كانت جاكلين المصري تطعم طفليها الصغيرين في ساحة مدرسة تحولت إلى ملجأ في بيت لاهيا في وقت سابق من هذا الشهر عندما حلقت مسيرات الاحتلال فوق رؤوسهم.
وعلى مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية، عاشت المصري في العديد من الملاجئ بعد قصف منزل عائلتها في بيت حانون في الأسابيع الأولى من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
كان زوجها محمد ووالده يسعيان لاستعادة الطعام والممتلكات من بقايا منزلهما عندما تعرض للقصف مرة أخرى، فاستشهد محمد وأصيب والده بجروح خطيرة.
وقالت المصري لموقع ميدل إيست آي: “كان ابني أمير يبلغ من العمر 25 يوماً فقط عندما استشهد والده، وكانت أخته ميرا تبلغ من العمر عامًا ونصف العام فقط، من الصعب أن أعتني بالطفلين بدون والدهما”.
لقد كانت المصري تعتني بطفليها في بيت لاهيا في الرابع من ديسمبر/كانون الأول عندما وصلت مسيرات الكوادكابتور، وألقت قنابل صوتية، أصدرت أصواتاً وأضواء عالية نشرت الذعر بين العائلات النازحة.
ولم يكن ذلك سوى آخر هجوم خلال عدوان الاحتلال المستمر منذ أسابيع على شمال غزة، والذي ترك المدنيين الفلسطينيين أمام ثلاثة خيارات مريرة: إما أن يستشهدوا بالقصف أو يموتوا جوعاً أو يُهجروا قسراً.
وبعد أيام قليلة من دخول جيش الاحتلال إلى بيت لاهيا في أكتوبر/تشرين الأول، نفد مخزون الطعام والماء لدى عائلة المصري.
وقالت لموقع ميدل إيست آي: “كنت أعطي معظم طعامي لأطفالي، لكن ذلك لم يكن يكفيهم، فكانوا يبكون دائماً”.
وتابعت: “كنا نشرب ماء مالحاً، وكانت ابنتي ميرا تعاني من الجفاف، لكنني لم أستطع فعل أي شيء لمساعدتها”.
وعلى الرغم من افتقارهم إلى الغذاء والماء والدواء في ظل القصف والحصار المتواصلين، رفضت المصري مغادرة بيت لاهيا، قائلة إنها لا تملك مكاناً آمناً آخر تذهب إليه.
“كنت أعطي معظم طعامي لأطفالي، لكنهم كانوا يظلون جائعين ويبكون دائماً” – جاكلين المصري، مقيمة في غزة
وبعد أوامر الإخلاء العسكرية التي أصدرتها قوات الاحتلال الأسبوع الماضي اضطرت إلى النزوح من ملجأها المؤقت الأخير في المدرسة إلى جانب نازحين آخرين، ولم يكن معها ما تحمله سوى الأطفال.
وقالت المصري: “لقد أصيب العديد من الناس برصاص الطائرات رباعية المراوح، ولم تكن هناك سيارات إسعاف، ولا أدوية وحدها مواد الإسعافات الأولية كانت متوفرة، وقد حاول الناس تغطية لملمة جراحهم ومغادرة المكان”.
وأضافت : “لقد ساروا عبر نقاط تفتيش إسرائيلية بالقرب من المستشفى الإندونيسي، حيث فصلت القوات الرجال عن عائلاتهم لاستجوابهم”.
ورغم أن المسافة بين بيت لاهيا ومدينة غزة لا تتجاوز 15 كيلومتراً، إلا أن المصري وأطفالها استغرقوا خمس ساعات من السير على الأقدام بسبب أحذيتهم المهترئة والطريق الوعرة وغير المستوية.
وقالت: “أردت أن أستريح في شارع صلاح الدين، لكن القناصة كانوا يطلقون النار بالقرب منا، فكنت خائفة على أطفالي”.
وتعيش جاكلين الآن في خيمة ضيقة مع خمسة أقارب في شارع الوحدة.
“أكثر شيء مدمر شهدته”
أما لينا الراضية، 17 عامًا، فقد لجأت أيضًا إلى مدارس بيت لاهيا مع ستة أفراد من عائلتها بعد نزوحهم من منزلهم بالقرب من حدود شمال غزة.
كانت المدارس التي آوى إليها النازحون مكتظة، وخالية من المياه النظيفة أو الإمدادات الغذائية الكافية.
وقالت الراضية: “كنا نشرب المياه المالحة بعد نفاد المياه النظيفة، ولم يجرؤ أحد على مغادرة ساحة المدرسة لأن المسيرات وطائرات الكوادكابتور كانت تطلق النار عشوائيًا في الشوارع”.
وأضافت: “عندما أصيب الناس في المدرسة والحي، تلقوا الإسعافات الأولية من خلال ممرضة نازحة في المدرسة، لأن سيارات الإسعاف والدفاع المدني مُنعت من الوصول إلى شمال القطاع”.
نجت الراضية بصعوبة من هجوم من هذا القبيل الأسبوع الماضي أثناء مساعدتها في جمع المياه خارج المدرسة، حيث أصيبت فتاة تبلغ من العمر ثماني سنوات برصاصة في الرقبة في ذلك الحسن.
وقالت الراضية عن الفتاة المصابة: “حملتها إلى الزاوية الطبية وأنا أجهش بالبكاء، لكن لم يكن بالإمكان السيطرة على نزيفها، كانت تتقيأ دماً وتوفيت بين ذراعي، لقد كان موتها أكبر ألم أشهده في حياتي كلها”.
