هكذا تحوّلت وسائل الإعلام الفرنسية إلى بوق دعائي لدولة الاحتلال

بقلم آلان غابون
ترجمة وتحرير نجاح خاطر

مع اشتداد حصار التجويع والإبادة في غزة، ووسط الدمار الذي مازال يتكشف يومًا بعد يوم أمام العالم، تواصل وسائل الإعلام الفرنسية خلال الفترة بين مايو/أيار وأكتوبر/تشرين الأول إظهار اهتمامٍ ظلهري أكبر بمأساة الفلسطينيين.
غير أن هذا التحول اللحظي في النبرة لم يكن أكثر من محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، ولا يعكس أي تبدل حقيقي في خطاب المؤسّسات الإعلامية الكبرى، التي بقيت مخلصة لخطاب بنيامين نتنياهو ومؤسسات دولة الاحتلال، رغم أن المجازر كانت تبث على الهواء مباشرة.

هذا “الانحناء المؤقّت” أمام الحقيقة لم يُخفِ حقيقة أعمق وهي أن الإعلام الفرنسي السائد لم يتخلَّ يومًا عن موقعه كجدار حماية دعائي لدولة الاحتلال.

فالحيّز الإضافي المحدود الذي مُنح لمعاناة الفلسطينيين كان مشروطًا مراقَبًا ومحسوبًا بدقة، بينما بقيت البنية العميقة للتغطية واللغة المستخدمة والضيوف وزوايا التغطية متطابقة بالكامل مع رواية الاحتلال.

إنّ هذا الانحراف المؤقت ليس سوى استراحة قصيرة، فوسائل الإعلام عادت سريعًا إلى منظومة الأساليب التي اعتمدتها بشكل ممنهج لتخفيف وقع الحقائق أو إخفائها، ما سمح لها بالتمسّك بالرواية الرسمية لدولة الاحتلال دون أي تكلفة مهنية أو أخلاقية.

رواية موحّدة

تتكرر هذه الأنماط في جميع المنصات الإعلامية المؤثرة، بما في ذلك القنوات الخاصة والعامة، الإذاعات الكبرى، والصحف والمجلات الممتدة من الوسط اليساري إلى اليمين المتطرف.

وحتى عندما بدا أن بعض المؤسسات تعيد النظر في خطابها، كانت هذه اللحظة أشبه بردّ فعل تكتيكي لا يرقى إلى تغيير في الاتجاه.

إلا أن الاستثناء الوحيد كان صحيفة لومانيتيه الشيوعية، صغيرة الانتشار والتأثير، التي بقيت تغرّد خارج السرب الإعلامي السائد، وهو ما رسم مشهداً إعلامياً فرنسياً تهيمن عليه دعاية الاحتلال بشكل شبه مطلق.
التضليل عبر الإخفاء

ومع اتساع الإجماع الدولي حول توصيف ما يحدث في غزة بأنه جريمة إبادة، بدءًا من أبرز دارسي الهولوكوست وصولًا إلى لجان الأمم المتحدة، لجأت وسائل الإعلام الفرنسية إلى أسلوب مراوغ يتمثل في منح منابر واسعة لوجوه دعائية مقرّبة من دولة الاحتلال، مع تجاهل ممنهج للرواية الفلسطينية.

وظهرت على الشاشات شخصيات مثل كارولين فورست وجورج بنسوسان، وهما من أبرز من يروّجون لإنكار الإبادة.
فقد أنكرت فورست التي تسوق نفسها كمدافعة عن “العقلانية” الحصار وادّعت أن حركة حماس تستولي على المساعدات، وقدمت تقديرات وهمية تقلل أعداد الضحايا الفلسطينيين إلى “الخُمس أو العُشر”، رغم أن المؤسسات الدولية تؤكد أن الأرقام الرسمية هي أصلاً أقل بكثير من الواقع.

ومع ذلك، واصلت وسائل الإعلام الفرنسية تقديم فورست كـ”خبيرة”، وسمحت لها بإعادة تكرار الأكاذيب نفسها، بما في ذلك فرية “ذبح الأطفال”.

