بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
جاءت زيارة الرئيس دونالد ترامب الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة لتحقيق هدف مزدوج.
الهدف الرئيسي لهذه الزيارة تمثل في جعل “أمريكا أولاً” علامةً تجاريةً عالميةً لا مجرد رؤيةٍ للولايات المتحدة وشعبها، بمعنى أن يتحول شعار “أمريكا أولاً” إلى طموح سياسي واقتصادي لأكبر عددٍ ممكنٍ من الدول الأخرى، وذلك نابع من الاعتقاد الاستثنائي القائل بأنه، بغض النظر عمّا إذا كان في البيت الأبيض جمهوريٌّ أم ديمقراطيٌّ، فإن ما هو خيرٌ للولايات المتحدة هو خيرٌ للعالم.
وبالطبع، سلك ترامب الطريق المختصر باختيار ثلاثٍ من أغنى دول العالم للاستثمار في الاقتصاد الأمريكي.
ومما لا شكّ فيه أن “أمريكا” كعلامةٍ تجاريةٍ عانت على مدار ربع القرن الماضي من فتراتٍ طويلةٍ من الضرر الذي لحق بسمعتها، فقد غذّت حروبها التي لا تنتهي في الشرق الأوسط الفوضى وتدفقات الهجرة غير الشرعية، وأثارت سياساتها العقابية حفيظة الأعداء والحلفاء على حدٍّ سواء، وأدت المخططات المالية غير المنظمة في وول ستريت إلى أزمةٍ ماليةٍ عالميةٍ ذات عواقب وخيمة.
وفي ذات الوقت، خلقت النقاشات حول “الوعي” و”ثقافة الإلغاء” مستوى غير مسبوق من الاستقطاب الداخلي، مما وضع أعدادًا كبيرة من الأمريكيين في مواجهة بعضهم البعض.
ومع استمرار السياسات الاقتصادية في منح امتيازات لأغنى النخب، تتزايد أوجه عدم المساواة والمظالم، بينما ارتفع الدين الوطني بشكل حاد إلى مستوى غير قابل للاستدامة بلغ 36 تريليون دولار.
يمكن للنظام السياسي والاقتصادي الناشئ متعدد الأقطاب والذي تمثله مجموعة بريكس وصعود الصين أن يقدم بديلاً محتملاً للنظام القائم على القواعد والمرتكز على الهيمنة الأمريكية، وفي ظل هذه الخلفية، توجه ترامب إلى الخليج في محاولة لإعادة صياغة صورة بلاده وجعلها أكثر جاذبية بعد أن أثارت خطواته الأولية، بما في ذلك الرسوم الجمركية العشوائية، غضباً واسع النطاق.
وفي خضم ذلك، فإن رسوم ترامب الجمركية تنذر بتعريض حتى أقدس أدوات الولايات المتحدة للخطر والمقصود هنا سندات الخزانة، التي اقترب سعر فائدتها مؤخراً من السقف الخطير البالغ 5%، مما جعل إعادة تمويل ديون البلاد الباهظة أمراً صعباً للغاية.
السلام الأمريكي
وليس ثمة محرمات أمام إعادة صياغة صورة الولايات المتحدة وفقاً لرؤية ترامب، إذ يمكن مناقشة حتى أكثر الامتيازات فخامة وهو الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية، حيث يُشير مستشارو ترامب الاقتصاديون الآن إلى أن هذه المكانة لم تعد ميزة، بل أصبحت عبئاً ينعكس في العجز التجاري الهائل للبلاد.
غير أن هناك شاخصة تحذيرية تقول: واشنطن ليست مستعدة للتخلي عن هذا الامتياز، حتى لو اعتبرته الآن عبئًا، بل إنها تتظاهر بأن بقية دول العالم مُلزمة بتعويضه.
أما الهدف الثاني من زيارة ترامب إلى الخليج فهو إعادة إطلاق مفهوم “السلام الأمريكي” في الشرق الأوسط، الذي حافظ على أهميته الاستراتيجية لفترة طويلة.
إذ تُعدّ المنطقة مركزًا حيويًا للطاقة وطريقًا للتجارة، ويُمكن استغلال عدم استقرارها ضد الحلفاء المُتمردين والخصوم غير المُستجيبين.
