شهد موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من قضية الدولة الفلسطينية تغيرًا ملحوظًا خلال الأسبوع الماضي، في وقت أعلنت فيه ثلاث من دول مجموعة السبع (G7) وهي فرنسا والمملكة المتحدة وكندا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المرتقب في سبتمبر/أيلول.
وعبر منصة X، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول من أعلن عن هذا التوجه بشكل مفاجئ، وعندما سئل ترامب من قِبل أحد الصحفيين عن ذلك رد بلا مبالاة: “لا بأس إن فعل ذلك، هذا قراره، وأنا مع الولايات المتحدة، ولست مع فرنسا”.
بدوره، وبعد ساعات فقط من لقائه بترامب في اسكتلندا، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يوم الإثنين أنه سيعترف بدولة فلسطين في سبتمبر/أيلول، ورد ترامب من على متن طائرة الرئاسة قائلاً: “أنا لست مع هذا التوجه، إذا فعلت ذلك، فأنت في الحقيقة تكافئ حماس”.
وبحلول يوم الأربعاء، انضم رئيس الوزراء الكندي مارك كارني إلى فرنسا وبريطانيا، إذ أكدت الدول الثلاث أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو “المسار الوحيد” لإنهاء الصراع الممتد منذ 77 عامًا بين إسرائيل والفلسطينيين، والحرب المتواصلة على غزة.
ورد ترامب عبر حسابه في منصة “تروث سوشيال” ساخرًا: “واو! كندا أعلنت للتو دعمها لقيام دولة فلسطينية، هذا سيجعل من الصعب علينا عقد صفقة تجارية معهم، أوه، كندا!”، ثم أصدر قرارًا برفع الرسوم الجمركية على المنتجات الكندية من 25% إلى 35%.
وتطرح هذه المواقف تساؤلات حول ما إذا كان ترامب يشعر بالعزلة في ظل اعتراف ما يقرب من 150 دولة، بينها الكثير من الحلفاء للولايات المتحدة، بحق الفلسطينيين في إقامة دولة، أم أن هناك أطرافًا في دائرته المقربة هي من توجه سياسته في هذا الملف؟
يقول غلين كارل، الخبير في الأمن القومي وعميل سابق قضى 25 عامًا في الخدمات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، لموقع ميدل إيست آي: “أعتقد أن ترامب تفاجأ بالأمر في البداية، فتعامل معه بازدراء، إنه يرفض تلقائياً أي مبادرة لا تصدر عنه شخصيًا، أو لا تُظهره كأنه المتحكم الوحيد في المشهد “.
وأضاف كارل: “لكن حين بدأت الأمور تتطور، بدأ ترامب يُدرك أن هذا الملف قد يتسبب له في صداع سياسي، وهنا تدخلت البيروقراطية، بما تبقى لها من تأثير، وتحديدًا وزارة الخارجية، لتقول: هذه قضية شائكة”.
هذا ويقود وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي ماركو روبيو، المعروف بدعمه القوي للاحتلال خلال فترة عضويته في مجلس الشيوخ، الخطاب الرسمي للإدارة الأميركية بشأن المسألة.
وقال روبيو في مقابلة عبر إذاعة “فوكس راديو” يوم الخميس تعليقًا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية: “هذا أمر غير مهم، إنه لا يعني شيئًا، بريطانيا تقول إنه إذا لم توافق إسرائيل على وقف إطلاق النار بحلول سبتمبر، فستعترف بدولة فلسطين”.
وتابع: “لو كنتُ مكان حماس، لقلتُ: دعونا لا نسمح بوقف إطلاق النار، إذا رفضت حماس الموافقة على وقف إطلاق النار، فهذا يضمن اعتراف جميع هذه الدول بدولة فلسطينية في سبتمبر/أيلول”.
انهيار خيار الدولتين؟
ويرى المحللون أن إدارة ترامب في ظل توجهات المؤسسات اليمينية المحيطة به، تقود نحو دفن خيار الدولتين، وهو ما يؤكده المحلل السياسي ومقدم بودكاست Uncharted Territory عبد الحليم عبد الرحمن.
ويقول عبد الرحمن: “علينا أن نقارن بين أول ثلاثة أشهر من إدارة ترامب، وبين الأشهر الخمسة الأخيرة، في البداية، كانت هناك مفاوضات مع الحوثيين، ومحادثات مع الإيرانيين، ونجح مبعوثه ستيف ويتكوف في الضغط على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار”.
“ترامب لم يعد المسيطر الحقيقي على سياسة الشرق الأوسط في إدارته، انظر إلى من حوله، وستفهم من يدير دفة الأمور” – عبد الحليم عبد الرحمن المحلل السياسي ومقدم بودكاست Uncharted Territory
ويشير عبد الرحمن إلى التأثير الكبير لمؤسسة هيريتج فاونديشن، وهي مؤسسة فكرية يمينية إنجيلية نافذة في واشنطن ساهمت في رسم سياسات ترامب خلال ولايتي ترامب.
وكانت المؤسسة قد احتفت في 2018 بتزايد نفوذها في السياسة الخارجية، وهو نفوذ تجلى لاحقًا في استهداف الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين شاركوا في احتجاجات مؤيدة لفلسطين، من خلال الفصل والترحيل والتشهير.
