بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في 19 نوفمبر عام 1995، صدرت لائحة اتهام المحكمة الجنائية الدولية ضد الزعيمين الصربيين، رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش، عن جرائم حرب ارتكبوها في البوسنة والهرسك.
أشارت المحكمة في لائحتها آنذاك إلى أنه في الفترة ما بين 12 يوليو و13 يوليو عام 1995، كان ملاديتش قد وصل إلى بوتوكاري، التي كان قد لجأ فيها آلاف الرجال والنساء والأطفال المسلمين البوسنيين إلى المجمع العسكري التابع للأمم المتحدة، برفقة مساعديه العسكريين وطاقم تلفزيوني.
غرض المحكمة من إصدار أوامر الاعتقال في غضون شهرين ليس فقط محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، بل وقف ارتكاب المزيد من الجرائم، فكيف إذن ظلت المحكمة مشلولة لمدة 5 أشهر حتى الآن في وقت لم تتوقف فيه الجرائم ولا يوماً واحداً؟!
قام الجنرال الصربي بتصوير نفسه وهو يخبر المسلمين بأنه سيتم نقلهم بأمان إلى خارج سربرنيتسا، حيث استقل ملاديتش حافلة مليئة باللاجئين المذعورين وخاطبهم قائلاً: “مساء الخير، لابد أنكم سمعتم القصص عني والآن تنظرون إلي، أنا الجنرال ملاديتش، أنتم جميعاً بأمان وسيتم نقلكم جميعاً إلى كلادانج، نتمنى لكم رحلة آمنة، أما أنتم الذين في سن التجنيد، فلن تذهبوا والآن أنا أقدم لك حياتك كهدية”.
في بوتوكاري، تم فصل الرجال والصبية عن النساء، حيث نقلوا إلى براتوناتس وقتلوا بالرصاص على يد الجنود الصرب، ولاحقاً تم إعدام الرجال والنساء المسلمين الذين لجأوا إلى مجمع الأمم المتحدة وتركت جثثهم ملقاة في الحقول والمباني في المجمع.
بعد ما يقرب من 3 عقود من الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، يتكرر الأمر مرة أخرى بل هو أسوأ هذه المرة وبشكل يومي في مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة.
يتم استخدام القتل بشكل ممنهج في شمال غزة، حيث يتم فصل الرجال عن النساء واقتيادهم إلى مصير مجهول، في الوقت الذي تناثرت فيه الجثث في شوارع جباليا بشكل يدل على حصول عمليات إعدام ميدانية، بحق الرجال والنساء والأطفال.
لكن على عكس ما حصل في سريبرينيتسا، فقد تم توثيق الجريمة هنا بالفيديو، ليتأكد لنا أن ما يحدث في شمال غزة اليوم يختلف حقاً عن أي رعب تعرض له القطاع ربما خلال العام المنصرم كاملاً!
أسوأ من النكبة
إن ما يحدث أمام أعيننا أسوأ من نكبة عام 1948، فما حدث في دير ياسين والطنطورة يحدث كل ليلة في شمال غزة، فقد تغيرت تكنولوجيا القتل، فلم يعد هناك رغبة في ترك ناجين، حيث تم فرض حصار كامل، فلا طعام أو ماء أو رعاية طبية، حتى أصبح شمال غزة منطقة غير صالحة للسكن.
وكما حدث في سريبرينيتشا، يتم نقل الضحايا المدنيين إلى “مناطق آمنة” ثم يتم قتلهم في منهجية متعمدة ومنظمة!
يقول رئيس الأونروا، فيليب لازاريني، أن “رائحة الموت في كل مكان، حيث الجثث ملقاة على الطرق أو تحت الأنقاض، ويتم رفض مهمات إزالة الجثث أو تقديم المساعدة الإنسانية”.
لقد قُتل أكثر من 8000 رجل وصبي مسلم بوسني في سربرنيتسا، واليوم هناك ما يصل إلى 400 ألف فلسطيني في شمال غزة، يموت العشرات منهم كل ليلة بنيران المدفعية، أو غارات الطائرات بدون طيار، أو عمليات الإعدام ميدانية.
منذ 3 أسابيع ونتنياهو ماضٍ قدماً في هذا دون أي ضغوط دولية تُذكر، فلا توجد بيانات إدانة من أي زعيم غربي، ورغم أن القضيتان المرفوعتان أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية تحملان تهماً خطيرة بانتهاك القانون الدولي، مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، إلا أنها لا تزال متوقفة.
لقد مرت 5 أشهر منذ أن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، فيما قتل قادة حماس المطلوبين بتهم جرائم حرب، إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وربما الضيف وفقاً للرواية الإسرائيلية، وبالتالي، لم يبقَ سوى المسؤولين الإسرائيليين لأوامر الاعتقال، ومع ذلك لم يتم إصدار أي منها!
ويبلغ متوسط فترة انتظار قضاة الدائرة التمهيدية للموافقة على أمر الاعتقال الذي يطلبه المدعي العام شهرين.
