أن يسرع من تدخل القاهرة لأن العاصمة كانت دائماً خطاً أحمر للمصريين”.
أما المصدر في المخابرات العسكرية المصرية فقال: “سوف تمكن غرفة العمليات المشتركة في كردفان مصر من استعادة وجود الجيش السوداني في المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع مؤخراً، فاستعادة السيطرة على دارفور أمر حيوي للاستقرار الإقليمي وحماية حدود مصر”.
تحول القاهرة الاستراتيجي
على الأرض، حشدت مصر قواتها على طول حدودها السودانية والليبية وقامت بدوريات جوية مستمرة، وقد أوضح المصدر بأن “القوات الجوية المصرية تجنبت الاقتراب من المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في السودان، آخذة حذرها من أنظمة الدفاع الجوي المتنقلة التابعة لقوات الدعم السريع، حيث تقوم الدوريات المصرية بالاستطلاع داخل الأراضي المصرية فقط، مما يضمن المراقبة المستمرة دون انتهاك المجال الجوي السوداني”.
وقال مصدر مصري رسمي آخر لموقع ميدل إيست آي بأن “مصر زودت السودان بقيادة الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان بالتوجيه العملياتي والأسلحة، وتنسيق عمليات نشر القوات لمواجهة قوات الدعم السريع”، كما حذر المصدر من أن “الأخطاء أو التأخير في الرد على تحركات قوات الدعم السريع قد يهدد أمن الحدود المصرية”.
بالنسبة لمصر، لم يكن الاستيلاء على الفاشر مجرد خسارة للجيش السوداني، بل كان بمثابة تحذير حول مدى هشاشة الاستقرار الإقليمي، فقد كانت المدينة منذ فترة طويلة بمثابة حلقة وصل بين شرق وغرب دارفور، وقد أدى سقوطها إلى فصل المنطقة الغربية الشاسعة من السودان، والتي أصبحت الآن تحت سيطرة قوات الدعم السريع، عن بقية البلاد، الأمر الذي يثير مرة أخرى احتمال تقسيم السودان إلى قسمين.
لقد أدت سيطرة قوات الدعم السريع على الجزء السوداني من منطقة المثلث والفاشر أيضاً إلى منحها السيطرة على طرق التجارة والتهريب الحيوية التي تمتد نحو ليبيا وتشاد، حيث استفادت مصر من تهريب الذهب من السودان خلال الحرب، ولا تريد لقوة لا يمكن السيطرة عليها أن تكون مسؤولة عن هذه الطرق.
“الاستعدادات جارية لهجوم مستقبلي محتمل لاستعادة الفاشر والأراضي المحيطة بها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى منع أي دعم جوي أجنبي من الوصول إلى وحدات قوات الدعم السريع” – مصدر في المخابرات المصرية لميدل إيست آي
في حديثه لميدل إيست آي، أشار محلل سياسي مقيم في القاهرة، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة: “إن القوة المتنامية لقوات الدعم السريع تخلق فراغاً يمكن للجهات الفاعلة غير الحكومية استغلاله، فبالنسبة لمصر، لا يتعلق الأمر بالتضامن مع السودان فحسب، بل يتعلق بحماية حدودها الجنوبية أيضاً”.
الوجود الإماراتي في السودان
لقد أدى صعود قوات الدعم السريع والفظائع التي ترتكبها في الفاشر إلى لفت الانتباه بشكل أكبر إلى الدور الذي لعبته الإمارات في حرب السودان.
رغم نفي أبو ظبي، إلا أن التقارير المكثفة من موقع ميدل إيست آي باستخدام صور الأقمار الصناعية وبيانات تتبع الرحلات الجوية والسفن وأدلة الفيديو والأرقام التسلسلية للأسلحة ومصادر متعددة من جميع أنحاء المنطقة، تؤكد بأن الإمارات قد زودت قوات الدعم السريع بالأسلحة طوال الحرب.
تمكنت الإمارات، التي تربطها علاقة طويلة الأمد مع محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع المعروف باسم حميدتي، وباستخدام الطرق التي تشمل ميناء بوصاصو في منطقة بونتلاند في الصومال، والقواعد في جنوب شرق ليبيا تحت سيطرة الجنرال خليفة حفتر وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى والقواعد الجوية في أوغندا، من نقل الإمدادات إلى قاعدتين داخل السودان، نيالا في جنوب دارفور والمالحة، على بعد 200 كيلومتر من الفاشر.
