بقلم عزمية ريتشيوتو
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل 8 سنوات تقريباً، كنت قد كتبت مقالة افتتاحية حول سبب عدم تصويتي لهيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، فقد كانت لدي مخاوف جدية بشأن دعوتها المتحمسة للحرب وتجاهلها المتعمد للسيادة الفلسطينية.
من المؤكد أيضاً أنني لم أكن لأصوت لصالح دونالد ترامب الذي وعد بـ “حظر المسلمين” آنذاك، وقمت بدلاً من ذلك بالتصويت لصالح مرشح حزب ثالث، وبعد 4 سنوات من ذلك، صوتت لجو بايدن بعد تردد كبير لمجرد أنه لم يكن ترامب!
ها نحن الآن على أبواب انتخابات جديدة، ولكن هذه المرة، ونحن نشاهد إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة، شارك فيها “أهون الشرين” بايدن، وتم دفع ثمنها بأموال ضرائبنا وباستخدام الذخائر الأمريكية
أما الآن، ومع إجراء الانتخابات التمهيدية في جميع أنحاء البلاد واقتراب الانتخابات الرئاسية، فإن أمريكا باتت مرة أخرى في مواجهة موقف لا تحسد عليه، فلا رابح فيه فإما أن تنتخب الشرير الكارتوني أو الشرير الماكر.
واقع الحال أن ترامب ليس هو الشخص المشرف على المذبحة والتجويع لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة، وفي حالة بايدن، فلم لا يمكن الاكتفاء بأنه مجرد “متواطئ” في الإبادة الجماعية في غزة، بل هو مشارك نشط وعليه تحمل عواقب ذلك.
لقد تجاوز بايدن الكونغرس عدة مرات من أجل إرسال أسلحة إلى إسرائيل، كما استخدمت إدارته حق النقض ضد قرارات وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة 3 مرات حتى الآن، ولعلنا لا ننسى أبدًا صورة بايدن المثيرة للاشمئزاز وهو بتناول الآيس كريم خلال جوابه عن سؤال عن غزة التي تتضور جوعاً!
مع ازدياد الإقبال على حملات التخلي عن بايدن في البلاد، يدور حديث حول كيفية تغيير النظام السياسي للولايات المتحدة بحيث يعمل لصالح الأمريكيين بالفعل، خاصة وأن المزيد من الناخبين باتوا يطالبون بتحرر الولايات المتحدة نفسها من قبضة نظام الحزبين الفاشل أيضاً.
“لا يوجد طرف جيد”
مما لا شك فيه أن رئاسة ترامب كانت كارثية، فقد تضمنت إساءة استخدام صارخة للسلطة وعرقلة العدالة وإنكاراً لنتائج الانتخابات، وتحريضاً على التمرد، وبطبيعة الحال، قرار “حظر المسلمين”، لكن تجدر الإشارة إلى أن أساس العديد من هذه السياسات الخبيثة قد تم وضعه من قبل الرئيس السابق باراك أوباما ونائبه آنذاك بايدن.
كانت سياسات ترامب بشأن فلسطين سيئة على نحو مماثل، فقد قام بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ودعم المستوطنات غير القانونية في فلسطين المحتلة والجرائم ضد المتظاهرين الفلسطينيين، كما حاول إسكات الأصوات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا.
الحقيقة أن أوباما تبنى العديد من هذه السياسات أيضاً، حيث شهدت رئاسته نمواً للمستوطنات في الضفة الغربية وتقديم حزمة مساعدات عسكرية غير مسبوقة لإسرائيل، ومع وجود أوباما وبايدن في السلطة، تمكنت إسرائيل من شن حروب إبادة جماعية في غزة، بما في ذلك في حرب يوليو 2014 عندما ألقى أوباما محاضرة على ضيوفه المسلمين خلال إفطار في البيت الأبيض حول “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” وهي تذبح الآلاف في غزة!
في تصريحها، أشارت السيدة الأولى جيل بايدن بأن ترامب “خطر على النساء”، في حين أنها لم ترَ نساء غزة اللواتي اضطررن للخضوع لعمليات قيصرية دون تخدير والنوم بملابس الصلاة حتى يشعرن بحالة من الحياء إذا ذبحن أثناء نومهن!