الفلسطينيون مغيبون

ورغم أن المعلومات كانت متاحة، إلا أن وسائل الإعلام الفرنسية اختارت تغييب جوهر الحدث ألا وهو الإبادة نفسها.
فعلى سبيل المثال، لم تنشر صحيفة “لو باريزيان”، وهي إحدى أكثر المؤسسات الصحفية تأثيرًا، أي تغطية عن الضفة الغربية لمدة 11 شهرًا بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وسبتمبر/أيلول 2024، رغم أنها كانت تشهد حملات تهجير واقتلاع منظم.

وخلال ذروة المجازر في سبتمبر/ أيلول 2025، خصصت نشرات الأخبار المسائية على فرانس2 وتي إف1 ، على مدى عشرة أيام، دقائق معدودة لغزة بواقع خمس دقائق على فرانس 2 وثماني على تي إف1، بينما كانت البرامج نفسها تجد الوقت الكافي لتغطية شائعات عن بريجيت ماكرون أو أخبار المشاهير.

هذا التعتيم المتعمّد لم يكن خطأً عارضًا، بل خيارًا تحريريًا منسجمًا بين كل المؤسسات، العامة والخاصة.

حجب الفلسطينيين

وفي لحظة كانت فيها دولة الاحتلال قد فرضت عزلة إعلامية كاملة على غزة لمنع الصحفيين من كشف الحقائق وصولًا إلى استهدافهم المباشر كان الإعلام الفرنسي يكمّل هذه المهمة من باريس عبر إخفاء الشهداء والجرحى والمجازر من سجلّ الوعي العام.

ولا يقتصر الأمر على ما يُحذف من التغطية، بل يشمل أيضًا لغة إعلامية منتقاة تخدم دولة الاحتلال. فقد غابت مصطلحات مثل الاستعمار والفصل العنصري والتطهير العرقي والاحتلال واليهودية المتفوقة بشكل شبه كامل عن إعلام يفترض أنه “حر” و”موضوعي”.

وبدلًا من تسمية الأشياء بأسمائها، استُبدلت الحقائق بمصطلحات مُخففة:

  • التطهير العرقي = “تحرك سكاني”
  • الاستيطان = “توسع استراتيجي”
  • قصف المدارس والمستشفيات = “استهداف مواقع معادية”
  • جيش الاحتلال = “قوات دفاع”

الأكثر غرابة أن دولة الاحتلال صاحبة السجل الأطول في قتل المدنيين لم تُسمّى قط “دولة إرهابية”، بينما كانت هذه التهمة توزع بلا تردد على الفلسطينيين وحدهم.

مفتاح التبرير الجاهز

ومنذ اللحظة الأولى، تبنّت وسائل الإعلام الفرنسية رواية دولة الاحتلال: “كل شيء هو دفاع عن النفس”.
حتى الجرائم التي سبقت حرب 2023 بعقود أصبحت تبرَّر باستدعاء تلك العملية، فالاستيطان؟ سببه “7 أكتوبر”، والتوسع الاستعماري؟ “ردّ على هجوم حماس”، قتل المدنيين؟ “ضرب البنية التحتية للإرهاب”.

نحن بصدد واقع تضليلي قوامه إلغاء التاريخ، وإخفاء الجذور، وحذف 75 عامًا من العنف الاستعماري، وهكذا، يُحوَّل حدث واحد إلى صكّ براءة مفتوح يشرعن كل ما تقوم به دولة الاحتلال منذ 1947 وحتى اليوم.

تواطؤ لغوي وسياسي

لم يكن الانحياز الإعلامي مجرد خللٍ في التوازن، بل كان نهجًا كاملًا يقوم على تفضيل رواية دولة الاحتلال وتمكينها عبر هندسة السرديات، وترتيب الضيوف، وإدارة النقاشات، وحتى توزيع المشاعر والتعاطف.