وقد يُؤدي تصاعد التوترات إلى إطلاق “سلاح الهجرة”، وهو مصدر إرهاب لأوروبا وحلفاء الولايات المتحدة الإقليميين الهشّين، مثل مصر والأردن، وقد يُفاقم إدراج أو إعادة تصنيف جماعات ما ككيانات “إرهابية” من تفاقم مشكلة روسيا، التي تسكنها أقليات مسلمة.
وفي الوقت نفسه، قد تُؤدي سياسات الطاقة المُستهدفة والمُتزامنة التي تشمل كبار مُنتجي النفط الإقليميين إلى انقسام أوبك+ والضغط على الصين، التي تعتمد بشكل كبير على نفط الخليج.
وعليه، فإن تجديد مفهوم “السلام الأمريكي” في الشرق الأوسط قد يُسهم في مواجهة أو احتواء طرق التجارة الناشئة بين الشرق الأقصى وأوروبا، والتي تُعدّ مبادرة الحزام والطريق الصينية أهم عناصرها.
كانت الرسالة الضمنية التي وجّهها ترامب إلى السعودية ودول الخليج الأخرى: “إما أن تتلاعبوا بأسعار النفط العالمية ضمن أوبك+ وتغامروا بنظام عالمي بديل لا يزال ناشئًا مع الصين، أو أن تتفاوضوا معي على شراكة اقتصادية أكثر ربحية بعشرة أضعاف، الخيار لكم”.
تجاوز تل أبيب
لقد اختارت الرياض والدوحة وأبو ظبي حالياً الخيار الثاني، حيث تنافست على تدليل ترامب بثلاثة تريليونات دولار من الاستثمارات الآجلة.
وتبدو بعض الأرقام صعبة التصديق، مثل الصفقة التي تبلغ قيمتها 1.4 تريليون دولار على مدى عشر سنوات مع الإمارات العربية المتحدة، التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي السنوي حوالي 500 مليار دولار، لكن ما يهم ترامب الآن هو تأثير هذه الإعلانات على الأسواق العالمية والمستثمرين.
فهل يعكس كرم حكام الخليج خيارًا جادًا وحاسمًا، أ م مجرد خطوة باهظة التكلفة لكسب الوقت، من السابق لأوانه الجزم بذلك.
الجانب الآخر المثير للاهتمام في هذه الرحلة هو مكانة دولة الاحتلال في هذه الفسيفساء الإقليمية المتطورة، فقبيل زيارته الخليجية، اتخذ ترامب سلسلة من القرارات التي كانت بلا شك غير سارة لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وفريقه.
لقد تجاوز تل أبيب للتفاوض مباشرة مع حماس، وعقد صفقة منفصلة مع الحوثيين في اليمن لم تحمِ دولة الاحتلال، وعمد إلى إعادة الانخراط في المحادثات النووية مع إيران، وعقد صفقات ضخمة مع المملكة العربية السعودية دون إلزامها بتطبيع العلاقات مع تل أبيب.
يبدو أن ترامب يدرك تدريجيًا أن دولة الاحتلال قد تكون عبئًا عليه أكثر من كونها مصدر قوة في إعادة ترتيبه الإقليمي الشامل
وسواء كان هذا صحيحًا أم لا، والأهم من ذلك، سواء كان ذلك يقتصر على نتنياهو وشركائه في الإبادة الجماعية، أم أنه يخفي منظورًا أخطر بكثير حول دور دولة الاحتلال العام في المنطقة فالزمن مرة أخرى كفيل بالكشف عن ذلك.
ويبدو أن المعيار الذهبي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قد انتهى، فترامب مستعد لكسر أي مخطط أو تقليد أو عرف دبلوماسي، ويتضح ذلك من خلاله اجتماعه الأخير مع الرئيس السوري المؤقت ورفع العقوبات عن دمشق حتى دون تقديم النظام الجديد أي ضمانات بسياسة أكثر شمولًا، واستمرار عمليات القتل الطائفية.
وبينما يركب القادة الأوروبيون قطاراتٍ متجهةً إلى المجهول، يبدو ترامب عازمًا على وضع قواعد جديدة، بالشراكة مع مَن يعتبرهم أكثر “استقرارًا وموثوقية”، مثل حكام الخليج ورئيس تركيا، على أمل أن ينضمّ يومًا ما لاعبون أكبر بكثير، مثل رئيسي الصين وروسيا، إلى خطته الكبرى، القائمة على مفهوم أن الصفقات التجارية قادرة على حلّ أي مشكلة، بالتوفيق، وعلى الجميع بدءاً من نتنياهو أن يُسارعوا إلى ربط أحزمة الأمان.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)