على الأقل، كان ترامب شفافاً وواضحاً بما يريد أن يفعل، وهذا ماعرضه على الدوام لانتقاد الليبراليين الأمريكيين بعكس ما كانوا يقومون به مع أوباما أو بايدن من تقديم الأعذار لإجرامهما!
ها نحن الآن على أبواب انتخابات جديدة، ولكن هذه المرة، ونحن نشاهد إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة، شارك فيها “أهون الشرين” بايدن، وتم دفع ثمنها بأموال ضرائبنا وباستخدام الذخائر الأمريكية.
من المحتمل أن استخدام عبارة “أنا لست الرجل الآخر” لن تنجح مع بايدن هذا العام، فهناك كتلة حرجة من الأمريكيين الآن لم تعد تراه تريده ولو لمجرد أنه ليس ترامب، فهو ليس جيداً أو خيرأً، فالأخيار لا يستمرون في إرسال الأموال والقنابل لاستخدامها في ما يمكن اعتباره الإبادة الجماعية الأكثر توثيقًا في التاريخ!
لقد تم تجاوز العتبة وتخلى عشرات الناخبين، بما في ذلك الأمريكيون الفلسطينيون والعرب والمسلمون وغيرهم من أصحاب الضمائر الحية، عن دعمهم لبايدن، فنحن نشعر بالرعب من صور المذبحة، من أطفال قتلى على الجدران وآخرون قد نُزعت أحشاؤهم، وأطفال فقدوا الجزء العلوي من جماجمهم وصراخ الأمهات والآباء الذين يحملون أطفالهم المكسورين، غلى البحث في الأرض الملطخة بالدماء عن الدقيق، لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة.
لقد وجد الأميركيون القاسم المشترك بين الرغبة في وضع أمريكا أولاً والتوقف عن إرسال مليارات الدولارات إلى حكومات أجنبية، كما أنهم باتوا يدركون أن المسؤولين المنتخبين لدينا لا يمثلون إرادة الشعب بل جماعات الضغط، وذلك ما بدا واضحاً مع تجاهل غالبية السياسيين الأمريكيين لدعوات وقف إطلاق النار التي أيدها 77% من الديمقراطيين، و69% من المستقلين، و56% من الجمهوريين!
هجمات ليبرالية
رداً على الديمقراطيين الذين صوتوا بـ “غير ملتزمين” في ولاية ميشيغان خلال الانتخابات التمهيدية الأخيرة، اشتكت الممثلة ومقدمة البرامج الحوارية، ووبي غولدبرغ، من أننا لا ينبغي أن نكون “ناخبين لقضية واحدة”، حيث يصر منتقدو التصويت بالخيار الثالث على أنه يتعين علينا التصويت لصالح بايدن لأن هذه الانتخابات سوف تحدد ما إذا كنا سنجري انتخابات أخرى مرة أخرى.
عندما تفاخر ترامب بأنه قادر على إطلاق النار على شخص ما دون خسارة الناخبين في عام 2016، أصيب الليبراليون بالرعب آنذاك، وعندما أصبح بايدن رئيساً عمل بشكل مباشر على تمكين وتسهيل قتل أكثر من 30 ألف فلسطيني، فكيف يتوقع من الناس التصويت له؟!
أما على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل X، فالليبراليون مستمرون بالترويج للخوف حول عواقب رئاسة ترامب من جديد، محذرين من أن ترامب قد يتسبب في وقوع هرمجدون من جهة ومزيد من الحظر والترحيل للمسلمين من جهة ثانية.
ما فشل الليبراليون في إدراكه هذه المرة هو أن سقوط الإمبراطورية قد بدأ بالفعل، فبايدن قد نجح في تحويل الولايات المتحدة إلى دولة منبوذة، وهو نفس الاتهام الذي تم توجيهه سابقًا إلى ترامب، بسبب دعمه الذي لا يتزعزع لإسرائيل!
من جانب آخر، فغالبًا ما تثير الحجج الليبرالية لدعم بايدن تهديدات وقلق فيما يتعلق بالقضايا المحلية، مثل الحقوق الإنجابية والهجرة والترحيل الجماعي والمحكمة العليا، فيما لا يفعل الديمقراطيون الكثير لتحسين الأمور على أرض الواقع، فلماذا تعمل على توسيع المحكمة العليا أو الحد من ولايتها القضائية عندما تستطيع الفوز بالانتخابات بوعود فارغة؟!
كان بايدن نفسه هو من دعا ترامب إلى التعاون لدعم مشروع قانون الحدود المقدم من الحزبين والذي وعد بـ “المزيد من الموارد” لدوريات الحدود، حتى أطلق سياسيون مثل ألكساندريا أوكاسيو كورتيز على الحدود في عهد ترامب اسم “معسكر اعتقال” لكن الديمقراطيين لم يفعلوا شيئًا سوى إخبارنا بأن نصوت لصالح بايدن بينما يقوم بتجويع وقصف سكان آخرين يعيشون في معسكر اعتقال آخر!
وإذا ما توقفنا عند ما حصل حقاً، فمن المفارقة أن سلطات الهجرة قامت بتشديد القانون وزيادة عمليات الاحتجاز منذ ترك ترامب منصبه، حيث تضاعف عدد الأشخاص المحتجزين منذ تولى بايدن منصبه فيما وصفه اتحاد الحريات المدنية الأمريكي بأن “إدارة بايدن تملأ أسرة السجون الخاصة بالمهاجرين المحتجزين”.
والآن، تعلق حملة بايدن آمالها لعام 2024 على حقوق الإجهاض، ففي تصريحها، أشارت السيدة الأولى جيل بايدن بأن ترامب “خطر على النساء”، في حين أنها لم ترَ نساء غزة اللواتي اضطررن للخضوع لعمليات قيصرية دون تخدير والنوم بملابس الصلاة حتى يشعرن بحالة من الحياء إذا ذبحن أثناء نومهن!
ومن عجيب المفارقات أنه في فعالية الحملة الانتخابية للسيدة الأولى، تعرضت امرأة من بين الجمهور تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة للعنف على أيدي أفراد آخرين من الجمهور لإخراجها، في وقت سخر فيه بايدن نفسه من فكرة الاستقلال الجسدي حين صرح لصحيفة نيويوركر قائلاً: “لم أكن أبدًا مؤيدًا لها كما تعلمون، إنه جسدي وأستطيع أن أفعل به ما أريد”.
يتطلب الأمر رياضة ذهنية على المستوى الأوليمبي للتغاضي عن النفاق الصارخ والمعايير المزدوجة في اللعب، فـ “أهون الشرين” لا يزال شرًا وفي بعض الأحيان قد يكون أكثر شرًا من غيره، ولذلك حان الوقت لكي نحمل “نحن الشعب” ساستنا المسؤولية عن اختياراتهم الشنيعة.
مسؤولية أخلاقية
تقول آمنة عليان، معلمة مسلمة أمريكية فلسطينية تبلغ من العمر 61 عامًا وناشطة مشاركة في حملة “غير ملتزم” ضد بايدن في فلوريدا، أن الحملة هي “رد فعل أخلاقي من قبل العديد من الأمريكيين المتضررين من هذه الإبادة الجماعية المستمرة ويريدون لها أن تتوقف”.
يعد التصويت لطرف ثالث هو الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تغيير المسار، فقد تم تجاهل دعواتنا لوقف المذبحة لمدة 5 أشهر حتى الآن، فما فائدة الانتخابات في المقام الأول إذا كان المسؤولون المنتخبون لدينا يتجاهلوننا؟!
وتعتقد عليان أن بايدن وغيره من المسؤولين المنتخبين في الولايات المتحدة يتجاهلون القانون الدولي بشكل صارخ، قائلة: “إن الإبادة الجماعية هي جريمة كل الجرائم، غير أخلاقية وغير قانونية ولا يمكن التسامح معها”.
لطالما أفلت الحزبان من المسؤولية لفترة طويلة لأننا واصلنا التصويت لهم، أليس هذا هو تعريف الجنون، الاستمرار في فعل نفس الشيء مرارا وتكرارا وتوقع نتائج مختلفة؟ لم يعد لدينا في هذه المراحلة إلا طريقة واحدة لإخبار المؤسسة وسياسيها بأننا سئمنا منهم وهي التصويت لحزب ثالث.
أخبرتني أندريا، مديرة تسويق لاتينية تبلغ من العمر 37 عامًا وديمقراطية مسجلة من ميامي، أنها صوتت لصالح بايدن فقط “لأنه لم يكن ترامب”، وأنها ليست متحمسة بشأن احتمال فوز بايدن عام 2024، معتقدة أنه “بدد الدعم الذي تلقاه من الناخبين الشباب والأشخاص الملونين”، وهي الآن لن تصوت لصالح بايدن على الإطلاق، واصفة طريقة تعامل بايدن مع القضية الفلسطينية بأنها “القشة الأخيرة” التي قصمت ظهر البعير.
أما لينا، وهي مسيحية أمريكية من أصل فلسطيني تبلغ من العمر 43 عامًا وتعمل في واشنطن العاصمة، فهي متمسكة بقرارها بالتصويت لطرف ثالث، قائلة: “لقد قمت بالتصويت لحزب ثالث في الانتخابات الماضية، وأنا أكثر حماسًا للتصويت لحزب ثالث هذه المرة، لن يسمح لي ضميري بالتصويت لأي مرشح لا يرى إنسانيتي أو إنسانية شعبي”، والأمر لها لا يتعلق بفلسطين فحسب، بل يتعلق أيضًا بحقوق الإنسان، تقول: “لا أستطيع التصويت لشخص يتسبب في مثل هذه المعاناة للبشر، لا يهمني من أين أتى، لقد بدأ الآن وقت تغيير المسار ومحاسبة الناس”.
من وجهة نظر أندريا، فإن “الطرف الثالث يمنح الناس الفرصة لتغيير الوضع الراهن، حيث يمكننا أن نضع في مناصبهم أشخاصًا يمثلون قيمنا بالفعل”.
تزداد فرصة هذا الطرف الثالث يوماً بعد يوم، فقد أظهر استطلاع حديث أجراه مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية “كير” أن 80% من الناخبين المسلمين في ميشيغان سوف يؤيدون مرشح حزب ثالث.
عندما تفاخر ترامب بأنه قادر على إطلاق النار على شخص ما دون خسارة الناخبين في عام 2016، أصيب الليبراليون بالرعب آنذاك، وعندما أصبح بايدن رئيساً عمل بشكل مباشر على تمكين وتسهيل قتل أكثر من 30 ألف فلسطيني، فكيف يتوقع من الناس التصويت له؟!
يقول المحامي حسن شبلي البالغ من العمر 38 عاماً، وهو ديمقراطي مسجل وجزء من حملة “غير ملتزم” بأن “دماء الأطفال خط أحمر بالنسبة لنا، لن نصوت لمرشحي الإبادة الجماعية، من الضروري أن نخرج ونصوت للمرشحين المناهضين للإبادة الجماعية على مستوى الكونغرس المحلي أيضًا، فعدم التصويت ليس هو الحل، بل التصويت من أجل تغييرات نحتاجها.”
لن تتوقف الفاشية في أمريكا عن طريق التصويت لصالح مرتكبي الإبادة الجماعية، فالعنف الذي نرتكبه في الخارج مرتبط بمصيرنا في داخل الولايات المتحدة أيضاً، فلن نستطيع إنقاذ أنفسنا من عنف الفاشية العسكري الذي تجيزه الدولة من خلال الإدلاء بأصوات تمكن العنف العسكري الذي تجيزه الدولة على مستوى العالم!
يعد التصويت لطرف ثالث هو الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تغيير المسار، فقد تم تجاهل دعواتنا لوقف المذبحة لمدة 5 أشهر حتى الآن، فما فائدة الانتخابات في المقام الأول إذا كان المسؤولون المنتخبون لدينا يتجاهلوننا؟! نحن لسنا مدينين لبايدن أو أي شخص آخر بأصواتنا، لكننا مدينون للإنسانية ولأنفسنا بالتوقف عن التصويت لصالح الشر.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)