ناجون من مذبحة سربرينيتشا يذكرون ما حدث معهم قبل 30 عاماً من مشاهد الإبادة في غزة

بقلم مرسيحا جادزو

ترجمة وتحرير مريم الحمد

يعيش أحمد هرستانوفيتش، وهو إمام يبلغ من العمر 39 عاماً في سربرينيتشا، وهي بلدة في البوسنة والهرسك اشتهرت بعد إعدام ما لا يقل عن 8000 رجل وصبي مسلم بوسني على يد القوات الصربية في يوليو عام 1995.

كان أحمد في التاسعة من عمره آنذاك، وكان يعيش في مركز إيواء للنازحين قرب مدينة توزلا بعد أن تم ترحيله من سربرينيتشا في عام 1993 مع والدته وشقيقته، لكن الغالبية العظمى من عائلة أحمد، بما في ذلك والده، ظلت في سربرينيتشا.

يتذكر أحمد الخوف الذي شعر به الجميع على أحبائهم عند سماعهم نبأ سقوط سربرينيتشا في أيدي القوات الصربية، فقال في حديثه لموقع ميدل إيست آي: “كان واضحاً لنا جميعاً ما كان على وشك أن يحدث لأحبائنا”.

“بالطبع أحكام المحاكم الدولية وقرارات الأمم المتحدة تسهل رواية قصتنا عن الإبادة الجماعية، لكنها لا تضمن عدم حدوث إبادة جماعية أخرى هنا مرة أخرى، فهذا الخيار موجود دائماً إلا إذا كنت الدولة قوية عسكرياً ولديها جيش يحمي الأمة، فهذه هي اللغة الوحيدة المفهومة في العالم، لغة القوة، هكذا كان الأمر عبر التاريخ وأمثلة التسامح قليلة” – أحمد هرستانوفيتش- إمام مسجد في سربرينيتشا

وبعد مرور 30 عاماً على عمليات القتل تلك، والتي أكدت كل من المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ومحكمة العدل الدولية بأنها جريمة إبادة جماعية، يرى هرستانوفيتش أوجه التشابه بين الهجوم الإسرائيلي على غزة، فقال: “كنا في هذا الوضع حيث كانت القوات الصربية والكرواتية يهاجموننا من جميع الجهات ولم يسمحوا لنا بالدفاع عن أنفسنا” في إشارة إلى المجتمع الدولي.

وأضاف أحمد: “لسوء الحظ، كنا نعتقد أن المجتمع الدولي سيقف إلى جانب العدالة والديمقراطية، ولكن الديمقراطية لم تعد موجودة في العالم فقانون الأقوى فقط هو الذي يهم”.

أما فضيلة أفنديتش، رئيسة جمعية أمهات سربرينيتشا البالغة من العمر 84 عاماً، فقد كانت تعتقد دائماً أن ما حدث في سربرينيتشا سيكون الأخير من نوعه، فقالت في مقابلة مع موقع ميدل إيست آي من منزلها في بوتوكاري، وهي قرية في سربرينيتشا يوجد فيها نصب تذكاري لما حصل قبل 30 عاماً.

تقول فضيلة: “السياسة فظيعة، فمصالح القوى العظمى يدفع ثمنها الصغار بحياتهم”، وأضافت أنه مثلما لم يكترث المجتمع الدولي بما حصل في البوسنة، فهو أيضاً لا يكترث اليوم بالإبادة الجماعية في غزة، فقالت: “إنهم يعملون ضد الناس فقط من أجل مصالح ضم الأراضي وقتل الناس وطردهم وهو أمر لن ينتهي بشكل جيد”.

تتذكر أفنديتش إطلاق النار والقصف العنيف من جميع الجهات من قبل القوات الصربية في 11 يوليو عام 1995، فقد كان من الصعب على أي أحد الوصول إلى قاعدة الأمم المتحدة في بوتوكاري حياً وقتها والبحث عن ملجأ، فقد كان الناس في ذعر ولا يعرفون ماذا يفعلون.

تقول فضيلة: “كانت المنطقة تسمى المنطقة المحمية لكنهم كانوا يقصفون كل يوم، فما الذي كانت تحميه الأمم المتحدة؟ لقد قاموا فقط بحماية الصرب، وقد سلمونا إليهم ليقتلونا”.

وتتذكر أفنديتش مدى سرعة قيام القوات الصربية بقتل الناس في الوقت الذي لم تتدخل فيه قوات الأمم المتحدة الهولندية لوقفهم، تقول: “الذين نجوا كانوا يعملون كمترجمين، أما المسعفون العاملون في الطوارئ من الرجال فقُتلوا جميعاً، وكل من جاء من الرجال إلى بوتوكاري لم ينجُ”.

أبشع الجرائم

تعرضت البوسنة فعلياً لغزو القوات الصربية والكرواتية من عام 1992 حتى عام 1995، وذلك بهدف تقسيم البلاد إلى صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى.

وفي سبتمبر عام 1991، فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالفعل حظراً على الأسلحة على دول يوغوسلافيا السابقة بما فيها البوسنة من أجل منع تصاعد العنف.

أما في واقع الأمر، فقد ترك الحصار سكان البوسنة بلا دفاع ولا استعداد، في حين كانت قوات صرب البوسنة، والتي شملت القوات شبه العسكرية من صربيا، مدججة بالسلاح بالفعل بعد أن ورثت أسلحة الجيش اليوغوسلافي، الذي كان رابع أقوى جيش في أوروبا في ذلك الوقت.

في 11 يوليو عام 1995، بلغت الفظائع الصربية ذروتها في الإبادة الجماعية في سربرينيتشا، ففي ذلك اليوم أعلن الجنرال الصربي راتكو ملاديتش، الذي أصبح اليوم مجرم حرب مداناً وحكم عليه بالسجن مدى الحياة في لاهاي، أمام كاميرات التلفزيون بينما كان يسير في الشارع: “ها نحن هنا في سربرينيتشا الصربية، وفي عشية عطلة صربية أخرى، نمنح هذه المدينة للشعب الصربي كهدية”.

وأضاف: “لقد حان الوقت للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة”، في إشارة إلى المسلمين الذين يعتبرهم القوميون الصرب جزءاً من مخلفات الدولة العثمانية.

وقد وصف رئيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ألفونس أوري، أعمال التعذيب والقتل الجماعي التي تعرض لها المدنيون المسلمون البوسنيون في ذلك الأسبوع تحت قيادة ملاديتش بأنها “من بين أبشع الجرائم التي عرفتها البشرية”.

في الأيام التالية، عندما وصلت حافلات النساء والأطفال الذين تم ترحيلهم إلى دوبراف أو كلادانج قرب توزلا في المنطقة الحرة، كانت والدة هرستانوفيتش تقطع مسافة 40 كيلومتراً يومياً لتسأل الناجين عما إذا كان أي منهم يعرف أي شيء عن مكان وجود عائلتها.

بعد أن كان عدد سكان المدينة قبل الحرب يبلغ 30 ألف نسمة، يعيش الآن حوالي 2000 مسلم بوسني فقط في المدينة

كان هناك طابور من الرجال والصبية الذين حاولوا الهروب عبر الغابة المحيطة وقاموا برحلة شاقة سيراً على الأقدام إلى توزلا، على بعد أكثر من 100 كيلومتر، ولكن لم تنجو سوى أقلية صغيرة، حيث تعرضوا للقصف المستمر والكمائن من قبل القوات والشرطة الصربية، وفي وصف ذلك قال هرستانوفيتش: “مع مرور كل يوم، كان الأمل في وصولهم أحياء يتضاءل”.

في عام 2007، تلقى هرستانوفيتش مكالمة هاتفية من اللجنة الدولية للأشخاص المفقودين (ICMP)، لإبلاغه بأنه قد تم العثور على بقايا الهيكل العظمي لوالده، رفعت، وأحد أعمامه، حيث تم اكتشاف رفات رفعت في 4 مقابر جماعية منفصلة، ​​بعد أن قامت القوات الصربية بنبش القبور بعد إعدامه ونقل الجثث بالجرافات إلى مواقع متعددة في محاولة لإخفاء عمليات القتل.

قام هرستانوفيتش بإدراج أسماء المزيد من أفراد عائلته الذين تم العثور عليهم على مر السنين، حيث تم العثور على جثث أجداده كاملة، كما كانت القوات الصربية قد ألقت القبض على أحد أعمامه، الذي كان يبلغ من العمر 16 عاماً فقط في ذلك الوقت، وقتلته على الفور فوق المركز التذكاري في بوتوكاري.

في المجمل، قتلت القوات الصربية أكثر من 50 فرداً من عائلته، وفي ذلك قال: “بالطبع أحكام المحاكم الدولية وقرارات الأمم المتحدة تسهل رواية قصتنا عن الإبادة الجماعية، لكنها لا تضمن عدم حدوث إبادة جماعية أخرى هنا مرة أخرى، فهذا الخيار موجود دائماً إلا إذا كنت الدولة قوية عسكرياً ولديها جيش يحمي الأمة، فهذه هي اللغة الوحيدة المفهومة في العالم، لغة القوة، هكذا كان الأمر عبر التاريخ وأمثلة التسامح قليلة”.

“مصالح القوى العظمى”

في عام 1998، تم العثور على بقايا زوج فضيلة أفنديتش بدون جمجمة في مقبرة جماعية، وبعد عقد من الزمن، تم العثور على عظمتين من ساق ابنها في قرية قرب منطقة زفورنيك على بعد 53 كيلومتراً شمال سربرينيتشا فدفنت عظمتيه في عام 2013 في المقبرة التذكارية بجوار زوجها.

تعتبر الإبادة الجماعية واحدة من أكثر إخفاقات الأمم المتحدة المخجلة، وقد عبر عن ذلك المعنى كوفي عنان، الذي كان وكيلاً للأمين العام لعمليات حفظ السلام آنذاك، معتبراً أن سربرينيتشا سوف تطارد تاريخ الأمم المتحدة.

قبل عقد من الزمن، اتهم وزير الدفاع الهولندي السابق يوريس فورهوف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا بالتوصل إلى اتفاق سري مع الصرب بعدم شن هجمات جوية رغم الوعد بذلك لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

وفي عام 2017، حكمت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة على ملاديتش بالسجن مدى الحياة بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب المرتكبة في البوسنة في أوائل التسعينيات، إلا أن إنكار الإبادة الجماعية وتمجيد مجرمي الحرب المدانين لا يزال شائعاً في المجتمع الصربي وفي السياسة ووسائل الإعلام الصربية.

بالنسبة لهرستانوفيتش، فقد كان حلمه دائماً هو العودة إلى موطنه في سربرينيتشا، وقد فعل ذلك في عام 2014 واليوم يعيش هناك مع زوجته وأطفاله الخمسة. 

تجدر الإشارة إلى أنه وبعد أن كان عدد سكان المدينة قبل الحرب يبلغ 30 ألف نسمة، يعيش الآن حوالي 2000 مسلم بوسني فقط في المدينة، ومع ذلك، فمن بين جميع البلدات التي تم تطهيرها عرقياً على الحدود الصربية، من بيليجينا في الشمال إلى فوكا في الجنوب، لا تزال سريبرينيتشا تضم ​​أكبر عدد من الأطفال المسلمين البوسنيين.

يقول هرستانوفيتش: “يمكنك أن تشعر بمقتل رجل بريء في الهواء، فأينما يقتل أناس أبرياء، لا تستطيع أن تبني حياة جديدة هناك وتمحو ما حدث، هذا مستحيل”.

بعد يوليو عام 1995، تعهد العالم “بعدم تكرار ذلك أبداً”، لكن الحرب الإسرائيلية على غزة مستمرة الآن للشهر الثاني والعشرين، واستشهد فيها أكثر من 56 ألف شخص وفقاً لوزارة الصحة في غزة.

في مارس عام 2024، صرح صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جاريد كوشنر، بأن “الواجهة البحرية لغزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة” وبأنه سيبذل قصارى جهده لنقل الفلسطينيين المحليين من هناك “ثم تنظيفها”، وهو ما ردده ترامب حين أعلن بأن غزة يمكن أن تصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”.

بالنسبة لهرستانوفيتش، فهذه “ليست طبيعة الأشياء، فلا يمكنك قتل الأبرياء ثم البناء فوق قبورهم وتدمير المنازل باعتبار المكان جنة خاصة بك وتتوقع أن تكون سعيدا، ولا يمكن لأي نظام عالمي أن يتسامح مع ذلك، نحن نتعاطف حقاً مع إخواننا في غزة وفلسطين وحيثما يقتل الأبرياء”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة