نوتردام مثالاً… كيف ساهم الحرفيون المسلمون في بناء الكاتدرائيات الأوروبية العظيمة

بقلم ديانا دارك

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

“مرة واحدة فقط خلال القرن الواحد تستضيف دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية، ومرة واحدة فقط في الألفية تعيد بناء كاتدرائية”، هكذا أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه بمناسبة العام الجديد 2024.

في الثامن من ديسمبر/كانون الأول، ستتجه كل الأنظار مرة أخرى إلى المعلم الأيقوني في فرنسا، نوتردام دي باريس، حين يعاد فتح بوابتها للجمهور رسمياً بعد حريق أبريل/نيسان 2019 الذي دمر الكاتدرائية تقريباً.

فكيف نجح الفرنسيون في إكمال المهمة الكبرى التي بدت وكأنها مستحيلة في الوقت المحدد وفي حدود الميزانية في غضون السنوات الخمس التي وعد بها ماكرون لأول مرة في تلك الليلة المشؤومة في الخامس عشر من أبريل/نيسان؟

الإجابة هي نفسها كما كانت طوال التاريخ، المال والقيادة ضروريان، لكن أهم ما في أي مشروع بناء مرموق على الإطلاق هو جودة العمالة، حيث يعمل أمهر العمال بسرعة وينتجون أجود المخرجات، ولا يمكن للحرفيين المتوسطين، بغض النظر عن مقدار الوقت الممنوح لهم، أن يقدموا سوى نتائج متوسطة.

في عملية إعادة بناء كاتدرائية نوتردام، بذلت القيادة عناية كبيرة في البحث عن أفضل الحرفيين على الإطلاق، أينما كانوا، فجاء من بين 250 شركة ومئات المهندسين والبنائين والنجارين والمتخصصين في الزجاج الملون وغيرهم من المهنيين الذين تم تجنيدهم للعمل في إعادة البناء، كان هناك حرفيون من جميع أنحاء العالم.

على سبيل المثال، حضر النجارون الرئيسيون الذين يعملون على إعادة إنشاء العوارض الخشبية لسقف الكاتدرائية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك والبوسنة والهند، فضلاً عن فرنسا.

وكان من بين هؤلاء مسيحيون ويهود وهندوس ومسلمون، وقد تم اختيارهم جميعًا بسبب مستواهم العالي من المهارة في استخدام أساليب الحرف اليدوية التقليدية في العصور الوسطى، وهي المهارات التي تراجعت الآن تحت وطأة الدقة الحاسوبية والإنتاج الضخم والتقدم المستمر للتكنولوجيا الصناعية.

فهم عميق للهندسة

اعتلت الكاتدرائية العظيمة في أوروبا قمة هرم العلوم عندما تم بناؤها قبل أكثر من ألف عام، وكان حجمها وارتفاعها وتعقيدها الشديد تجسيدًا لأحدث تكنولوجيا الهندسة في ذلك الوقت، ولم يسبق أن شهدنا في القارة الأوروبية ما يماثلها إلا في إسبانيا والبرتغال الحديثتين، حيث حكم المسلمون العرب، الذين يعود أصلهم إلى سوريا، لمدة 800 عام تقريبًا، وكذلك في صقلية، حيث حكم المسلمون العرب القادمون من مصر وشمال إفريقيا، لمدة تزيد على 250 عامًا.

وفي كل من خلافة قرطبة وإمارة صقلية، كان المهندسون والحرفيون المسلمون العرب يهيمنون على عالم البناء، وهم رجال يعرفون القراءة والكتابة والحساب، على عكس نظرائهم المسيحيين الأوروبيين.

تمتع هؤلاء الرجال بفهم عميق للهندسة وقوة الضغط لمواد البناء وتقنيات الأقواس، وهي المعارف التي كانت منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي منذ القرنين الثامن والتاسع عندما كان مركز بيت الحكمة العظيم للتعلم في بغداد في ذروته

وليس من قبيل المصادفة أن تظهر أولى الهياكل الحجرية المقببة في المسيحية اللاتينية بعد عشر سنوات فقط من سقوط طليطلة، حيث لا تزال قبة مسجد باب المردوم المقببة المضلعة التي تعود إلى القرن العاشر، والتي أصبحت اليوم كنيسة كريستو دي لا لوز، قائمة ويمكن زيارتها.