إن عمليات القتل التي تحدث في غزة الآن تحدث لأن نتنياهو يعلم أن بايدن على بعد أسبوعين من الانتخابات الرئاسية وقد نفد رأس ماله السياسي لمنعه
وفقاً لنظام روما الأساسي، فإن غرض المحكمة من إصدار أوامر الاعتقال في غضون شهرين ليس فقط محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، بل وقف ارتكاب المزيد من الجرائم، فكيف إذن ظلت المحكمة مشلولة لمدة 5 أشهر حتى الآن في وقت لم تتوقف فيه الجرائم ولا يوماً واحداً؟!
“إكمال المهمة”
يبدو نتنياهو اليوم منتشياً أمام التصفيق العام، حيث يُنظر إلى وفاة السنوار داخل إسرائيل على أنها إثبات لسياسة نتنياهو المتمثلة في تحدي قائده، الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي طلب منه وقف الحرب قبل عدة أشهر.
علق على ذلك محلل القناة 12 العبرية، أميت سيجال، معتبراً أن “النجاح” في قتل السنوار يعود إلى عدم استماع إسرائيل لأي أحد لمدة عام كامل واستمرارها في استراتيجيتها العسكرية، وتجنب وقف إطلاق النار رغم كل الضغوط الدولية.
أما في الخارج، فإن فيتقاسم المعسكرين التقليديين في الولايات المتحدة السيجارة، حيث يردد بايدن شيئاً واحداً وهو مستمر في تسليح إسرائيل ، فيما يتمتع دونالد ترامب بميزة أنه يقول ما يفكر فيه، كما أن شخصيات مثل كير ستارمر وأنتوني بلينكين تعد أمثلة لوزراء تفوقوا بالسوء على وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو أو صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر.
في جولته رقم 11 إلى المنطقة، أخبر بلينكن نتنياهو أن هناك “تصوراً” بأن خطة وضعها جنرالات متقاعدون لإجبار سكان شمال غزة على الخروج بسبب المجاعة يجري تنفيذها، ولكن نتنياهو تغلب عليه بسهولة بالكذب عليه ببساطة، كما فعل مع بايدن مراراً وتكراراً.
إن عمليات القتل التي تحدث في غزة الآن تحدث لأن نتنياهو يعلم أن بايدن على بعد أسبوعين من الانتخابات الرئاسية وقد نفد رأس ماله السياسي لمنعه، وسواء اعترفوا بذلك علناً أم لا، فإن نتنياهو قد نجح في إقناعهم بأنه تمكن من قلب دفة الحرب لصالحه في غزة ولبنان، وأنه ينبغي السماح له “بإكمال المهمة”.
ولكن ماذا يعني ذلك؟ وأين تنتهي هذه المهمة؟
بالنسبة للصهاينة المتدينين في حزب القوة اليهودية، فإن نهاية الحرب هي إخلاء جميع الفلسطينيين والاستيلاء الكامل على غزة من قبل المستوطنين، حيث قاموا مؤخراً بعقد مؤتمر على بعد 3 كيلومترات من حدود غزة وعلى أصوات القصف، حضره عدد لا بأس به من أعضاء الكنيست من حزب الليكود.
حمل العديد من الحاضرين ملصقات تحتفل بمئير كاهانا، الحاخام الأمريكي المولد والإرهابي الذي قال أنه يجب إجبار جميع الفلسطينيين على الخروج من إسرائيل.
من جانبها، زعمت زعيمة المستوطنين المتطرفة، دانييلا ويس، أن منظمتها “نحالا” قد أبرمت بالفعل صفقة بقيمة “ملايين الدولارات” لإنشاء وحدات سكنية مؤقتة تمهيداً لاستيطان القطاع، حيث قالت: “سوف ترون كيف سيذهب اليهود إلى غزة وكيف سيختفي العرب من غزة”.
مشاهدة غزة تحترق
يرفض أنصار إسرائيل في بريطانيا مثل هذه التجمعات باعتبارها غريبة الشكل، ولا تمثل الدولة التي ما زالوا يسمونها “إسرائيل”، فما زال هناك قناعة غربية بأن غالبية الإسرائيليين يرفضون خطة إعادة احتلال غزة، ولكن الحقيقة أن غالبية الإسرائيليين يشاهدون خطة تفريغ غزة ولا يفعلون شيئا لوقفها.
يعتقد نتنياهو أنه يمكن أن يكون قد كسب هذه الحرب من خلال دفن أعدائه تحت الأنقاض، فيما هو في الحقيقة يدفن أي فرصة لليهود الإسرائيليين ليتمكنوا من العيش بسلام مع جيرانهم العرب لعقود قادمة
وما من أمر أكثر دلالة على ذلك من حضور وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، في مؤتمر كان اليهود يرقصون فيه ويحتفلون بانهيار غزة!
وينفي نتنياهو أن خطته تهدف إلى إخلاء غزة، لكن عضو الكنيست، تالي غوتليف، صرح لموقع ميدل إيست آي بالقول: “ليس لدي أدنى شك في أنه يدعم الاستيطان في غزة لأنه سيجلب المزيد من الأمن، ليس فقط للمنطقة المحيطة بقطاع غزة ولكن لإسرائيل”، ويؤيد غوتليف ما يحدث في شمال غزة فيقول: “الناس في شمال غزة سمحوا لمقاتلي حماس بالمرور يوم 7 أكتوبر، وليس لدي أي رحمة سوى منحهم الفرصة للمغادرة إلى الجنوب”.
تجدر الإشارة إلى أنه قد أُقيمت بالفعل تجمعات لمشاهدة غزة وهي تحترق عند نقطة مراقبة واحدة!
لم يسبق أن كان الإسرائيليون غافلين إلى هذا الحد عن روح الغضب التي يثيرونها في قلوب العرب من حولهم، ولا أدل على ذلك من الرأي العام السائد في الدولتين العربيتين اللتين وقعتا معاهدات سلام مع إسرائيل، مصر والأردن.
على سبيل المثال، فإن السياسي المصري، مرتضى منصور، ورغم وصفه لثورة 2011 بأنها “أسوأ يوم في تاريخ مصر”، كما أنه يكره جماعة الإخوان المسلمين وكان مؤيداً لانقلاب السيسي العسكري، إلا أنه كتب عن استشهاد يحيى السنوار قائلاً: “إن استشهاد المناضل الفلسطيني يحيى السنوار على يد الصهاينة المجرمين وإصابته في الوجه يؤكد أنه كان جندياً شجاعاً واجه الموت بشجاعة دفاعاً عن وطنه المحتل ولم يستسلم، فلم يهرب إلى باريس أو لندن حيث يلهو بعض أثرياء العرب في صالات القمار والملاهي الليلية وينفقون ملايين الدولارات على أهوائهم بينما لا يجد أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق شربة ماء، بل بقي في وطنه المحتل مقاوماً حتى استشهد”.
أما حمدين صباحي، الناصري الذي كان من أشد المنتقدين للرئيس المصري الراحل محمد مرسي، فقد كتب مخاطباً زعيم حماس القتيل: “صورة استشهادك سترمي المشككين بالحجارة، فقد استشهدت مثل كل شعب غزة الأبطال، لا مختبئاً في الأنفاق ولا محاصراً بأسراهم، كنت مع رجالك في مواجهة العدو، وستظل دمائكم الطاهرة مثالاً ملهماً للمقاومة حتى تحرير فلسطين”.
لن تتحقق العدالة
وفي الأردن، استقبلت عائلات المسلحين اللذين نفذا هجوماً عبر الحدود في منطقة جنوب البحر الميت، أدى إلى إصابة جنديين إسرائيليين، حشوداً من المهنئين، وتم حمل والد أحد المنفذين، عامر قواس، على أكتاف الحشد خلال مظاهرة في عمان، حيث اعتبر الأب ناصر قواس أن دم ابنه ليس أغلى من دماء الشعب الفلسطيني.
لقد نسي الجميع الرجل الذي سُميت كتائب القسام باسمه، وهو الداعية السوري عز الدين القسام، الذي توفي في انتفاضة ضد المستعمرين البريطانيين والفرنسيين في بلاد الشام أثناء الانتداب البريطاني لفلسطين عام 1936، وبعد 56 عاماً من وفاته، أنشأت حماس جناحها العسكري الذي حمل اسمه، ليقود الحرب ضد إسرائيل متفوقاً على كل الجيوش العربية مجتمعة.
لقد صنعت إسرائيل من يحيى السنوار أسطورة مقاومة أقوى حتى من القسام في العقول الفلسطينية والعربية، فكما عبر المعلق فادي قرعان، فكلما حصدت إسرائيل أرواح شباب مثل شعبان الدلو، الذي أحرق حياً في باحة أحد المستشفيات، أو سيدة مثل حنان أبو سلامي البالغة من العمر 59 عاماً خلال قيامها بجني ثمار الزيتون في الضفة الغربية، فإن مئات الآلاف من صواريخ القسام والسنوار سوف تظل ترد.
يعتقد نتنياهو أنه يمكن أن يكون قد كسب هذه الحرب من خلال دفن أعدائه تحت الأنقاض، فيما هو في الحقيقة يدفن أي فرصة لليهود الإسرائيليين ليتمكنوا من العيش بسلام مع جيرانهم العرب لعقود قادمة.
اعتمدت الجمعية العامة هذا العام قراراً باعتبار يوم 11 يوليو “اليوم الدولي للتفكر وإحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي وقعت في سريبرينيتسا عام 1995″، حيث سيتم الاحتفال به سنوياً.
وعلى عكس كاراديتش و ملاديتش، اللذين يقضيان عقوبة السجن مدى الحياة في لاهاي وبار خورست اليوم، فإنني أشك فيما إذا كان سيتم تقديم نتنياهو وغالانت وجميع الذين ساهموا في الإبادة الجماعية في غزة إلى العدالة في حياتهم!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)