بقلم هالة جابر
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بعد ساعات قليلة فقط من جلوس لبنان ودولة الاحتلال وجهاً لوجه في الناقورة الأسبوع الماضي، في أول محادثات مباشرة بين الطرفين منذ عام 1983، عادت طائرات دولة الاحتلال الحربية لتحلّق في الأجواء، وتشنّ غاراتها على بلدات واسعة في جنوب لبنان.
في قرى وبلدات محرونة، وجباع، والمجادل، برعشيت، سُوّيت مبانٍ سكنية بالأرض وتحولت إلى رماد، وفرّت عائلات بأكملها في اللحظات الأخيرة، فيما التهمت النيران منازل كانت ماثلة لأجيال عديدة.
لم تقع انفجارات ثانوية، ولم تكن هناك مستودعات أسلحة، ولا مقاتلون، بل مدنيون فقط، قُصفوا مرة أخرى تحت الذريعة المكرّرة ذاتها: “بنية تحتية لحزب الله”.
كان ذلك تذكيراً صارخاً، لمن لا يزال بحاجة إلى تذكير، بأن تعريف دولة الاحتلال لـ “وقف إطلاق النار” هو تعريف أحادي الجانب، تطلق النار متى تشاء، وتنتهك متى تشاء، من دون أن تتحمّل أي عواقب.
أما الجيش اللبناني، الذي لا يبعد أحد حواجزه سوى دقائق عن موقع القصف، فلم يكن بمقدوره أن يفعل شيئاً، وليس ذلك لأن جنوده يفتقرون إلى الشجاعة، فقد انتشروا في الجنوب على مدى عام كامل تحت تهديد دائم ومميت.
لقد أخلوا عائلات فيما كانت الطائرات المسيّرة تحوم فوق رؤوسهم، وواروا الثرى رفاقاً لهم قضوا وهم يرتدون الزي العسكري، لقد كانوا قريبين بما يكفي من محروْنة وجباع ليسمعوا هدير الطائرات ويشعروا بموجات الانفجار.
لكن لم يكن لدى الجيش ما يردّ به، لا أنظمة دفاع جوي، ولا صواريخ اعتراض، ولا رادارات قادرة على تعقّب طائرات من طراز F-35.
إن الجيش اللبناني عاجز بنيوياً عن حماية المدنيين الذين أقسم جنوده على الدفاع عنهم، ليس بسبب ضعف داخلي، بل لأن قوى دولية نافذة حرصت، على مدى عقود، على إبقائه عاجزاً.
انتهاكات متكررة
قبل عام، كتبتُ تحليلاً مفصلاً أوضحتُ فيه لماذا لا يستطيع الجيش اللبناني الدفاع عن البلاد، ليس لافتقاره إلى الشجاعة أو التماسك، بل لأنه حُرم بشكل منهجي من أدوات الدفاع الوطني، واليوم، ثبتت صحة كل نقطة وردت في ذلك التحليل، وبصورة قاسية ومتكررة.
فمنذ دخول ما يُسمّى “وقف إطلاق النار” حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ارتكبت دولة الاحتلال أكثر من 10 آلاف انتهاك للسيادة اللبنانية، من بينها أكثر من 7500 خرق جوي و2500 خرق بري، إضافة إلى انتهاكات بحرية متكررة، وعمليات اغتيال، وتدمير ممنهج.
وخلال الفترة الممتدة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ودعنا ما لا يقل عن 41 جندياً لبنانياً أثناء تأديتهم مهامهم الرسمية.
ولا تزال سبع نقاط حدودية لبنانية تحت الاحتلال، وفي بلدة يارون وحدها، جرى في الأشهر الأخيرة تطويق أكثر من 4000 متر مربع من الأراضي بجدران إسمنتية.
يطالب الجميع الجيش بحماية البلاد، لكن لا جيش في العالم يستطيع القيام بذلك عندما تعجز راداراته عن رصد الطائرات التي تنتهك أجواءه.
وتؤكد قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، التي تراقب خط وقف إطلاق النار منذ عقود، أن ممارسات دولة الاحتلال تشكّل خرقاً للقرار 1701، الإطار القانوني الأساسي الذي ينظم وقف إطلاق النار المبرم عام 2006 بينها وبين لبنان، لكن تل أبيب تتجاهله كلياً.
ولا يستطيع الجيش اللبناني إيقاف أي من هذه الانتهاكات، ليس لأنه يرفض ذلك، بل لأن لبنان ممنوع من امتلاك الوسائل اللازمة.
الجيش اللبناني ليس ضعيفاً بطبيعته، بل جرى إضعافه عمداً، فالجميع يطالب الجيش بحماية البلاد، لكن لا يمكن لأي جيش أن يفعل ذلك حين لا تستطيع راداراته رؤية الطائرات التي تنتهك أجواءه، وحين تكون مروحياته قديمة ومُعطّلة بسبب نقص قطع الغيار، وحين يفتقر إلى أنظمة دفاع جوي، بينما ينتشر جنوده على مدار الساعة تحت مراقبة طائرات مسيّرة معادية، من دون أي قدرة على إسقاطها.
