بقلم كريس دويل
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
“استغرق الأمر ثلاثة آلاف عام للوصول إلى هذه اللحظة”، هكذا أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال خطابه هذا الأسبوع في الكنيست التابع لدولة الاحتلال، وأضاف بنفس احتفالي: “إنه ليس فقط نهاية الحرب، بل نهاية عصر الإرهاب والموت، وبداية عصر الإيمان والأمل والله”.
عبارات وشعارات مكررة امتزجت فيها المبالغة بالمديح، لتبدو وكأنها مشهد من مسرحية دعائية أكثر منها خطاب سياسي، تحدّث ترامب عن “فجر جديد للشرق الأوسط”، وهو التعبير الذي استهلكه كل الرؤساء الأمريكيين تقريباً منذ عقود، وكأن الفجر لا يأتي أبداً.
لكن أحداً لم يسأله عن معنى “ثلاثة آلاف عام” لصراع لم يتجاوز المئة عام، في استدعاء مفرط لمقولة “الكراهية القديمة” التي يستخدمها الساسة لتبرير استمرار الاحتلال.
ترامب قال إن “الجميع سعداء”، غير أن الفلسطينيين الذين فقدوا كل شيء بالكاد يتذكرون ما تعنيه كلمة السعادة، ربما أرادهم أن يحتفلوا لأن خطته المعروفة باسم “مشروع الريفييرا”، التي كانت تتصور غزة بلا فلسطينيين ومليئة بالكازينوهات والفنادق الفاخرة، قد جُمّدت — مؤقتاً على الأقل.
احتفال فوق أنقاض الحقيقة
يُفترض أن يفرح الناجون من المجازر لأنهم لم يُطردوا بالكامل من أرضهم، لكن ما يجري هو تضليل عالمي ممنهج — “غسل للوعي الجماعي” كما يصفه الكاتب — بلغ مستوى الوباء السياسي والإعلامي، فبدلاً من التحدث عن كيفية البناء على هدنة هشة أوقفت الإبادة في غزة، تُغرق القيادات العالمية الفلسطينيين بخطابات جوفاء تتحدث عن “الانتصار والسلام” بينما يتواصل الاحتلال.
تسابق الزعماء على نسب الفضل لأنفسهم في “اتفاق سلام” لم يُستشر فيه ضحايا الحرب، ففي بريطانيا، تحوّل الموقف إلى مشهد من صراع سياسي داخلي: فزعيمة حزب المحافظين كيمي بادنوك قالت إن الحكومة البريطانية “لم يكن لها أي دور”، بينما ردّ رئيس الوزراء كير ستارمر بأن لندن لعبت “دوراً مؤثراً من وراء الكواليس”، لكن حتى لو كان ذلك صحيحاً، فالأجدر بالحكومة أن تشعر بالخجل لا الفخر.
مجلس السلام أم مجلس الولاء؟
بدا ما يُسمّى “مجلس السلام” وكأنه لجنة رمزية لتتويج ترامب وتوني بلير “عرّابي السلام”، غير أن الحقيقة أكثر مرارة: فترامب، كما سلفه، قدّم لدولة الاحتلال كل ما طلبته من أسلحة خلال الحرب، حتى قال مازحاً أمام الكنيست إن نتنياهو طلب “أسلحة لم أسمع بها من قبل”.
تلك الأسلحة قتلت الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، أما بلير، فلا يزال يلتزم الصمت المطبق حيال الجرائم في غزة، كما فعل سابقاً حين شغل منصب مبعوث الرباعية الدولية، وكأن الكارثة تتكرر بنفس الأسماء والوجوه.
قمة شرم الشيخ.. مجلس ولاء لترامب
أما قمة شرم الشيخ التي روّج لها ترامب كـ”قمة السلام”، فقد كانت أقرب إلى “مجلس مبايعة”، دعا إليها من يشاء من القادة ليصفقوا له بعد أن أبقاهم ينتظرونه ساعتين كاملتين، واحداً تلو الآخر، تقدموا لمصافحته في مشهد أقرب إلى الطقوس الإمبراطورية منه إلى مؤتمر دولي.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس دُعي في اللحظة الأخيرة — مجرد “إضافة بروتوكولية” بعدما كان يفترض أن يكون هو والوفد الفلسطيني في صدارة الحدث، أما وجود رئيس المجر فيكتور أوربان فبقي لغزاً غريباً، تماماً مثل حضور رئيس “فيفا” جياني إنفانتينو، الذي لا علاقة له بمستقبل غزة لا من قريب ولا من بعيد.
كل هؤلاء القادة أغرقوا ترامب بعبارات الثناء، بعضهم حتى حد الإحراج، ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن ترامب مارس ضغوطاً فعلية على نتنياهو لقبول اتفاق الهدنة، ودفع قادة المنطقة إلى التحرك، وهو ما فشل الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في فعله طوال عام كامل.
لكن خلف هذا الضجيج الدبلوماسي، يبقى السؤال: ماذا شعر الفلسطينيون وهم يرون من كان جزءاً من حرب الإبادة عليهم يتصدر مشهد “السلام”؟
وهم السلام وسط الركام
كيف رأى الفلسطينيون هذا المشهد الاحتفالي المفرط؟ فمعظم القادة الذين امتدحوا ترامب شاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب والإبادة ضد غزة، بينما اكتفى آخرون بالصمت المطبق ورفضوا حتى إدانة الجرائم. وبعيداً عن مسرحيات التصفيق والخطابات المنتشية، كانت الحقيقة في الشمال — بين أنقاض غزة — مختلفة تماماً: الفلسطينيون كانوا يواصلون البحث بأيديهم عن أحبّتهم تحت الركام.
لم يكن هناك “سلام شامل” كما رُوِّج، بل مجرد وقف إطلاق نار مؤقت يتضمن بنوداً غامضة لمراحل قادمة، وبينما تحدّث ترامب عن “إعادة الإعمار”، كانت مئات الآلاف من العائلات تمشي حفاة نحو الشمال في رحلة مليئة بالألم، تحاول الوصول إلى منازل لم يتبقّ منها سوى الرماد.
الأمهات والآباء كانوا يبحثون في الركام عن طعام يقي أطفالهم الجوع أو عن جرعة ماء ملوثة تسكت أنينهم للحظات. وسط هذا الجحيم، جاءت تصريحات ترامب بأن “الحرب انتهت”. لكنها لم تنتهِ، ولن تنتهي ما لم تُزال أسبابها الجذرية.
وقف إطلاق النار لا يعني سلاماً
“إن وقف إطلاق النار ليس نهاية الحرب”، فجذور الصراع باقية: دولة الاحتلال ما زالت تفرض احتلالها غير القانوني على غزة والضفة الغربية، وجيشها يواصل قتل الفلسطينيين، وإن كان بوتيرة أقل، الاتفاق لا يمثل “صفقة سلام شاملة”، بل مجرد هدنة هشة مفتقرة إلى أي وضوح في التفاصيل.
السلام الحقيقي يتطلّب اتفاقاً على قضايا جوهرية: الحدود، القدس، السيادة، اللاجئون، وحق تقرير المصير، وكل ذلك يستلزم الاعتراف بالشريك الفلسطيني لا تجاهله، لكن ما جرى هو تكرار خطأ 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حين خُلطت “الهدنة” بـ“النهاية”، فكان ذلك مقدمة لكارثة جديدة، فإن “السلام النسبي” الذي عاشته دولة الاحتلال لم يكن سلاماً للفلسطينيين، بل استمراراً لجحيم الاحتلال والحصار المتصاعد في غزة والضفة.
سلام زائف ومشهد مكرر
القمة الأخيرة أوحت بوجود زخم عالمي نحو “سلام شامل”، وكأن المنطقة على أبواب يوتوبيا جديدة، لكن الواقع أن الهدنة كانت مهددة بالانهيار منذ بدايتها، بعدما عجزت “حماس” عن العثور على بقايا بعض الرهائن تحت 61 مليون طن من الركام الذي خلّفته غارات الاحتلال.
كل زعيم قدّم روايته الخاصة لما سُمّي “اتفاق الهدنة”، فالبعض تحدث عن “حل الدولتين”، رغم أن الاتفاق لم يذكره أصلاً.
كما أن التاريخ الحديث لغزة يبرهن على هشاشة الوعود: بعد كل اتفاقات وقف النار في أعوام 2008، 2012، 2014، 2019، 2021، ويناير 2025، كان الخطاب نفسه يتكرر — “سنبحث عن الأسباب الجذرية” — ثم لا شيء يتغيّر.
غزة ظلت سجناً مفتوحاً، ودولة الاحتلال خرقت كل هدنة دون استثناء، فلهذا يجب على الزعماء ترك الخطابات الضخمة والنزول إلى الميدان، إلى “العمل الصعب والمتواصل الذي لا يلقى العناوين”، لأن الخطابات لا تعيد بناء وطن مدمّر.
المطلوب: عدالة حقيقية ومحاسبة شاملة
إن خطة ترامب ونتنياهو المكونة من 20 بنداً بحاجة إلى إعادة صياغة جذرية، فهي تُبقي الفلسطينيين مجرّد متفرجين على مستقبلهم، فالواجب هو إعادة تصميمها بحيث يكون الشعب الفلسطيني هو الفاعل المركزي في رسم مستقبله، لا موضوعاً للقرارات الخارجية.
كما يجب أن تُدرج غزة ضمن كيان فلسطيني موحّد يشمل الضفة الغربية، مع ضمان الإنهاء الكامل للاحتلال ونظام الفصل العنصري، لكن الأهم هو تحقيق العدالة والمساءلة كي لا تتكرر الإبادة، فمن دون محاسبة حقيقية لمرتكبي الجرائم، لن يكون هناك سلام، بل هدنة أخرى في انتظار الانفجار التالي.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)