وعلى نحو مماثل، في بيزا، حيث لم تكن هناك تقاليد بناء محلية سابقة أو مدرسة معمارية، ظهرت كاتدرائية بيزا (1064) ثم برج بيزا المائل فجأة على الأراضي الإيطالية بعد فترة وجيزة من الحملات العسكرية الناجحة التي شنها البيزيون ضد العرب في صقلية.

كانت قبة كاتدرائية بيزا الأصلية مدعومة بحواف على الطراز الإسلامي ونوافذ مدببة رفيعة، بيد أن الإعجاز الهندسي للبرج كان يتطلب معرفة هندسية متقدمة، فالميلان الشهير هو نتيجة للهبوط، وليس البناء الخاطئ.

المعرفة الهندسية المتقدمة

تتكشف المزيد من الأدلة على مشاركة العرب في بناء الكنائس من خلال الأرقام العربية، بأشكالها المميزة المائلة، المنحوتة كعلامات تجميع، والتي تم العثور عليها بالصدفة في أخشاب السقف في كاتدرائية سالزبوري (1220) أثناء دراسة التأريخ الشجري التي ترعاها هيئة التراث الإنجليزي، وظهرت الأرقام العربية أيضًا في اكتشاف عرضي كعلامات على المنحوتات الحجرية في الواجهة الغربية لكاتدرائية ويلز الشهيرة (1157).

في ذلك الوقت، لم يكن الحرفيون الإنجليز قادرين إلا على رسم الخطوط المستقيمة البسيطة للأرقام الرومانية، ولم تدخل الأرقام العربية الاستخدام العام في بريطانيا حتى بعد عدة قرون في القرن السادس عشر، فقد كان النجارون والبناؤون الذين يستخدمونها في وقت مبكر من القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الأجانب المتعلمين تعليماً عالياً، الذين جلبهم الأساقفة ورؤساء الأديرة الأثرياء الحريصون على رعاية أعلى مستوى من البناء يمكن شراؤه بالمال.

وفي كاتدرائية ويلز، توقف البناء بعد وفاة الأسقف، حيث تم تحويل الأموال التي كانت مخصصة للبناء لدفع تكاليف التقاضي الضخمة بين المطالبين المتنافسين على أسقفيته في قضية لدى المحكمة البابوية في روما، عند ذلك، لم يعد البناؤون يتقاضون أجورهم، فقاموا ببساطة بوضع علامات على منحوتاتهم النهائية بأرقام عربية للإشارة إلى أماكنها الصحيحة على الجبهة الغربية، ثم انتقلوا إلى مهمتهم التالية.

وبعد 15 عاماً، عندما تم حل النزاع أخيرًا، كان البناؤون المحليون هم الوحيدون الحاضرون لإكمال المنحوتات، وبالنسبة لهم، كانت الأرقام العربية مجرد رموز هيروغليفية غير مفهومة، لذلك وضعوها في أماكن خاطئة، حتى أنهم قاموا بتعديل الأماكن لتناسبها، حيث أثبت الباحثون في أحدث عمليات الترميم الآن أنه لو تم وضع المنحوتات وفقًا لتسلسلها العربي الأصلي، فإنها كانت ستلائم تمامًا.

مجتمع متطور

أما العلامات التي تركها البناؤون على الجدار الخلفي لمسجد قرطبة فهي في الأغلب أسماء عربية مكتوبة بخط عربي، مما يدل على أن الحرفيين في القرن العاشر كانوا يفوقون بعلمهم نظراءهم المسيحيين الأوروبيين بقرون.

لقد كانوا نتاج مجتمع متطور حيث كان الحاكم يشجع التعليم الذي كان مجانياً تقدمه مدارس المساجد للجميع، أما في أوروبا المسيحية، فكان رجال الدين وقِلة من الطبقات العليا فقط هم القادرون على القراءة والكتابة.