ومنذ عام 2006، قدّمت الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة مليارات دولار دعماً للجيش اللبناني، لكن هذا الدعم اقتصر على أسلحة خفيفة، وآليات “هامفي”، وبنادق، ومعدات رؤية ليلية، وصيانة طائرات، وقد كان ذلك كافياً لمنع انهيار الجيش، لكنه لم يكن يوماً كافياً للدفاع عن لبنان.
وقد بلغت موازنة الدفاع اللبنانية حتى عام 2024 نحو 768 مليون دولار، ذهب معظمها إلى رواتب تآكلت بفعل الانهيار الاقتصادي، في المقابل، وصلت موازنة دفاع دولة الاحتلال إلى 36.9 مليار دولار، ويحتل الجيش اللبناني المرتبة 115 عالمياً من حيث القوة العسكرية، فيما تحتل دولة الاحتلال المرتبة 15.
إن دولة لا تملك قوة جوية فاعلة ولا أنظمة دفاع جوي، لا يمكنها حماية سمائها، هذا ليس سوء حظ، إنه سياسة.
هشاشة مُصمَّمة خارجياً
وضع اتفاق الطائف عام 1989، الذي صيغ إلى حدّ كبير تحت تأثير النفوذ الأمريكي، سقوفاً صارمة للقدرات العسكرية اللبنانية، بذريعة الحفاظ على ما يُسمّى “التفوّق العسكري النوعي” لدولة الاحتلال.
ففي عام 2008، عندما عرضت روسيا تزويد لبنان بطائرات حربية من طراز ميغ-29 مجاناً، سارعت الولايات المتحدة إلى عرقلة الصفقة.
وفي عامي 2010 و2019، تكرر الأمر حين عرضت إيران تزويد لبنان بأنظمة دفاع جوي، لكن بيروت تراجعت تحت وطأة تهديدات أمريكية مباشرة.
واليوم، لا يمتلك سلاح الجو اللبناني سوى ست طائرات من طراز A-29 سوبر توكانو، وهي مفيدة لأغراض المراقبة، لكنها عديمة الجدوى تماماً في مواجهة طائرات شبح متقدمة مثل F-35.
لبنان لا يفتقر بطبيعته إلى جيش وطني، بل يُحرم منه عمداً، ويعترف مسؤولو دولة الاحتلال بذلك علناً، إذ قال وزير التعليم يوآف كيش في مقابلة تلفزيونية: “لا فرق بين حزب الله ولبنان، لبنان سيُباد، سيتوقف عن الوجود”.
إذا كان هذا هو التهديد المعلن، فإن حرمان لبنان من وسائل الدفاع عن نفسه ليس موقفاً سلبياً أو عرضياً، بل هو جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية.
وفي هذا الفراغ، برز حزب الله، فقد نشأ رداً على اجتياح دولة الاحتلال للبنان عام 1982، وتحوّل مع الزمن إلى قوة عسكرية غير نظامية تفوق في حجمها وقدراتها جيوشاً وطنية عدة، وهو تنظيم إشكالي، مثير للانقسام، ذو ثقل سياسي كبير، ومتجذّر في البنية الطائفية المعقدة للبنان.
لكن لا محلل جاد يمكنه الادعاء بأن الدولة اللبنانية كانت ستحتفظ بأي وجود فعلي جنوب نهر الليطاني لولا حزب الله، هذه هي الحقيقة غير المريحة التي يتجنب كل موفد غربي الاعتراف بها.
ورغم ذلك، تواصل واشنطن مطالبة الجيش اللبناني بنزع سلاح حزب الله، إلا أن المبعوث الأمريكي توم باراك أقرّ صراحة بأن “دولة الاحتلال لا تستطيع تحقيق أهدافها عبر سحق حزب الله عسكرياً”، مضيفاً أنه “من المشكوك فيه أن يتمكن الجيش اللبناني من نزع سلاح حزب الله”.
بمعنى آخر، تدرك واشنطن أن هذا المطلب مستحيل التحقيق، لكنها تواصل الضغط في الاتجاه ذاته.
حتى الجيش المجهّز بالكامل لا يمكن أن يُؤمر من قبل دولة أجنبية بشن حرب على أبناء شعبه، ومع ذلك، لا تقدّم واشنطن للبنان أي ضمانات، فلو سلّم حزب الله سلاحه غداً، هل ستتوقف دولة الاحتلال عن انتهاك الأجواء اللبنانية، واحتلال الأراضي، وقصف البلدات، واغتيال المدنيين والجنود اللبنانيين؟ لا توجد أي ضمانات، ولا ضمانة واحدة.
إن موقف حزب الله، سواء اتُفِق معه أو اختُلِف، يقوم على منطق متماسك مفاده أنه عندما تنسحب دولة الاحتلال، وتتوقف الانتهاكات، ويصبح الجيش اللبناني قادراً على الدفاع عن البلاد، سيكون الحزب مستعداً للدخول في حوار وطني حول سلاحه.