وشارك كل من السفير الأميركي لدى الاحتلال مايك هاكابي، ورئيس مؤسسة غزة للمساعدات الإنسانية المتورطة في فضائح، جوني مور في فعالية نظمتها المؤسسة يوم الخميس في العاصمة الأميركية واشنطن.
في تلك الفعالية، تعهّد المنظمون خلال النقاش الذي استمر 90 دقيقة بدعم ضم الاحتلال للضفة الغربية المحتلة، دون أي ذكر لكلمة فلسطين أو الفلسطينيين، أما مور، فقد أشار إلى الفلسطينيين بعبارة “عرب غزة”.
ويقول عبد الرحمن: “مؤسسة هيريتج تروج لروايتين أساسيتين: الأولى أن الفلسطينيين ليسوا السكان الأصليين، والثانية أن على إدارة ترامب اتخاذ كل خطوة ممكنة لدعم إسرائيل”، فيما يؤكد كارل أن “البيئة الإنجيلية المسيحية التي تنتمي إليها شخصيات مثل هاكابي ومؤسسات مثل هيريتج لا تؤمن أصلاً بوجود شعب فلسطيني”.
جنوح نحو اليمين
وبالنسبة لسياسة “حل الدولتين”، التي تبنتها واشنطن رسميًا منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد عام 1978 ثم اتفاق أوسلو عام 1993، فإنها لا تزال قائمة على الورق فقط، أما فعليًا، فلا توجد أي خطوات حكومية تشير إلى بقائها قيد التنفيذ.
ويقول عبد الرحمن: “لا شك أن سياسة حل الدولتين انتهت تمامًا”، أما كارل، فيؤكد أن السياسة الأميركية باتت الآن “تخدم مصالح اليمين الإسرائيلي فقط”، في ظل تراجع الدعم الشعبي داخل دولة الاحتلال نفسها لحل الدولتين ورفض متزايد للاستيطان في الضفة.
وقبل أسبوع فقط، صوّت كنيست الاحتلال بأغلبية 71 صوتًا مقابل 13 لصالح مشروع غير ملزم يدعو إلى ضم الضفة الغربية المحتلة، حيث أكد كارل أن “إدارة ترامب لم تتخذ أي خطوة باتجاه حل الدولتين، وإدارة بايدن كانت تقليدية، أرادت الحل لكنها لم تضغط على إسرائيل خوفًا من المساس بوجودها”.
وفي تصعيد جديد، فرضت إدارة ترامب، الخميس، عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بدعوى عدم التزامهم “بتعهداتهم” وتقويضهم لـ “فرص السلام”، بحسب الخارجية الأميركية.
ووصف عبد الرحمن القرار بـ “المفارقة الساخرة”، مشيرًا إلى أن “منظمة التحرير جردت نفسها من السلاح منذ 40 عامًا، واعترفت بدولة الاحتلال، واتبعت المنظومة الأمنية التي فرضتها اتفاقات أوسلو، وفعلت كل ما بوسعها لإرضاء واشنطن”.
جهود تشريعية… ومعارضة داخلية
وفي خطوة لافتة، كشف موقع Jewish Insider أن النائب الديمقراطي التقدمي عن كاليفورنيا، رو خانا، بدأ يروج بين زملائه لخطاب يدعو ترامب للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وجاء في نص الخطاب: “على الولايات المتحدة أن تدرك الحاجة الملحّة لمعالجة الصراع القائم منذ عقود، وما سبّبه من مأساة إنسانية مستمرة منذ 22 شهرًا”.
وأضاف: “بما أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تعارض بشدة هذه الخطوة، وتعمل على تقويضها من خلال تسريع حملات الضم في الضفة، والدعوات العلنية من وزرائها لضم معظم أو كل غزة، فإن خطوات ملموسة مطلوبة لتعزيز شرعية الدولة الفلسطينية”.
ورغم غياب التواقيع عن الخطاب حين تم تسريبه، فقد شارك خانا الخبر عبر حسابه في منصة X وكتب: “شخص ما سرّب مبادرتنا لمحاولة إفشالها، هذا أمر مؤسف، لكنها محاولة لن تنجح، فالاعتراف بفلسطين فكرة آن أوانها، والاستجابة من زملائي كانت هائلة، وسنكثف الدعم ونصدر البيان قبل اجتماع الأمم المتحدة”.
لكن عبد الرحمن رجّح أن تُجهض المبادرة مبكرًا، على الأقل حتى يتمكن الجمهوريون من قياس المزاج الشعبي بعد انتخابات منتصف المدة في 2026.
في غضون ذلك، بدأت تساؤلات تُطرح داخل صفوف التيار الجمهوري، لا سيما بين الجيل الجديد من “أميركا أولًا”، بشأن استمرار الدعم غير المشروط للاحتلال، في مؤشر على انقسام داخل قاعدة ترامب السياسية.
ومع ذلك، يؤكد كارل أن اعتراف باقي دول مجموعة السبع بدولة فلسطين لن يكون له أثر كبير ما لم تتحرك واشنطن.
وأضاف: “الواقع هو أن هناك دولتين فقط قادرتين على التأثير الحقيقي في سياسة إسرائيل الخارجية: إسرائيل نفسها، والولايات المتحدة”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)