بقلم اليكس ماكدونالد
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
قلة هم أولئك الذين تركوا بصماتهم في التاريخ خلال القرن العشرين كما فعل هنري كيسنجر.
لقد أثارت وفاته يوم الأربعاء عن عمر يناهز الـ 100 عام موجة من ردود الفعل المتوقعة، فبينما أشاد به زعماء العالم والدبلوماسيون باعتباره رجل دولة ومفاوضاً، سلط آخرون كثر الضوء على إرثه الدموي في جميع أنحاء آسيا وأمريكا اللاتينية، حيث خلفت حربه الضروس ضد الشيوعية ملايين القتلى وملايين آخرين ممن قتلوا تحت وطأة حكم الديكتاتوريات الوحشية.
وعندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن إرث كيسنجر لا يقل أهمية.
قد يكون أفضل ما يتذكره الغرب هو دور كيسنجر في مفاوضات كامب ديفيد في أواخر السبعينيات والتي جعلت مصر أول دولة عربية تعترف بإسرائيل، بعدما أفضت إلى اتفاقية استمرت حتى يومنا هذا.
لكن بالنسبة لكثيرين آخرين، كان لكيسنجر دور رئيسي في دعم مجموعة من الحكومات الاستبدادية في المنطقة، وقد لا يغفر له الفلسطينيون أبداً تجاهل احتياجاتهم وحقوقهم أثناء مفاوضات كامب ديفيد.
وفيما يلي نظرة على بعض تصرفات كيسنجر وأفكاره الأساسية بشأن الشرق الأوسط.
اتفاقيات كامب ديفيد
تمثل مشاركة كيسنجر في التفاوض على أول اتفاقية اعتراف بين دولة عربية وإسرائيل بلا ريب الإنجاز الشرق أوسطي الذي سيخلد في الأذهان بسببه.
ففي أعقاب حرب عام 1973 بين إسرائيل وجارتها، أعاد الرئيس المصري أنور السادات تموضع بلاده واقتصادها بعيدًا عن سياسات عدم الانحياز والسياسات الاشتراكية التي انتهجها سلفه جمال عبد الناصر، لصالح نظرة مؤيدة للغرب ولسياسات السوق الحر.
تشمل العناصر الرئيسية لهذه الخطوة الضغط من أجل التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل كان من شأنه إعادة شبه جزيرة سيناء التي احتلتها إسرائيل عام 1967 إلى السيطرة المصرية.
وبعد 12 يوماً من المفاوضات في كامب ديفيد بالولايات المتحدة، تم التوقيع على الاتفاقيات في 17 أيلول / سبتمبر 1978، وتم التقاط صورة حظيت بتغطية إعلامية واسعة لرئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن والسادات وهما يتصافحان، وهي الصورة التي بدت وكأنها تبشر بعصر جديد في المنطقة.
وبطبيعة الحال، لم ينظر الكثيرون إلى الأمر بهذه الطريقة، وهم لا يزالون كذلك، لقد تم تجاهل الفلسطينيين في الغالب في المفاوضات، ولم تحذو أي دولة عربية أخرى حذو مصر حتى التسعينيات.
وفي أعقاب حرب أكتوبر 1973، أخذ كيسنجر يتنقل ذهابًا وإيابًا بين القادة العرب والإسرائيليين لمحاولة صياغة نظام جديد بين الكيانات التي كان يُنظر إليها سابقًا على أنها شديدة العداء فيما أطلق عليه وصف “الجولات المكوكية”.
في الأساس، كان كيسنجر مؤيدًا قويًا لإسرائيل، ورأى أن تأمين الأمن الإسرائيلي هدف أساسي في الشرق الأوسط، وأعلن عام 1977 أن “أمن إسرائيل هو ضرورة أخلاقية لجميع الشعوب الحرة”.
وفي الوقت نفسه، كان لديه في السر أيضًا بعض وجهات النظر المتناقضة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنع انتشار الشيوعية، والتي يمكن القول أنها كانت همه الأول في جميع مجالات الصراع.
وقال خلال لقاء مع الزعماء اليهود في نيويورك عام 1975، قال “إن أفضل دفاع ضد انتشار الشيوعية في العالم العربي هو تقوية الحكومات العربية المعتدلة”.
وتابع: ” من الصعب الزعم بأن إسرائيل القوية تخدم المصالح الأمريكية لأنها تمنع انتشار الشيوعية في العالم العربي، إنها لا تفعل ذلك، بل إن الأنظمة العربية المعتدلة هي التي توفر بقاء إسرائيل، كان هذا تصورنا في أكتوبر من عام 1973.”
لم يوفر دخول مصر إلى المعسكر الموالي للغرب الأمن لإسرائيل فحسب، بل أدى أيضاً إلى كسر علاقات مصر القوية سابقاً مع الاتحاد السوفييتي وفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي.
وفي نفس الاجتماع عام 1975، ذكر كيسنجر أن سياسة الولايات المتحدة كانت تهدف إلى “تعزيز القدرة الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة، وتوطيد الأنظمة العربية الصديقة، وعزل وإضعاف الحركة الفلسطينية”.
استمرت معارضة كيسنجر لحق تقرير المصير للفلسطينيين، فوفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، حث الدبلوماسي الأمريكي عام 1988، الإسرائيليين بشكل خاص على “منع كاميرات التلفزيون والمراسلين من الأراضي المحتلة كجزء من جهودهم لإخماد الاحتجاجات العنيفة” بعد بداية الانتفاضة الأولى.
وقال المسؤول في منظمة التحرير الفلسطينية بسام أبو شريف لاحقًا أن كيسنجر “فعل أكثر من غيره لشيطنة منظمة التحرير الفلسطينية وعرقلة تسوية القضية الفلسطينية”.
تركيا وغزو قبرص
في 15 تموز / يوليو 1974، نفذت الحكومة العسكرية اليونانية انقلابًا في قبرص أطاح بالرئيس المنتخب واستبدله بحاكم دمية، في محاولة لفرض اتحاد بين البلدين.
تواصل العنف الطائفي بين الأتراك واليونانيين القبارصة لبعض الوقت، وبعد خمسة أيام من الانقلاب، غزت تركيا قبرص واستولت على شمال الجزيرة، في محاولة ظاهرية لحماية الأتراك ومنع الاتحاد مع اليونان.
أدى هذا الوضع إلى نزوح عشرات الآلاف من شطري الجزيرة، وقد استمر النزاع إلى يومنا هذا دون تغيير، حيث تحكم شمال قبرص دويلة أعلنت استقلالها ولا تعترف بها سوى تركيا.
وبصفته وزيرًا للخارجية الأمريكية، كان كيسنجر مؤيدًا قويًا لتركيا بشأن هذه القضية، وفي مناقشة مع رئيس الوزراء آنذاك بولنت أجاويد (الذي كان طالباً سابقاً لدى كيسنجر في جامعة هارفارد)، ورد أنه أعطى الضوء الأخضر للغزو التركي.
وقال كيسنجر للرئيس جيرالد فورد بعد أيام قليلة من تولي فورد الرئاسة في أغسطس/آب 1974: “لا يوجد سبب أميركي يمنع الأتراك من الحصول على ثلث قبرص”.
وأضاف: “التكتيكات التركية صحيحة، إنهم يعملون على الاستيلاء على ما يريدون ثم التفاوض من منطلق الاستحواذ”.
ظل كيسنجر حليفًا قويًا لتركيا لعقود من الزمن، حيث أخبر رئيس الوزراء سليمان ديميريل عام 1991 أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، رأى “عالمًا تركيًا كاملًا ينهض من البحر الأدرياتيكي إلى سور الصين العظيم “.
