بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يقول الشاعر الراحل محمود درويش: “أتدرون لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ لأنكم أعداؤنا، الاهتمام بنا نابع من الاهتمام بالمسألة اليهودية، الاهتمام فيكم، لا فينا، لقد جلبتم لنا الهزيمة والشهرة معًا”.
هذه الكلمات ليست مجرد تأملٍ أدبي، بل مرآةٌ يرى الفلسطينيون من خلالها أنفسهم وواقعهم العبثي القاسي، فهي تذكّرنا أن مصيرنا ليس استثناءً في عالمٍ يُعاقب فيه العرب على وجودهم، وأن ما نعيشه من دمارٍ وتجاهلٍ ليس سوى انعكاسٍ لنظامٍ عالميٍّ فقد إنسانيته، ولا تغدو التغطيات الإعلامية “الخاصة” سوى ستارٍ هشّ أمام الكارثة التي فُرضت علينا والعنف الذي صار قدرنا اليومي.
تأتي هذه الكلمات في لحظةٍ فارقة، تُعيننا على فهم تسارع الأحداث الأخيرة من الاعتراف الأممي المنتظر بالدولة الفلسطينية الذي بدا خطوة رمزية بلا معنى إلى القمة العاجلة التي جمعت قادةً عربًا ومسلمين بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
كل ذلك تلا اجتياح جيش الاحتلال لمدينة غزة وما تبعه من مجازر يومية أودت بحياة العشرات من الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته، وقف ترامب منتشيًا أمام الكنيست متباهيًا بأنه أنهى “ثلاثة آلاف عام من الألم والصراع”، متعهدًا بعصرٍ جديدٍ من “السلام والازدهار”.
عاصفة المشاعر الفلسطينية
تحولت الأخبار اليومية إلى عاصفةٍ من الانفعالات التي تهزّ الوجدان الفلسطيني عقب عامين من الإبادة الجماعية، تفاؤلٌ لحظيٌّ يليه يأس، أملٌ حذرٌ سرعان ما تبتلعه رهبة التجدد، تبعًا للعناوين ومصادرها.
فمن يصدّق رواية رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو يمكن أن يظن أن جيش الاحتلال حقق كل أهدافه، استعادة الأسرى، نزع سلاح غزة، إقصاء كل من حركة حماس والسلطة الفلسطينية عن “اليوم التالي”، والأهم إسقاط فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس.
لكن من ينظر إلى الواقع بعينٍ موضوعية سيرى أن الاحتلال فشل في هزيمة حماس، وأن عودة الأسرى لم تتحقق إلا باتفاقٍ فرض عليه، وأن العالم اليوم يرى الوجه الحقيقي لمجتمع الاحتلال، وأن عزلة دولة الاحتلال لن تنتهي بمجرد وقفٍ هشٍّ للنار.
هذه الفوضى ليست عرضًا جانبيًا، بل هي الغاية ذاتها، فهي تجسيدٌ دقيق لجوهر المرحلة “الترامبية”، رجل أعمالٍ عقاري يتعامل مع واحدةٍ من أكثر قضايا العالم تعقيدًا بوصفها صفقة عقارية، مستعينًا بصهره وصديقه لإبرام اتفاقٍ في منطقةٍ مثخنةٍ بالدم والدمار.
وكأي مشروعٍ عقاري، فإن العملية تجري على مراحل، مع تأجيل القضايا الجوهرية إلى النهاية، أما التصريحات العلنية التي نسمعها من الأطراف كافة، فهي ليست خاتمة، بل مواقف تفاوضية في صفقةٍ مفتوحة، ومع مرور الوقت، يتّضح أكثر فأكثر من الذي يجلس فعلاً على طاولة المفاوضات ومن تمّ استبعاده عمدًا.
وكأي تفاوضٍ سياسي، تكشف الأيام من يملك القرار ومن يُستبعد من المشهد، لك أن قمة شرم الشيخ الأخيرة كانت كاشفة لذلك بامتياز، إذ أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زار دولة الاحتلال أولًا، ثم القاهرة، لكن المثير أن لا الاحتلال ولا حركة حماس كانا ضمن المدعوين، وحده محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، حضر القمة في موقع المتفرّج لا الفاعل.
