على مد البصر، كان مئات الفلسطينيين يتكدسون وهم يتصببون عرقاً على الرمال الساخنة في انتظار الدور حين دوّى صوت إطلاق النار نحوهم فحنى الجميع رؤوسهم.
وفي وسط الحشد، كانت كومة من الرمال تنتصب فأصابتها الرصاصات لتخلق سحبًا صغيرة من الغبار، أخذ الناس يصرخون على بعضهم البعض طالبين عدم التحرك، واستمر إطلاق النار.
ومنذ بداية حربها على غزة، قيدت دولة الاحتلال كمية المساعدات الإنسانية المسموح بدخولها إلى القطاع كتكتيك ضغط، ظل هدفها المعلن يتمثل في تحقيق نصر عسكري، أما هدفها غير المعلن فهو التطهير العرقي.
فلمدة عامين، حاولت دولة الاحتلال إخفاء صور الأطفال الجائعين المروعة، خوفًا من الضغوط الدولية.
لكنها أخذت تتعامل في الأشهر الأخيرة مع صور المجاعة باعتبارها مجرد مشكلة علاقات عامة يمكن حلها من خلال إنكار صحتها أو إبراز التاريخ الطبي الصعب للجياع.
يبدو هذا السلوك كما لو كان من المشروع بطريقة أو بأخرى تجويع الأطفال حتى الموت إذا كانوا يعانون من مشاكل صحية سابقة.
تعمل القيود المفروضة على الغذاء على أربعة مستويات، أولًا، من خلال خفض المساعدات الإنسانية الداخلة إلى غزة بشكل كبير، ثانيًا، من خلال دعم الميليشيات المسلحة التي تنهب جزءًا من المساعدات وتبيعها بأسعار مرتفعة، مما يتحدى حماس ويقوض حكمها.
ثالثًا، تسعى دولة الاحتلال من خلال القيود على الغذاء إلى تفتيت المجتمع الغزي من الداخل، فهي لم تستهدف الشرطة وموظفي البلدية فحسب، بل استهدفت أيضًا المتطوعين والأطباء والصحفيين.
أما المستوى الرابع وهو محور هذا التقرير فيتمثل في استخدام مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، ذات الاسم المضلل، كغطاء، يسمح للاحتلال بالادعاء بدخول المساعدات إلى القطاع.
عمليًا، مكّنت المؤسسة الاحتلال من استخدام توزيع المساعدات لدفع السكان جنوبًا، ففي الأشهر الأخيرة، أصبحت نقاط التوزيع المتمركزة في الجنوب، بمثابة مصائد موت.
وحتى الآن، استشهد أكثر من 2000 شخص وهم في طريقهم إلى مراكز التوزيع أو بالقرب منها، وجُرح آلاف آخرون.
الفوضى هي جوهر الموضوع
العنصر المتكرر في توزيع المؤسسة للمساعدات الإنسانية هو الفوضى، حيث تُدير هذه المنظمة المدعومة من الولايات المتحدة أربعة مواقع توزيع واحد في وسط غزة وثلاثة في الجنوب.
وتقع هذه المواقع بعيدًا عن التجمعات السكانية، في مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال العسكرية، وتحرسها شركات أمن أمريكية خاصة، ولا تفتح هذه المواقع أبوابها يوميًا، وعندما تُفتح لا تبقى مفتوحة إلا لمدة 20 دقيقة فقط أو أقل في بعض الأحيان.
وتظهر إعلانات مواعيد الافتتاح فقط على صفحة المؤسسة على فيسبوك وأحيانًا قبل ساعات من الافتتاح، بل وقبل دقائق فقط أحياناً، أو حتى بعد الموعد.
يجعل هذا التوقيت الضيق من المستحيل على سكان المناطق البعيدة الوصول إلى مواقع التوزيع في الوقت المحدد.
وعلاوة على ذلك، ومع عدم توفر كهرباء أو إنترنت موثوق، لا يستطيع العديد من السكان الوصول إلى هذه الإعلانات إطلاقًا.
وتنشر مؤسسة غزة الإنسانية مسارات وصول يُفترض أنها آمنة، لكن في الواقع، يتعين على الفلسطينيين الوصول إلى نقاط التوزيع عبر مناطق تسيطر عليها قوات الاحتلال ومناطق حضرية مدمرة لم يبقَ فيها أي معالم.
ولهذه الأسباب فإن عشرات الآلاف من الفلسطينيين يتجمعون مُسبقًا حول المواقع، في انتظار فتحها على أمل أن يكون الوضع أفضل.
أما عملية التوزيع فهي بحد ذاتها مُباحة للجميع، حيث تُوضع صناديق المساعدات داخل النقاط، ويضطر الفلسطينيون إلى الركض لالتقاط ما يُمكنهم التقاطه منها.
ووفقًا لأرقام مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، فبحلول 3 سبتمبر/أيلول، أي بعد ثلاثة أشهر ونصف من بدء العملية، تم توزيع حوالي 152 مليون حصة غذائية.
وبحساب سريع، يُمثل هذا أقل من ربع الحصص الغذائية اللازمة في غزة خلال تلك الفترة.
ويصل جزء من هذه الإمدادات إلى السوق، إذ يبيع الأفراد الدقيق لشراء أغذية صحية أو أكثر تنوعًا، أو يرسل التجار والمستغلون عصابات للاستيلاء على الإمدادات ثم إعادة بيعها بأسعار باهظة.
كما تسود الفوضى إجراءات أمن المواقع، حيث قال حارس من شركة UG Solutions، عُيّن لتأمين المواقع، إن الشركة لم تُجرِ أي فحص لموظفيها، ولم تتحقق حتى من معرفتهم بكيفية استخدام الأسلحة المُقدمة.
وقال موظف آخر في شركة UG Solutions إن الحراس دخلوا غزة بتأشيرات سياحية، رغم أنهم كانوا يحملون أسلحة آلية ومُصرّح لهم باستخدامها ضد المدنيين.
وأكد الحارسان أنهما لم يتلقيا أي تعليمات بشأن قواعد الاشتباك، وعلى الرغم من تواصلهما الوثيق مع المدنيين، لم يُخصص سوى مترجم فوري واحد لكل موقع.
وعندما اقترح أحد الحراس وضع لافتات أو استخدام مكبرات صوت للتواصل مع الفلسطينيين، رُفضت الفكرة لأسباب تتعلق بالميزانية.
الهجمات على طالبي المساعدة
ترسم الشهادات الشفوية، والأدلة المصورة من طالبي المساعدة، وتصريحات موظفي مؤسسة حمد الطبية السابقين، وروايات جنود الاحتلال، وتقارير الأطباء الأجانب العاملين في غزة، الصورة نفسها.
تتحدث كل تلك الشهادات عن إطلاق نار متواصل لردع الناس عن الاقتراب إلى أن يحين الوقت المحدد، يتبعه المزيد من إطلاق النار لإبعادهم بمجرد توزيع الإمدادات.
وأفاد شهود عيان عن استخدام نيران القناصة، والطائرات المسيرة، والدبابات، والمدفعية، والمروحيات، ونيران البحرية، ورذاذ الفلفل.
فهناك يُسحق طالبو المساعدة وسط الحشود، ويختنقون بمزيج قاتل من الغاز المسيل للدموع والحرارة والاكتظاظ، أو يتعرضون للضرب على يد آخرين يائسين لأخذ أي طعام تمكنوا من الإمساك به.
وقد وصف مارك براونر، وهو طبيب أمريكي عمل في مستشفى ناصر في خان يونس، نمطًا من جروح دقيقة ناجمة عن طلقات نارية في الرأس والرقبة والصدر.
وقال طبيب آخر في المستشفى يدعى نيك ماينارد وهو جراح استشاري من المملكة المتحدة، إن هناك أيامًا وصل فيها عشرات الجرحى وقد أصيبوا في تلك المناطق تحديدًا “كما لو كان أحدهم يُجري تدريبًا بالذخيرة الحية”.
وخلص تحقيق أجرته قناة سكاي نيوز، استنادًا إلى بيانات شهر يونيو/حزيران، إلى وجود علاقة بين عدد عمليات توزيع الأغذية وعدد الضحايا، ففي الأيام التي شهدت زيادة في عمليات التوزيع، سقط المزيد من الشهداء والجرحى الفلسطينيين.
ووفقًا لموظف في شركة سيف ريتش سوليوشنز (SRS)، المتعاقدة مع مؤسسة غزة الإنسانية فإن قوات الاحتلال تستخدم مواقع التوزيع لجمع المعلومات الاستخبارية أيضاً.
فقد وُضعت كاميرات، بعضها مزود بأنظمة التعرف على الوجه، في المواقع، وهي تنقل لقطات الفيديو إلى غرفة تحكم داخل حاوية شحن على الجانب الإسرائيلي من معبر كرم أبو سالم، ويعمل بها جنود إسرائيليون ومحللون أمريكيون.
وإذا ظهر شخص مهم على إحدى الكاميرات المخصصة، يظهر اسمه وعمره على شاشة الكمبيوتر مما يشير إلى وجود صلة بين قواعد بيانات المؤسسة وأجهزة أمن الاحتلال حيث يضيف الجنود هذا الشخص إلى قوائم الاستهداف.
ستائر دخان
ومؤسسة غزة الإنسانية تشير إلى شبكة من ستة كيانات مختلفة على الأقل تعمل معًا بشكل غامض، وتعتبر المؤسسة الواجهة العامة، وهي المنظمة التي توزع المساعدات.
ويقودها جوني مور الابن، وهو واعظ إنجيلي مقرب من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، وجون أكري، مسؤول سابق في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وإلى جانبهما، تعاقدت المؤسسة مع شركة SRS، التي يرأسها فيل رايلي، وهو ضابط سابق كبير في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) شارك في تدريب الميليشيات في أمريكا الوسطى، والذي انتقل لاحقًا إلى شركات مرتزقة خاصة.
أما شركة SRS، المسجلة في وايومنغ لدى شركة إدارة أصول أمريكية تعمل كوكيل مسجل لها في الولايات المتحدة، فهي مرتبطة أيضًا بشركة الأمن الأمريكية UG Solutions.
وعلى الرغم من أن UG Solutions لا تقدم معلومات عن الأشخاص الذين يقفون وراءها، إلا أن الصحفي جاك بولسون اكتشف أن إدارتها تعود إلى جيمسون جوفوني، وهو جندي مخضرم في القوات الخاصة الأمريكية.
عمل جوفوني أيضًا في أمريكا الوسطى، ووصف نفسه أمام الكاميرا بأنه “منحط من بوسطن انضم إلى الجيش لإيذاء من يؤذوننا” وقد حُذف الفيديو الذي تحدث به لاحقًا.
أما رئيس فرع SRS في دولة الاحتلال فهو تشارلز أفريكانو، وهو مرتزق أمريكي سابق مرتبط الآن بشركة خاصة أخرى، وهي Quiet Professionals.
كما تعاقدت مؤسسة غزة الانسانية مع شركة Arkel International، وهي شركة أمريكية للخدمات اللوجستية والإنشاءات، توظف رجل الأعمال الإسرائيلي هيزي بتسلئيل، المعروف بمشاريعه الأمنية في أفريقيا.
ولا تمتلك أي من هذه الشركات أو الأفراد خبرة سابقة في توزيع المساعدات أو العمل الإنساني من أي نوع.
وتزعم المؤسسة أن تكاليف تشغيل أعمالها اعتبارًا من أغسطس/آب تبلغ حوالي مليوني دولار يوميًا، على الرغم من أن هذا ربما يكون أقل من الواقع.
فقد وظفت شركة UG Solutions وحدها 314 حارسًا في البداية، برواتب تتراوح بين 1380 دولارًا و1700 دولار يوميًا للحراس و2500 دولار يوميًا للمسعفين.
أما مصادر التمويل فهي أيضاً غامضة عمدًا، ففي حين أصرّ متحدث باسم مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) على أن دولة الاحتلال لا تموّل المؤسسة مباشرةً، وهو ما تؤكده وزارة المالية الإسرائيلية ومكتب رئيس الوزراء، إلا أن تل أبيب خصصت بالفعل 700 مليون شيكل (210 ملايين دولار) للمؤسسة.
وأشارت تقارير مؤخرًا إلى أن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش سيخصص 3 مليارات شيكل (897 مليون دولار) لمؤسسة غزة الإنسانية، منها 1.6 مليار شيكل (478 مليون دولار) نقلت لها بالفعل.
وأعلنت الولايات المتحدة أنها تدرس المساهمة بمبلغ 500 مليون دولار، وتعهدت بتقديم 30 مليون دولار في يونيو/حزيران، لكنها لم تُخصص سوى عُشر هذا المبلغ بحلول أغسطس/آب.
في مواجهة المنظمات الدولية
وقد شهدت الأسابيع الأخيرة حملةً لتلميع سمعة مؤسسة غزة الإنسانية التي تروج لنفسها على أنها قناة آمنة وفعالة تُتيح الوصول المباشر إلى الغذاء والمساعدات، وتناشد المجتمع الدولي التعاون، بينما تتهم منتقديها بالكذب و”مساعدة حماس”.
وتُردد المؤسسة الادعاء القائل بأن الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة القائمة غير فعّالة وغير قادرة على إيصال المساعدات إلى غزة، متجاهلةً العراقيل المتعمدة التي تضعها دولة الاحتلال في طريقها.
وتجادل الولايات المتحدة ودولة الاحتلال بأن مؤسسة غزة الإنسانية بديلٌ عمليٌّ للنظام الإنساني العالمي، وتزعمان أنها تقدم نموذجًا يُحتذى به في مناطق الصراع الأخرى.
غير أن وكالات الإغاثة الدولية أدانت هذا الترتيب ورفضت التعاون مع المؤسسة، في الوقت الذي واصلت فيه دولة الاحتلال والولايات المتحدة الضغط على المؤسسات الدولية لتسليم مساعداتها إلى مؤسسة غزة الإنسانية.
بعبارة أخرى، فإن واشنطن وتل أبيب تطالبان المجتمع الدولي بتمويل إطعام سكان غزة بينما يستمر التطهير العرقي بوتيرة متسارعة في شمال ووسط القطاع الفلسطيني.
داخل الدولة العبرية، تُواجه مؤسسة غزة الإنسانية تآكلًا في شرعيتها، بلغ أدنى مستوياته في يوليو/تموز، عندما اعترفت حتى وسائل الإعلام الرئيسية بأن المؤسسة فشلت وأن مراكز توزيع الغذاء “أحدثت حمام دم يومي قضى على ما تبقى من دعم لإسرائيل في الغرب”.
وقد تسربت الانتقادات لمؤسسة غزة الإنسانية إلى المجتمع المدني في دولة الاحتلال، حيث نأى نادي تيدر الموسيقي بنفسه علنًا عن شاهار سيغال، أحد شركائه والمتحدث الرسمي باسم المؤسسة.
وفي 12 و19 أغسطس/آب، نُظمت احتجاجات أمام الفندق الذي كان يقيم فيه مديرو المؤسسة داخل الدولة العبرية.
كما تتصاعد الانتقادات الدولية لنموذج مؤسسة غزة الإنسانية، ففي أواخر يونيو/حزيران، على سبيل المثال، دعت 15 منظمة المؤسسة والمتعاقدين معها إلى وقف عملياتها، مستشهدةً بانتهاكات القانون الدولي وارتباطها بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية.
وتجادل وكالات الإغاثة بأن المؤسسة ليست منظمة إنسانية على الإطلاق، لأنها لا تلتزم بالحياد والاستقلالية والإنسانية، وهي المبادئ الأساسية للمساعدات الإنسانية.
ومن أهم هذه المبادئ رفض تحويل المساعدات إلى أداة للتهجير القسري للسكان، ولهذا السبب ترفض دولة الاحتلال المطالب الدولية باعتبار تلك المطالب “استسلامًا لحماس”.
ومع ذلك، فإن نموذج مؤسسة غزة الإنسانية في غزة ليس سوى جزء صغير من مشكلة أكبر بكثير تتعلق بتفكك النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
إذ يرى البعض أن نهج مؤسسة غزة الإنسانية نموذجٌ جديرٌ بالمحاكاة، فالمكاسب من المؤسسة كبيرة وتتمثل في مبالغ طائلة تُنقل، وحراس يحصلون على أجورٍ عالية وشركات ورواد أعمال تُمنح لهم العقود ليحصلوا على حصصٍ مجزية.
أما الخاسرون فهم من لا يستطيعون الحصول على طرود الطعام، ومن يُعانون من سوء الحظ ليُطلق عليهم النار في ذهابهم أو عودتهم.
وعلى المدى البعيد، يُسرّع رضوخ حكومات العالم الصامت لهذا الترتيب من انهيار النظام الدولي، ويُلحق الضرر بالفئات الضعيفة الآن وفي المستقبل، ويُلطخ المجتمعات الأكثر ثراءً بوصمة أخلاقية دائمة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)