إيران: من حليف رئيسي إلى عدو عنيد
وحتى عام 1979، كان شاه إيران محمد رضا بهلوي أحد حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من التقارير المتكررة عن انتهاكاته لحقوق الإنسان الذي وصفته منظمة العفو الدولية ذات مرة بأنه صاحب “أسوأ سجل من القمع السياسي في العالم”، كان كيسنجر وحلفاؤه يرون الشاه باعتباره دعامة للاستقرار.
في مقال لصحيفة واشنطن بوست عام 1979، بعد الإطاحة بالملك الإيراني في الثورة الإسلامية، قال كيسنجر: ” من خلال تجربتي الخاصة، لم يفشل الشاه أبدًا في الوقوف إلى جانبنا” وأشاد به لعدم انضمامه إلى الحظر النفطي الذي فرضته الدول العربية عام 1973 إبان الحرب مع إسرائيل في ذلك العام.
وكتب كيسنجر: “كان الشاه مصدر مساعدة وتشجيع لقوى الاعتدال في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، فقد استخدم قوته العسكرية لضمان أمن الخليج الفارسي وتثبيط مغامرات المتطرفين”.
ودعا في ذات المقال إلى منح الشاه ملاذاً آمناً في الولايات المتحدة، بعد فراره إليها في أعقاب الثورة.
أما وجهة نظره بشأن جمهورية إيران الإسلامية اللاحقة فكانت أقل تعاطفاً، ففي عام 2014، وصف الجمهورية الإسلامية بأنها “مشكلة أكبر” من تنظيم الدولة الإسلامية، مشيراً إلى أن لديهم خطة “لإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية القديمة، ولكن هذه المرة تحت التسمية الشيعية”.
وحتى الرمق الأخير، ناهض كيسنجر بشدة الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، وفي عام 2022 حذر من أن أي مناقشة للعودة إلى الاتفاق الذي أبطله دونالد ترامب ستكون “خطيرة للغاية”.
“لا يوجد موقف” بشأن الصحراء الغربية
وفي مناقشة مع الحاكم الجزائري هواري بومدين في تشرين الأول / أكتوبر 1974، قال كيسنجر إنه بينما يدعم نظريًا “تقرير المصير” لشعب الصحراء الغربية التي كانت تسيطر عليها إسبانيا آنذاك، فإنه لا يعتقد أن ذلك ممكن.
وقال إن الولايات المتحدة لن يكون لها “موقف” بشأن مصير المنطقة، التي ستتورط في نهاية المطاف في صراع التحرير الوطني المستمر منذ ضم المغرب لها قبل عقود.
وقال كيسنجر لبومدين: “أريد لهذه المنطقة أن تختفي! لا أستطيع أن أتحمس لـ 40 ألف شخص ربما لا يعرفون أنهم يعيشون في الصحراء الإسبانية”.
أيلول الأسود في الأردن
وفي عام 1970، حاولت مجموعات متعددة من المنظمات الفلسطينية اليسارية أن تثور على العاهل الأردني الملك حسين.
أثارت الانتفاضة، التي عُرفت فيما بعد باسم أيلول الأسود، قلق الولايات المتحدة، ليس فقط بشأن التهديد المحتمل لإسرائيل وحليفتها الأردن، ولكن بسبب مشاركة مجموعات متعاطفة مع الاتحاد السوفييتي في الانتفاضة.
تم وضع القوات الجوية والبحرية الأمريكية في حالة تأهب، وتمكن كيسنجر من الضغط على الرئيس ريتشارد نيكسون للتوقيع على خطة للتدخل الإسرائيلي في الأردن، التي لم تكن في ذلك الوقت تعترف بجارتها الغربية، لمنع الإطاحة بنظام الملك حسين سيما بعد توغل القوات السورية في شمال الأردن لدعم الفلسطينيين.
في نهاية المطاف كان التدخل الإسرائيلي محدودًا ، لكن قمع الانتفاضة خلف آلاف القتلى وأجبر المنظمات الفلسطينية المسلحة على الانتقال إلى لبنان، وهو الوضع الذي من كان شأنه أن يساعد في إشعال الحرب الأهلية اللبنانية بعد بضع سنوات فقط.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)