تجدر الإشارة إلى أن قوات الدعم السريع كانت قد ساهمت بما لا يقل عن 40 ألف مقاتل في التحالف الإماراتي في اليمن قبل عقد من الزمن، حيث ساعدت روابط حميدتي المالية مع الدولة الخليجية، والتي تتمثل بشكل أساسي في الذهب والأراضي الزراعية، قوات الدعم من جمع ثروة تقدر بنحو 7 مليارات دولار.
أما الولايات المتحدة، فسبق أن اتهمت قوات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية في دارفور وفرضت عقوبات على قادة قوات الدعم السريع، فيما تعمل مصر، التي يعتمد اقتصادها المتعثر على الإمارات، على التوفيق بين الدبلوماسية وسياسة عسكرية متزايدة على حدودها!
الدعم التركي
في تطور مهم، بدأ الجيشان المصري والتركي التعاون بشكل مباشر فيما يتعلق بوضع السودان، الأمر الذي يمثل تقارباً نادراً بين خصمين إقليميين.
وفقاً لمصدر أمني مصري رفيع المستوى، يركز التنسيق بين البلدين على دعم القوات المسلحة السودانية لاحتواء المكاسب الإقليمية التي حققتها قوات الدعم السريع وتحقيق الاستقرار في دارفور.
أوضح المصدر المصري لموقع ميدل إيست آي: “الاستعدادات جارية لهجوم مستقبلي محتمل لاستعادة الفاشر والأراضي المحيطة بها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى منع أي دعم جوي أجنبي من الوصول إلى وحدات قوات الدعم السريع”.
وقد صرح مصدر تركي مطلع على الأمر لموقع ميدل إيست آي بأن تركيا تخطط لزيادة دعمها للجيش السوداني: “كنا نخطط بالفعل لإرسال المزيد من الأنظمة، لكن مذابح الفاشر لم تؤدِ إلا إلى تعزيز عزيمتنا”.
وكانت تركيا قد زودت، منذ العام الماضي، القوات المسلحة السودانية بطائرات عسكرية بدون طيار وصواريخ جو-أرض ومراكز قيادة، حيث أكد المصدر التركي بأن هذا الدعم سوف يستمر،كما ينشط مشغلو الطائرات بدون طيار الأتراك أيضاً داخل السودان.
من جهة أخرى، فقد أوضح المصدر التركي بأن أنقرة لا تستطيع تزويد القوات المسلحة السودانية بأنظمة دفاع جوي، لأن لديها كمية محدودة من هذه المعدات المنتجة محلياً.
تأكيداً لصحة مصادر مصرية وسودانية لموقع ميدل إيست آي، فقد أوضحت مصادر تركية بأن مصر كانت تدعم بهدوء الجيش السوداني طوال الحرب، حيث قال أحد هؤلاء المطلعين: “الآن، يشعر المصريون بالارتياح لكونهم أكثر ظهوراً، لأن قوات الدعم السريع عطلت المفاوضات الدبلوماسية في واشنطن”.
منذ أكثر من أسبوعين، تتفاوض الأطراف السودانية في واشنطن، حتى في ظل الإرهاب الذي تتعرض له الفاشر، ويضم فريق قوات الدعم السريع ألغوني داجالو، الخاضع للعقوبات الأمريكية ولكنه يقيم في فندق والدورف أستوريا، وألغوني هو شقيق قائد قوات الدعم السريع حميدتي.
تقول خير: “من شبه المؤكد الآن أن القوات المسلحة السودانية رفضت وقف إطلاق النار، وذلك سوف يكون محرجاً للقاهرة، بعد أن كلف ترامب السيسي فعلياً بتأمين موافقة القوات المسلحة السودانية على الخطة الأمريكية، حيث يتعين على القاهرة الآن الانسحاب من دورها المفضل في المنطقة كصانع للسلام، وربما تصبح أكثر رسوخاً في حرب السودان”.
ولمواجهة الانقسام بين دارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع وبقية مناطق السودان، تعمل مصر مع الجيش السوداني على إنشاء غرفة عمليات مشتركة أخرى في الأبيض، شمال كردفان، لتنسيق الجهود لوقف تقدم قوات الدعم السريع واستعادة المدن الرئيسية.
أوضح المصدر الأمني المصري الرفيع المستوى لميدل إيست آي بالقول: “سوف يسمح ذلك بوجود الجيش السوداني في المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع مؤخراً وتحقيق الاستقرار في المنطقة على نطاق أوسع”.