فقد وثقت هيئات رصد الإعلام الفرنسية مثل أكريميد وأريه سور إيميج وإل إم إس آي وبلاست مئات الوقائع التي تكشف هذا الانحياز، إلى درجة أن خوارزميات غوغل نفسها عجزت عن إيجاد أي وصف إيجابي للتغطية الفرنسية حين سُئلت عن كيفية تناولها لـ”الصراع في غزة”.

فعلى الشاشات، كانت الأصوات المؤيدة لنتنياهو ودولة الاحتلال تحتل أغلبية مطلقة من مساحة التغطية، أما الأصوات الفلسطينية أو المتضامنة مع الفلسطينيين فكانت تُستدعى بطريقة تجعلها محاصرة بين ثلاثة أو أربعة ضيوف موالين للاحتلال بينما يقوم المحاور نفسه بدور “المعارض الرابع”، مقاطعًا ومشكّكًا وموجّهًا الأسئلة في اتجاه واحد. وهكذا لم يكن الصوت الفلسطيني حتى حين يحضر أكثر من ديكور ديمقراطي، يحقق شرط “التوازن” شكليًّا بينما تُفرغ مداخلاته من محتواها.

معايير مزدوجة

ساعد هذا الانحياز البنيوي في تكريس تمييز عنصري إعلامي صارخ بين الضحايا من الجانبين. فقد خصصت قناة فرانس24 ثلاث دقائق ونصف لنقل مباشر حول الإفراج عن 20 إسرائيليًا، بينما خصصت دقيقة واحدة فقط للإفراج عن 90 فلسطينيًا. كما كان الاحتفاء مرئيًا وصاخبًا في الحالة الأولى، بينما كان التناول باهتًا وحرفيًا في الحالة الثانية. أما الفلسطينيون، فقد جرى توصيفهم دومًا على أنهم “سجناء” وليسوا “رهائن”، مع تكرار الإيحاء بأنهم جميعًا “إرهابيون” بلا استثناء، حتى الأطفال الذين وثّقت منظمات حقوقية احتجازهم وإساءة معاملتهم. وفي المقابل، جرى تقديم كل رهينة من دولة الاحتلال بصورة إنسانية كاملة عبر عرض صور وسير ذاتية ومقابلات وتفاصيل عائلية، بينما لم يُمنح الفلسطينيون أي مساحة للوجه أو الاسم أو الحكاية. والنتيجة من ذلك كانت ترسيخ قيمة متفاوتة للحياة الإنسانية، حياة تُحتفى بها، وأخرى تُمحى من الوعي.

حتى خطة ترامب

يتجلى هذا التحيّز أيضًا في كيفية تناول الإعلام الفرنسي لخطة ترامب التي قدّمت أمن دولة الاحتلال كأولوية مطلقة، بينما همّشت أو تجاهلت بالكامل الاحتياجات الأمنية للفلسطينيين، رغم أنهم الضحايا الرئيسيون لإبادة موسعة تواصلت لأكثر من عامين. ذلك أن الخطة تطالب الفلسطينيين بنزع السلاح و”إعادة التأهيل” و”ضمان عدم التطرف”، لكنها لا تطلب من دولة الاحتلا نزع السلاح ولا وقف التطرف الديني ولا وضع حد لجرائم المستوطنين ولا إنهاء الاحتلال والاستيطان، ما يعكس ازدواجية صارخة تماهى معها الإعلام الفرنسي دون أي اعتراض مهني.

اجتزاء السردية

أحد أبرز الأساليب الدعائية تمثلت في “الاختزال إلى حماس”، أي تحويل كل سؤال وجريمة وحدث إلى ملف واحد هو حماس.

اسأل عن الاستيطان؟ الجواب: حماس، اسأل عن القتل الممنهج؟ الجواب: 7 أكتوبر، اسأل عن التطهير العرقي المستمر منذ 1947؟ الجواب: خطر الإرهاب.

هذا الاختزال يجعل التاريخ ينكمش، فتتبخّر 75 سنة من العنف الاستعماري وجرائم التهجير، ويصبح كل شيء مجرد “رد فعل” على حدث واحد هو 7 أكتوبر، وكأن المشروع الصهيوني ولد في ذلك اليوم.

وعلى مدى عامين من التغطيات لم تُطرح أسئلة حول جذور الصراع، لم تُناقش علاقة الحاضر بتاريخ 1947 و1948.
كمارلم تُطرح حقيقة أن قطاع غزة والضفة يعيشان عملية تطهير عرقي مستمرة، لم يُسأل أحد: هل ما يجري حلقة جديدة من مشروع استعماري هدفه التخلص من الفلسطينيين؟

لقد كان النقاش مُصمَّمًا بحيث يُدفن تحت آلاف الساعات من الضجيج، في حين تُحظر الأسئلة الوجودية التي قد تكشف البنية الاستعمارية لدولة الاحتلال.

تحويل الأنظار وصناعة البديل

وبدلًا من تغطية الإبادة، لجأت القنوات الفرنسية إلى التركيز على قضايا “معاداة السامية” في فرنسا، وشيطنة رؤساء بلديات رفعوا علم فلسطين، وتضخيم قصص هامشية لإلهاء الجمهور، وتحويل النقاش من الضحايا إلى “سلوك المتضامنين”. هذا النهج يخلق مشهدًا إعلاميًا مقلوبًا يجعل من الإبادة “مسألة ثانوية”، بينما تصبح أي لافتة مؤيدة لفلسطين قضية دولة. ومن أكثر أساليب التلاعب رواجًا “التناظر المخادع” وهو تقديم الصراع كما لو كان بين قوتين متكافئتين. في هذا الأسلوب استخدمت تعايير من قبيل “ضحايا على الجانبين”، “معاناة متبادلة”، “نزاع بين طرفين مسلحين”.أما في الواقع فنحن إزاء دولة استعمار نووية في مواجهة شعب محاصر أعزل قُتل منه عشرات الآلاف في غضون أشهر.

وهذا التناظر الكاذب يُستخدم لإخفاء اختلال القوة واختلال الأخلاق واختلال الحقيقة.

التعتيم الجغرافي والأسئلة المحظورة

إضافة إلى غزة والضفة، تجاهلت القنوات الفرنسية بشكل شبه كامل الاعتداءات المتكررة لدولة الاحتلال على لبنان وسوريا وحتى إيران. ورغم أن ضرب هذه الدول يشكل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي إلا أن الإعلام الفرنسي تعامل مع هذه الهجمات كأحداث ثانوية لا تستحق التغطية. وعلى امتداد عامين من التغطيات، لم يُطرح سؤالان جوهريان هما:،هل ما حدث في غزة جزء من مشروع تطهير عرقي ممتد منذ 1947؟ وهل يحمل المشروع الصهيوني في جوهره إقصاءً بنيويًا للشعب الفلسطيني؟

كان السؤالان محظورين، لأن طرحهما يهدد الأساس الذي قامت عليه سردية الاحتلال التي تتبنّاها وسائل الإعلام الفرنسية. وهكذا جاءت التغطية الفرنسية “غرقًا صحفيًا”، لكن ليس غرقًا عفويًا، بل غرقًا مبرمجًا وفق خطة الاحتلال، وبما كان ذلك يتماشى تمامًا مع سياسات فرنسا الخارجية منذ عهد نيكولا ساركوزي. فقد كان الإعلام الفرنسي أكثر تطرفًا وتماهٍ مع رواية الاحتلال من كثير من الصحفيين الإسرائيليين أنفسهم، ومن منظمات حقوقية إسرائيلية مثل “بتسيلم”، وحتى من سياسيين إسرائيليين سابقين مثل إيهود أولمرت.

بهذا الشكل، يصبح الإعلام شريكًا مباشرًا في إخفاء الإبادة وإعادة إنتاج الرواية الاستعمارية، بدل أن يكون سلطة رقابية مستقلة.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة