بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تحمل أحدث رسالة للناقد جوزيف فهيم من مهرجان برلين السينمائي (برليناله) نقداً لافتاً للهجوم الألماني على صانعي الأفلام المؤيدين لفلسطين والمخرجين الذين تجرأوا على قول الحقيقة الواضحة حول أسس الفصل العنصري في إسرائيل.
كتب فهيم في رسالته: ” لقد سعت العاصفة المناهضة للفلسطينيين التي قادها السياسيون الألمان والصحافة المحلية إلى محاكمة أي صوت يجرؤ على انتقاد إسرائيل، ما رأيته لم يكن مجرد عمل قبيح أو غير إنساني أو غير مهني، بل كان فاشياً بمعنى الكلمة.”
وفي وقت لاحق، قالت وزيرة الثقافة الألمانية كلوديا روث، إنها صفقت فقط للمخرج الإسرائيلي ولم تفعل ذلك لزميله الفلسطيني.
يتوافق هذا السلوك مع الموقف الألماني تجاه الإبادة الجماعية الحالية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين، فعندما اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل رسمياً في محكمة العدل الدولية في كانون الثاني/ يناير بارتكاب جرائم إبادة جماعية، سارعت ألمانيا إلى الدفاع عن إسرائيل وتبرئتها من الإدانة العالمية.
وسرعان ما ذكّر رئيس ناميبيا ألمانيا بتاريخ الإبادة الجماعية في أفريقيا، مشيراً إلى أنها ” لم تكفر بعد بشكل كامل عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية”، في إشارة إلى المذبحة التي راح ضحيتها أكثر من 70 ألفاً من شعب الهيريرو والناما بين عامي 1904 و1908، أي أن ما يجري في فلسطين هو مجرد صفحة من الكتاب الذي خطته ألمانيا منذ زمن طويل.
لقد واجه الإرث العنصري الألماني معضلة جديدة هذا الشهر تمثلت بشكوى قدمتها نيكاراغوا ضد ألمانيا إلى محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية من خلال تمويل حرب إسرائيل على غزة، نيكاراغوا قالت في ملف الشكوى أنه ” من خلال إرسال المعدات العسكرية ووقف تمويل وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين التي تقدم الدعم الأساسي للسكان المدنيين، فإن ألمانيا تسهل ارتكاب الإبادة الجماعية”.
وهنا يطرح السؤال عما هو القاسم المشترك بين جنوب أفريقيا وناميبيا ونيكاراغوا؟ إنه لا يتمثل فقط تضامن هذه الدول مع القضية الفلسطينية النبيلة، ولكن أيضاً تشترك الدول الثلاث في تاريخها الطويل من المعاناة من الغزو والسلب على أيدي الوحشية الاستعمارية الأوروبية.
تاريخ الاستعمار
ها هو العالم بأسره يضيق الخناق على الهمجية الأوروبية العنصرية التي طالما روّجت لنفسها على أنها “حضارة غربية”، ولفهم الحماس والنشاط الحاليين اللذين يؤيد بهما المسؤولون ووسائل الإعلام الألمانية الصهيونية، من الضروري أن نتذكر التاريخ الألماني الطويل للاستعمار والإمبريالية في أفريقيا.
ومن الجدير بالملاحظة أيضاً الدور الخاص الذي لعبه كبار الفلاسفة الألمان، مثل جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770-1831)، في العنصرية الجريئة والمبتذلة التي تشكل تجاهل ألمانيا الحالي للآداب الإنسانية، والتي تجلت بشكل أوضح في الصهيونية المتحمسة للفيلسوف الكبير يورغن هابرماس.
إننا بحاجة إلى إعادة النظر بشكل جدي في تاريخ الرايخ الألماني الثالث، كما وصفه المنظرون النازيون، حيث لم تكن أهوال ألمانيا النازية وذبح الملايين من البشر خلال الحرب العالمية الثانية مجرد استثناء في التاريخ الألماني، بل كان سجلاً من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ألمانيا في أفريقيا.
وفي هذا السياق، يجب علينا أن ننظر في الكم الهائل من الأبحاث التي تراكمت على مدى العقود القليلة الماضية حول الاستعمار والإمبريالية الألمانية، وبنفس القدر علينا أن نلاحظ كم العمل الأكاديمي حول العنصرية البنيوية المكتوبة في نسيج الفيلسوف الألماني الشاهق هيغل، لقد كانت العنصرية حاسمة بالنسبة للجهاز الفلسفي بأكمله لهيغل والعديد من الفلاسفة الألمان والأوروبيين الآخرين.
وفي مقالة نشرت عام 2017 بعنوان “الاستعمار والإمبريالية الألمانية من بسمارك إلى هتلر”، يلخص المؤرخ فولكر بيرغان الكم الهائل من المنح الدراسية التي قدمت على مدى العقود العديدة الماضية والتي “جمعت المؤرخين مع علماء السياسة والاجتماعيين وكذلك علماء الأدب والسينما والتاريخ لفضح أهوال الاستعمار الألماني في آسيا والمحيط الهادئ وأفريقيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين”.
يصف المقال تحولات نموذجية كبرى في دراسة الاستعمار والإمبريالية الألمانية، ويصف كذلك “الاستمرارية في التاريخ الألماني الحديث من بسمارك إلى هتلر”، كما قال مؤرخ آخر هو جون سي جي روهل، كما يقول مقال بيرغهان أيضاً أنه: “بعد أن تخلى هتلر عن معارضته السابقة للمستعمرات الخارجية، أمر الآن بتشكيل وزارة بميزانية قدرها 6.3 مليون مارك لعام 1940، تُدفع منها دورات تعليم اللغة السواحيلية للمسؤولين المستقبليين في أفريقيا.”
ويتعين على العالم خارج ألمانيا أن يولي اهتماماً أكبر بهذه الهيئة العلمية، حتى يتسنى له في المرة القادمة أن يدرك أصول التعصب الألماني للإبادة الجماعية للفلسطينيين.
في مقاربته الفلسفية للتاريخ، يلخص هيجل تاريخ العالم في أربع مراحل هي الشرقية واليونانية والرومانية والألمانية، وهو بالتالي يرى أن أفريقيا تفتقر إلى الأخلاق والسياسة والدين، وفي مقالة نشرت عام 1993 بعنوان “هيجل وأفريقيا”، يكشف المؤلف رونالد كويكيندال وجهة نظر هيجل العنيفة ذات المركزية الأوروبية للعالم، ويعكسها من خلال وضع أفريقيا في مركز نقده لهيجل.
بالنسبة لهيجل، أفريقيا هي “أرض الطفولة، التي تقع وراء نهار التاريخ الواعي بذاته، مغلفة بعباءة الليل المظلمة”، ويؤكد لقرائه الأوروبيين أن: “النقطة المميزة في حياة الزنوج هي حقيقة أن الوعي لم يصل بعد إلى تحقيق أي وجود موضوعي جوهري، وبالتالي فإن الشخص الأفريقي هو رجل طبيعي في حالته البرية الجامحة تماماً”، ترينا هذه المقاربة بوضوح أن هيغل هو المنظر الأيديولوجي الرئيسي للغزو الاستعماري الألماني والوحشية الإمبريالية عبر القارة بأكملها.
وفي مقال لافت آخر بعنوان “ملاحظات نقدية حول معاملة هيجل لأفريقيا”، يشرح المؤلف أوموتادي أديغبيندين العيوب الجوهرية في نظرة هيجل لأفريقيا، فهو يضع قارة بأكملها لم يعرف عنها سوى القليل خارج إطار التاريخ، ضمن مشروع يهدف إلى استبعاد أفريقيا من التاريخ العالمي، مما يؤدي إلى بعض الأطروحات الإشكالية مثل أطروحة هيجل حول العبودية، المرتبطة بمشكلة التكوين الطبقي ومفهومه عن الدولة.
وفي مقال أحدث بعنوان “استكشاف ميتافيزيقيا عنصرية هيجل” (2022)، يجادل دانييل جيمس وفرانز كنابيك بأن موقف هيغل من العرق “يُصنف بشكل مناسب على أنه عنصري، حيث يفترض وجود عجز عقلي فطري لدى بعض الأجناس، ويتحول إلى موقف عنصري”، أي أن “العنصرية من مذهب أنثروبولوجي إلى مذهب ميتافيزيقي من خلال الادعاء بأن تقسيم البشرية إلى أعراق ليس حقيقة مجردة، ولكنه “ضرورة عليا”.
وفي كتابها الرائد هيغل وهايتي والتاريخ العالمي، الذي نشر في عام 2009، توضح المنظرة النقدية سوزان باك مورس كيف كانت نضالات الشعوب في القارات المستعبدة والوحشية بمثابة مادة لفلسفة هيجل، وتتكهن بأن فكرة هيجل عن “السيد والعبد” ربما كانت في الواقع متجذرة في قراءته للثورة الهايتية.
فمن خلال ثورة العبيد في هايتي، اتضح لهيجل أخيراً أن العبودية ليست حالة من حالات الطبيعة، لكنه فشل في رؤيتها، ولابد أن يتحول تركيز تفكيرنا إلى الأبد بعيداً عن خيالات الفيلسوف الأوروبي التأملية ونحو الحقائق الفعلية من الكيفية التي رأى بها هيجل هايتي، إلى الكيفية التي يرى بها هابرماس غزة.
الأمر لا يتعلق بسلسلة من العنصرية العرضية أو السطحية أو “المؤسفة” في أعمال فيلسوف أوروبي لامع، ومع الكوارث التي تواصل إسرائيل إلحاقها بغزة على مرأى ومسمع من العالم، فقد تجاوزنا هذه المنعرجات الليبرالية، لقد كانت العنصرية حاسمة بالنسبة للجهاز الفلسفي بأكمله لهيجل والعديد من الفلاسفة الألمان والأوروبيين الآخرين، ويجب إسقاط النظام برمته، تماماً مثل تلك التماثيل العنصرية التي أسقطناها في أوروبا ومستعمراتها الاستيطانية حول العالم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)