أما واشنطن، فتطالب بعكس ذلك تماماً، نزع السلاح أولاً، وتحمل العواقب لاحقاً، وهذا ليس سيادة، إنه انهيار.
إسقاط القناع
في الأسبوع الماضي، أفادت القناة 14 التابعة لدولة الاحتلال بأن المبعوثة الأمريكية مورغان أورتاغوس، التي شاركت في رئاسة اجتماع الناقورة، حثّت دولة الاحتلال في فبراير/شباط الماضي على قصف مراسم تشييع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في مجمّع مدينة كميل شمعون الرياضية في بيروت، حيث كان مئات آلاف المدنيين حاضرين.
وقد درست دولة الاحتلال تنفيذ الضربة بالفعل، وكانت الطائرات الحربية قد أقلعت، والسبب الوحيد الذي حال دون وقوع المجزرة لم يكن ضبط النفس الأمريكي، بل حسابات دولة الاحتلال الخاصة.
أن يدعو مبعوث أمريكي إلى هجوم إعدام جماعي في عاصمة عربية، ثم يجلس لاحقاً إلى طاولة المفاوضات بوصفه “وسيطاً محايداً”، فذلك يلخّص طبيعة البيئة التي يُطلب فيها من الجيش اللبناني “استعادة السيادة”.
في الصيف الماضي، أكدت قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) بوضوح أن “الجيش اللبناني يحاول الوفاء بالتزاماته بموجب تفاهمات وقف إطلاق النار”، وفي أغسطس/آب، أعلنت الأمم المتحدة أن ولاية يونيفيل ستنتهي عام 2026، وقد قوبل هذا الإعلان بترحيب من دولة الاحتلال، فبرحيل يونيفيل، سيبقى عدد أقل من الشهود.
في المقابل، تُبلغ استخبارات الاحتلال الولايات المتحدة بأن حزب الله “قوي للغاية”، وأن الجيش اللبناني غير قادر على مواجهته، وأن “التصعيد قادم، ونحن من سيقرر توقيته”.
الحرب المقبلة كُتبت سطورها سلفاً، ومع ذلك، يواصل الجيش اللبناني انتشاره بثبات، عبر 200 نقطة جنوب نهر الليطاني، و29 حاجزاً ثابتاً، ودوريات تعمل على مدار الساعة، وقد صادَر 566 منصة إطلاق صواريخ، وعطّل 177 نفقاً، وأغلق 11 معبراً.
لقد نفّذ الجيش اللبناني كل ما طُلب منه، وما لا يستطيع فعله هو ما لم يُسمح له يوماً بفعله: الدفاع عن لبنان في وجه دولة الاحتلال.
لبنان اليوم عالق بين مطالب مستحيلة، أن ينزع سلاح عنصر الردع الوحيد لديه، لكنه يُطالَب بالحماية، أن يعتمد على الجيش، لكنه يُحرَم من السلاح، أن يثق بالدبلوماسية، لكنه يستيقظ على القصف في صباح اليوم التالي، أن يؤمن بالوساطة، فيما يقترح الوسطاء أنفسهم ضربات جماعية.
فلنقل ذلك بوضوح: لا تَلقوا اللوم على الجندي اللبناني الذي لا يملك صواريخ للدفاع عن سماء لا يستطيع حمايتها، وجّهوا اللوم إلى الحكومات، الأجنبية والمحلية، التي حرصت على أن يبقى الجيش بلا هذه الوسائل.
وإلى أن يُسمح للجيش اللبناني بالدفاع عن البلاد، سيبقى حزب الله، بالنسبة لكثير من اللبنانيين، خط الدفاع الأخير، لا لأن لبنان اختار هذه المعادلة، بل لأن هذه المعادلة فُرضت عليه عن سبق إصرار.
وإلى أن يتوقف العالم عن التعامل مع حياة اللبنانيين كقطع قابلة للتضحية على رقعة شطرنج جيوسياسية، سيواصل لبنان دفن ضحاياه تحت سماء لا يملك السيطرة عليها.
ملاحظة الكاتبة: هذا المقال امتداد لتحليل نشرته قبل عام، في وقت كان كثيرون لا يزالون يعتقدون أن الجيش اللبناني يحتاج فقط إلى “إرادة سياسية” كي يدافع عن البلاد، وقد أظهرت الأشهر الاثنا عشر الماضية، وبشكل مؤلم لا لبس فيه، أن الحقيقة أعمق وأكثر بنيوية، وأن هذا العجز صُنِع عن قصد.
لم تكن كتابة هذا النص سهلة، كتبتُ أجزاءً كبيرة منه وأنا أشاهد الجنوب يحترق مجدداً، فيما يُوارى الجنود الثرى بتكريم يستحقونه رغم الأدوات التي لم تُمنح لهم، وفيما يدفع المدنيون ثمن قرارات اتُّخذت بعيداً جداً عن حدود لبنان.
هدفي ليس الدفاع عن أي طرف، بل توثيق واقع يُجبر اللبنانيون على عيشه يومياً تحت سماء لا يسيطرون عليها.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)