وبينما كانت الراضية وأخواتها يجهزن العجين لتحضير الخبز في الرابع من ديسمبر/كانون الأول، ظهرت مسيرات الكوادكابتور، وأمرت الجميع بالمغادرة في غضون خمس دقائق.
وقالت الراضية لـ “ميدل إيست آي”: “صرخ النازحون في المدرسة على المسيرة لمنحنا ساعة لجمع أمتعتنا، لكنها بدأت في إسقاط القنابل الصوتية، فتركنا العجين وهربنا بلا شيء”.
وبعد مسيرة شاقة استمرت أربع ساعات، وصلت عائلة الراضية إلى مدينة غزة، وتم احتجاز والدها وإخوتها الثلاثة لفترة وجيزة عند نقطة التفتيش العسكرية، ولكن تم إطلاق سراحهم لاحقًا.
والآن، تتقاسم الأسرة خيمة مؤقتة مع 20 قريبًا في شارع الوحدة ويكافحون جميعاً من أجل البقاء دافئين خلال الليالي الباردة.
وقالت الراضية: “لقد دمرت الحرب حياتي، لقد دُعيت وكان من المفترض أن أشارك في مسابقة سباحة دولية في طوكيو العام الماضي، والآن، آمل فقط في وقف إطلاق النار لإعادة بناء مستقبلي”.
“أفضل أن أموت على أرضي”
واختار العديد من سكان بيت لاهيا البقاء، مفضلين خطر الموت على التخلي عن أراضيهم ومنازلهم، على الرغم من المعاناة الهائلة وما ألم بهم من خوف وجوع ونقص الأدوية.
وبالنسبة لهويدة كيلاني، 62 عامًا، وهي أم لسبعة أطفال، فقد كانت عواقب البقاء كارثية، حيث عاشت في بيت لاهيا مع أربع بنات صمّ، وأخرى مصابة بالشلل الدماغي، وولدين.
“لقد ماتت، ماتت ابنتي بسبب المجاعة ونقص الأدوية والرعب الشديد” – هويدا كيلاني، مقيمة في غزة
وفي الحادي عشر من مارس/آذار، دمرت غارة جوية إسرائيلية منزلها بينما كان نصف أفراد أسرتها بداخله، فاستشهدت إحدى زوجات أبنائها، وأصيب أربعة آخرون من أفراد أسرتها بجروح خطيرة، وتم إجلاؤها هي وبناتها الخمس إلى منزل أحد أقاربها في منطقة أخرى من بيت لاهيا.
وقالت كيلاني لـ “ميدل إيست آي”: “منذ بداية الحرب، قررت توزيع أفراد عائلتي على أماكن مختلفة، فإذا استشهد منهم أحد فقد ينجو الآخر”.
وعندما بدأ التوغل البري الإسرائيلي في شمال غزة في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، استخدمت كيلاني لغة الإشارة لإقناع بناتها بالإخلاء إلى مدينة غزة، لكنهن رفضن ذلك.
وقالت: “لم يرغبن في المغادرة، كما أنني كنت أفضل الموت على أرضي في بيت لاهيا بدلاً من الفرار، ولكن كأم، كنت يائسة من القلق على بناتي”.
كانت ابنتها المصابة بالشلل الدماغي، فاطمة، 25 عامًا، ضعيفة بشكل خاص.
وأضافت الأم: “كانت خائفة من القصف، وقد اعتدنا أن نعطيها المهدئات لمساعدتها على النوم، ولكن المهدئات نفدت، فظلت مستيقظة طوال الليل، لقد ماتت جوعاً معنا، وبدأت بشرتها تصاب بالتهابات غير معروفة السبب”.
وفي فترة ما بعد الظهر من يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني، لاحظت عبير ابنة كيلاني البالغة من العمر 26 عاماً أن جسد فاطمة أصبح بارداً ومتصلباً، فهرعت الأسرة إلى مستشفى كمال عدوان على عربة يجرها حمار، في حالة من الذعر، ولكن الأوان كان قد فات.
“نريد فقط أن نعيش”
دمر فقدان فاطمة حياة الأم التي تعاني من أمراض القلب والسكري، وتسببت المأساة في انخفاض مستويات السكر في دمها، مما أدى إلى تدهور صحتها.
وقررت الأسرة الإخلاء من منزل قريبهم إلى مدرسة قريبة، معتقدة أنها قد تكون أكثر أمانًا بين الأسر النازحة الأخرى، لكن الوضع أصبح أكثر سوءاً.
ففي الساعات الأولى من يوم 4 ديسمبر/كانون الأول، اقترب صوت الدبابات وإطلاق النار من المكان، واخترقت رصاصة نافذة إحدى الفصول الدراسية القريبة وأصابت أمًا تبلغ من العمر 45 عامًا في رقبتها.
استشهدت السيدة على الفور فأصيبت بنات كيلاني بالذعر، وقالت تصف حالهن التي كان يرثى لها: “لقد كن يبكين، مذعورات، لم يستطعن فهم ما كان يحدث، لقد أوضحت بلغة الإشارة أننا يجب أن نغادر على الفور”.
كانت رحلة الأسرة إلى مدينة غزة مروعة، فعلى الطريق، اعتقلت قوات الاحتلال زوج كيلاني وولديها، وأطلقت سراحهم في الليل بعد ساعات من الاستجواب، وقالت: “كان الأمر أشبه بيوم القيامة”.
والآن تعيش كيلاني وعائلتها في خيمة على قطعة أرض في حي عمر المختار بمدينة غزة، ويكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل إمدادات محدودة ومستقبل غير واضح المعالم.
وتناشد الأم “الجميع في العالم: ساعدونا في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، نريد فقط أن نعيش، حتى على أنقاض منزلنا، ولكن من فضلكم، أوقفوا القتل”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)