لقد بات واضحًا أن المفاوضات الحقيقية تجري اليوم بين الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية، لا بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، وهو واقعٌ مؤلم لكنه يكشف ميزان القوى الحقيقي في المنطقة.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الدول ضعيفة أمام واشنطن، غير أن الواقع أكثر تعقيدًا، فهي تمتلك أوراق ضغطٍ عديدة، لكنها ببساطة لا ترغب في استخدامها، وهنا يكمن السؤال الجوهري: هل تريد هذه الأنظمة فعلًا استخدام نفوذها لإنقاذ غزة؟ أم أن مصلحتها تكمن في استمرار الوضع الراهن؟
الحقيقة القاسية
في أزماتٍ أخرى مثل السودان وليبيا واليمن وسوريا ولبنان، تصرفت تلك الدول وفق مصالحها الضيقة لا وفق المبادئ أو القيم، فلماذا يُفترض أن تكون غزة استثناءً؟ لماذا يتوقع الفلسطينيون من أنظمةٍ ساهمت في تدمير نصف العالم العربي أن تتصرف بإنصافٍ تجاههم اليوم؟
لم يكن مفاجئًا إذًا أن تتسرب من البيت الأبيض تقارير عن تنسيقٍ أمنيٍّ عميق بين دولٍ عربية ودولة الاحتلال خلال الحرب على غزة، يشمل تبادل المعلومات حول القتال تحت الأرض وهو أحد أبرز التحديات التي واجهت جيش الاحتلال إضافةً إلى تعاونٍ استخباراتي في ملفات سوريا واليمن.
تُظهر هذه الوقائع حقيقةً مريرة مفادها أن “نجاحات” جيش الاحتلال ليست ثمرة عبقريةٍ عسكرية أو تفوقٍ استخباراتي كما تصوّرها الدعاية الصهيونية، بل نتيجة تحالفٍ إقليميٍّ غير معلن، تشترك فيه جيوش عربية مع جيش الاحتلال في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
تتنافس هذه الدول العربية والإسلامية على حد سواء على النفوذ والهيمنة، لكنها تجد في دولة الاحتلال شريكًا مفيدًا، يساعدها على ضرب خصومها أو موازنة القوى في صراعات المنطقة، وبهذا المنطق البارد، تتحول الدماء الفلسطينية إلى عملةٍ سياسية يتداولها اللاعبون الإقليميون في سوق المصالح.
ما بعد المجزرة
وبعد عامين من الإبادة المستمرة في غزة، تحت سماءٍ مثقلةٍ بالدخان والغموض، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مرآة محمود درويش مجددًا.
إننا، مثل شعوبٍ عربية أخرى، نواجه حقيقة النظام الإقليمي القاسي الذي لا يتورع عن سحق الأرواح في سبيل مكاسب اقتصادية أو توازنات سياسية، خصوصًا تلك المرتبطة بعلاقاته مع دولة الاحتلال.
وهنا يبرز سؤالٌ مؤلم: هل أصبحت انقساماتنا الداخلية أخطر على مصيرنا من حرب الإبادة نفسها؟ وماذا ينتظرنا إن استمرت النخب الفلسطينية في خلافاتها الصغيرة وصراعاتها على النفوذ، بينما يُساق شعبنا إلى كارثةٍ جديدة بأيدينا نحن هذه المرة؟
ربما كان درويش محقًا حين قال إن عدونا منحنا “الهزيمة والشهرة معًا”، لكن ما لم ندركه بعد هو أن الشهرة لم تعد سلاحًا ولا عزاءً، بل عبئًا ثقيلًا يُذكّرنا كل يوم بأن العالم يرى ولا يتحرك، يسمع ولا يستجيب، وأن الخلاص الحقيقي لن يولد إلا من وحدةٍ فلسطينيةٍ تستعيد المعنى والكرامة وسط عالمٍ فقد كليهما.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)