وقد تكون الأسماء في حد ذاتها مضللة، ففي بلدة كورليوني داخل باليرمو الإيطالية على سبيل المثال، كان هناك مسيحيون يُدعون محمد وعبد الله وأحمد وعلي، وكانوا يعيشون جنباً إلى جنب مع مسلمين يحملون أسماء يونانية يمكن اعتبارهم مسيحيين صقليين.

بل إن سجلات التبرعات المكتوبة باللغة اليونانية كانت خلال الفترة النورماندية في صقلية تستخدم عبارات مثل “روجر الذي كان يُدعى ذات يوم أحمد”، مما يُظهر كيف قام المسلمون المحليون بتكييف أسمائهم لتتناسب بشكل أفضل مع البيئة الجديدة والسادة الجدد، تماماً كما قد يقوم العمال الأجانب الذين يصلون إلى بريطانيا اليوم بتكييف أسمائهم أو منحهم ألقاباً يسهل تذكرها ونطقها، وقد فعل اليهود نفس الشيء في جميع أنحاء أوروبا وأميركا لقرون.

كان اسم ويليام اوف سينس من أوائل أسماء الحرفيين التي أخذت تظهر لأول مرة في السجلات اللاتينية، ويُعتقد أن سينس عمل في كاتدرائية نوتردام، وكان موضع إشادة كبيرة لأنه أدخل فن بناء الأقبية ذات الستة أجزاء إلى إنجلترا في كاتدرائية كانتربري في الفترة 1174-1177، وبكل الأحوال لا يمكننا أن نفترض أنه كان مسيحياً، ربما كان مسلماً، أو مستعرباً (مسيحياً مستعرباً)، فمن أجل أن يكون لديه المعرفة الرياضية والهندسية اللازمة لبناء الأقبية المضلعة في ذلك الوقت، لابد أن يكون قد تلقى تعليمه في التقاليد الإسلامية.

فخر عظيم

في عملية إعادة بناء كاتدرائية نوتردام الأخيرة، ظهرت شركة نجارة تقليدية تسمى Atelier de la Grande Oye، أسسها المسلم الفرنسي بول زاند، بين الشركات التي تم اختيارها لبناء الإطارات الخشبية التي تدعم السقف الجديد.

وفي رسالة بريد إلكتروني لي، أعرب زاند عن فخره الكبير بهذا الشرف، وهو فخر من المرجح أن يكون الحرفيون المسلمون المتميزون الذين عملوا في المباني المسيحية في العصور الوسطى قد شعروا فيه بذات القدر.

لقد كتب زاند: “كمسلمين فرنسيين، نحن فخورون وسعداء للغاية لمشاركة حرفنا الجميلة ومعتقداتنا، والتي هي بالطبع منسجمة تماماً، تغذي بعضنا البعض، كنا نصلي طوال فترة العمل، ليبارك الله لنا بالأشجار وبحرفتنا وصداقتنا، وصلينا لله الذي وهبنا فرصة أن نكون جزءاً من المشروع، لندعو لكل الذين يعملون معنا للاحتفال بجمال وعظمة خالقنا، بعضنا مسلمون ملتزمون يعلنون إيمانهم وفرحهم بإعادة بناء كاتدرائية”.

ومن عجيب المفارقات أن نجد في مختلف أنحاء أوروبا، في وقت كتابة هذه السطور، دعوات متصاعدة من جانب أحزاب اليمين المتطرف إلى تطهير بلادهم من المهاجرين، وخاصة المسلمين، من أجل إنقاذ “نقاء” عرقهم وثقافتهم، من الواضح أنهم لا يدركون أن حضارتهم ذاتها بنيت على المهارات المتفوقة للمهاجرين.

لقد أظهرت كل الأدلة أنه ليس من الضروري أن يكون المرء مسيحياً من أجل خلق فن مسيحي، تماماً كما يستطيع الناس من جميع الأديان ومن لا دين لهم أن يستمتعوا ويقدروا موسيقى الكنيسة، وعمارة الكنيسة، والأنماط الزخرفية الإسلامية، وعمارة المساجد.

ويمكن للمسلمين أن يستخدموا خبراتهم في الكنائس، تماماً كما يستطيع المسيحيون أن يبنوا المساجد، وقد فعلوا ذلك بالفعل، على مر التاريخ، ولم يكن الاعتبار المهم هو دينهم، بل مهارتهم.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة