نوبل للسلام… بوابة واشنطن إلى حرب جديدة في فنزويلا

بقلم حميد دباشي

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بعد وقت قصير من منح المعارِضة الفنزويلية المؤيدة للولايات المتحدة ودولة الاحتلال، ماريا كورينا ماتشادو، جائزة نوبل للسلام في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصعيد جرأتها في شنّ عدوان عسكري سرّي وعلني ضد فنزويلا.

ففي غضون أيام قليلة، أصدر ترامب أوامره لوكالة الاستخبارات المركزية بالانخراط في عمليات سرية داخل فنزويلا، وبعد ذلك بأسابيع، أشارت تقارير إلى أن سفنًا حربية أمريكية قد نُشرت بالفعل في البحر الكاريبي بالقرب من السواحل الفنزويلية.

وبحلول 13 نوفمبر/تشرين الثاني، كان ترامب قد تلقّى إحاطات كاملة حول الخيارات العسكرية المتاحة، ومؤخرًا، جددت الولايات المتحدة مساعيها لإسقاط النظام فاختلقت تسمية “كارتل دي لوس سوليس” المزعوم ووضعته على قوائم “الإرهاب”، زاعمة أن قيادة العصابة تضم مسؤولين حكوميين كبارًا في كاراكاس.

ثم أرسلت حاملة طائرات إلى المنطقة، وأعلنت “مرحلة جديدة” من العمليات ضد حكومة فنزويلا، شملت تنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القانون، فهل كان كل ذلك مجرد صدفة؟ ربما، وربما لا.

فالحكومة الفنزويلية الحالية، التي يقودها الرئيس نيكولاس مادورو منذ عام 2013، لطالما تصدّت للنزعات الإمبريالية الأمريكية الساعية للسيطرة على الثروات الطبيعية الهائلة للبلاد، كما أنها أدانت التدخلات الأمريكية في المنطقة، ونددت بإبادة دولة الاحتلال في غزة، واصطفت مع الجبهة العالمية المناهضة للعسكرة الغربية.

والآن، تأمّل الشخص الذي اختارت لجنة نوبل تكريمه، قد يفترض بعضهم أن سياسياً يدافع عن الفاشية الأوروبية والصهيونية الإبادية لا يمكن أن يكون خيارًا مقبولًا لدى لجنة نوبل النرويجية لجائزة يُفترض أنها للسلام، خصوصًا أن ترامب نفسه، المرشح المفضّل لدى رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، كان يسعى للحصول على الجائزة بوصفه أحد كبار دعاة الكراهية وإشعال الحروب.

لكن مثل هذا الافتراض خاطئ تمامًا، فذلك هو بالضبط ما فعلته اللجنة، إنظر إلى ماريا كورينا ماتشادو، إنها سياسية فنزويلية شديدة الالتزام بالفاشية الأوروبية، وصهيونية إبادية متطرفة، ومشجعة بحماسة لاستعادة ترامب هيمنته على أمريكا اللاتينية.

ومن أجل هذا “التجمع النادر من المؤهلات الرفيعة”، قرر شيوخ الأرستقراطيات الأوروبية أصحاب الامتيازات الاسكندنافية المتوارثة أن يمنحوها هذا التكريم العالمي.

فماتشادو ليست مجرد سياسية يمينية، بل ناشطة صاخبة في الدعاية لدولة الاحتلال، مؤيدة لمستوطنيها في حملاتهم الدموية ضد الفلسطينيين، وقائدة لحركة تطالب الولايات المتحدة ودولة الاحتلال بشنّ هجوم على وطنها ونهب موارده، وهي، على ما يُقال، معروفة كذلك بعدائها الشرس للإسلام كما هو حال غالبية الصهاينة ذوي التوجهات الإبادية

والمشكلة في منح “نوبل” لمثل هذه الشخصيات المعارضة المزعومة، هي أنهم يفقدون فورًا وبهذا التكريم ذاته شرعيتهم داخل مجتمعاتهم.

وقد ظهر ذلك بوضوح لدى حالتين إيرانيتين بارزتين هما المحامية شيرين عبادي والناشطة نرجس محمدي، اللتين كانتا قبل نيل الجائزة صوتين مؤثرين وقوتين فاعلتين من أجل التغيير، قبل أن تتحولا بعد التكريم إلى منصّات تخدم خطاب القوى الإمبريالية الأكثر رجعية ضد وطنهما.

فأي “قوة للخير” يمكن أن تعين هذه الجائزة ماتشادو؟ وهذا لا يعني بالطبع أن الأنظمة من روسيا إلى الصين إلى إيران إلى فنزويلا هي هدايا إلهية للبشرية، بالطبع لا، فهي تمارس الفساد والاستبداد وتنتج كوارثها الخاصة، لكن السؤال: ما الجدوى من هذه الجوائز سوى تشويه سمعة المكرَّمين وتحويلهم إلى أدوات بيد الغرب؟

بأي سلطة؟

يثير قرار لجنة نوبل بتكريم ماريا كورينا ماتشادو أسئلة أعمق بكثير ولا تتعلق فقط بما يسمى “جائزة نوبل للسلام”.

فقد سبق أن مُنحت الجائزة لمجرمي حرب مثل هنري كيسنجر، ولم تُمنح في المقابل لرموز ثورية عالمية لا عنفية مثل المهاتما غاندي، إنها جائزة فقدت مصداقيتها قبل زمن طويل، حتى قبل أن تتحوّل رسميًا إلى أداة في خدمة الإمبريالية والعسكرة الأمريكية.

ولفهم هذا الانحدار، لا بد من النظر أبعد من فضيحة اللجنة اليوم، والذهاب إلى تاريخ هذه الجائزة ذاتها، لطرح سؤال أكبر: هل ينبغي للعالم بعد الآن أن يعطي أدنى اهتمام لقراراتها؟ وهي قرارات لا تعكس ما هو الأفضل، بل وفي كثير من الأحيان من هو الأكثر انحطاطًا على كوكبنا الهش.

فجائزة نوبل، في معظم حقولها، ليست سوى اعتراف تافه بل فاضح أحيانًا يمنح مجموعة أوروبية صغيرة شعورًا واهمًا بأنها ما تزال محور العالم، والحقيقة أنها ليست كذلك، وقد حان الوقت للكفّ عن التظاهر بأنها كذلك، فقط لنتعرّض في كل مرة للخيبة ذاتها.

إن مشهد نوبل بأكمله جزء من عملية تخليق مصطنعة لهالة أخلاقية وعلمية لأوروبا، وهي هالة تفتقر إليها بشكل قاطع، فمن قرر وبأي سلطة أن يخبر العالمَ كلهَ بكيفية الحكم على العلوم والأفكار وحقوق الإنسان؟ من منح تلك النخبة الأوروبية العجوز صلاحية تحديد ما يستحق التكريم ومن لا يستحق؟ الجواب: لا أحد، وهم ليسوا مؤهلين أصلًا.

ولا ينبغي لأحد من الأساس أن يمنح تلك النخبة الأوروبية وزنًا أخلاقيًا أو فكريًا، فأحكامهم لا تعدو كونها تعبيرًا عن وهم عنصري متفوق متمركز حول الذات، يرى أوروبا مركز الكون.

أما الجهات التي تقف خلف هذه الجوائز فهي:

–   الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم (فيزياء، كيمياء، اقتصاد).

–   معهد كارولينسكا (في الطب والفيسيولوجيا).

–   الأكاديمية السويدية (في الأدب).

–   لجنة نوبل النرويجية (في السلام).

وهي كلها تبدو مؤسسات رسمية مرموقة، لكن سجلّها الطويل من القرارات الفاضحة أزال عنها أي شرعية.

–   عام 1918، منحت جائزة نوبل في الكيمياء لفريتز هابر، الذي اشتهر بابتكار الغازات السامة.

–   عام 1926، منحت جائزة الطب للطبيب الدنماركي يوهانس فيبيغر، الذي ادّعى اكتشاف نوع من السرطان اتضح لاحقًا أنه لم يكن موجودًا أصلًا.

–   عام 1949، منحت الجائزة ذاتها لأنطونيو إيغاز مونيز لاختراع عملية فصل الفص الجبهي (اللوبوتومي) واحدة من أبشع الممارسات الطبية في القرن العشرين.

–   عام 2008، مُنحت جائزة نوبل في الطب لهارالد تسور هاوزن عن اكتشاف يرتبط بعقار تموّله شركة “أسترازينيكا”، بينما كانت لجنة الجائزة تضم عضوين من أسترازينيكا نفسها!

والقائمة تمضي بلا نهاية، فهل كان من المستغرب، حين منحوا جائزة الأدب لجان بول سارتر، أن يرفضها تمامًا؟ لننظر إلى أصل هذه الجوائز.

إنها تستند إلى وصية ألفريد نوبل، الذي توفي عام 1896، وهو الذي كان قد أُصيب بصدمة عندما تمت الإشارة له في نعي شقيقه الذي مات عام 1888 بوصفه “تاجر الموت” بسبب اختراعاته، وهو ما دفعه لابتكار إرث أكثر قبولًا.

لكن ما هو إرثه الحقيقي؟ لقد جمع ثروته من اختراعات مثل الديناميت، باختصار: لقد تم خداعنا جميعًا.

هدم الفكرة

على العالم أن يهدم فكرة “جائزة نوبل” من أساسها، فهي فقدت معناها منذ زمن طويل، وصارت اختياراتها في ميادين الأدب والسلام تحديدًا ضربًا من التفاهة والعبث.

إن جائزة نوبل هي مؤسسة أوروبية تخدم الهيمنة الغربية على العالم بينما تتظاهر بأنها تمثل “قيمة كونية”، وهذا الادعاء يجب أن يُرفض بالكامل.

تأمّل العمالقة الذين لم تعترف بهم يومًا: ليو تولستوي، جورج أورويل، جيمس جويس، أنطون تشيخوف، هنريك إبسن، ثم انظر إلى من كرّمتهم فعلًا: مناحيم بيغن، مجرم الحرب في دولة الاحتلال والمسؤول عن مجزرة دير ياسين؛ وآونغ سان سو كي، المعروفة بعدائها الصريح للمسلمين.

لكن المشكلة لا تكمن فقط في هذا “الطابور المشبوه” من الأسماء، بل في العطب البنيوي العميق الذي يلفّ جميع المؤسسات الأوروبية التي تتظاهر بامتلاك صلاحية الحكم على العالم.

يجب أن تُعزل هذه المؤسسات القديمة، البالية، وتُهجر بالكامل كمعيار لأي شيء حتى في ميادين العلوم والتكنولوجيا التي تتباهى بالاعتراف بها، وهي ذات العلوم التي أوصلتنا اليوم إلى حافة الانقراض تحت وطأة الذكاء الاصطناعي القادر على التحكم بمصير البشر.

على العالم أن يتحرر من هذه الجوائز الفارغة ليحدث تحوّل جذري في كيفية تعامل الإنسانية مع الكوارث التي طالما احتفت بها “نوبل” وكافأت صُنّاعها بدلًا من مساءلتهم.

لا بديل عن “نوبل”… ولا ضرورة له

لا يوجد بديل مطلوب أو مفيد، لا جائزة تُطلق في مصر، ولا في الهند، ولا في الصين، ولا في إيران، ولا في المكسيك.

لقد أصبحت البشرية كلها مثل ذلك الأسطول الصغير من الأرواح الشجاعة التي تواجه البحر والموت، واقعة تحت رحمة البلطجية الأوروبيين الذين يحكمون دولة الاحتلال بوصفها ثكنة استعمارية مسلحة.

وليس هناك ما يستحق الاحتفاء أو الجوائز أو التكريم، لا شيء، انظر إلى غزة: هذا هو “مجموع” إنسانيتنا اليوم، هذه خلاصة علمها وتقنياتها، إنسانيتها وادعاءاتها بالسلام، فما الذي يمكن أن يُكرّم أو يُحتفى به؟ لا شيء.

نعم، أوقفوا هذا العرض القبليّ الأوروبي السخيف، فأي مؤسسة كـ “لجنة نوبل النرويجية” تمنح جائزة للسلام بينما تتجاهل هذه الحقائق، هي فعلاً وفية لاسم مؤسسها ولإرثه كتاجر للموت.

وبالتالي، فهي شأن أوروبي محض، ولا يوجد سبب لبقية العالم الواقع تحت بطش الهمجية الغربية المتجسدة اليوم في دولة الاحتلال لأن يأخذ قراراتها على محمل الجد، سواء كانت في “السلام” أو في “العلم”.

إن مشهد نوبل بأكمله ليس سوى ستار علمي وثقافي وإنساني يغطي استمرار نظام عالمي غارق في الوحشية، ستار يشكّك في صلاحية الآلة التي تتيح لنوبل منح أي جائزة لأي شخص داخل هذا النظام أصلًا.

العالم غارق في أزمة أخلاقية ووجودية عميقة، وجائزة نوبل ليست علاجًا لهذه الأزمة، إنها واحدة من أعراضها الأكثر وضوحًا.

فلنكفّ إذن عن منح الجوائز لبعضنا البعض، ولنمنح أنفسنا فرصة للبكاء على كل الأرواح البريئة التي فُقدت في غزة، وفي السودان، وفي غيرهما، بينما تتسع دائرة العسكرة الغربية الآن لتطال فنزويلا.

لا أحد يملك سلطة أخلاقية لتكريم أحد قبل أن ننتهي من الحداد، وقبل أن نعيد التفكير جذريًا فيما الذي نفعله على هذا الكوكب.

 للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا

مقالات ذات صلة